أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة النساء: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء:78]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة الجمعة: قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَـٰقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، روى هانئ، مولى عثمان بن عفان أنه قال: "كان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتذكر القبر فتبكي، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر، وإن لم ينج منه فما بعده أشد، قال ـ أي عثمان ـ: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما رأيت منظراً قط، إلا والقبر أفظع منه))[1].
أيها المسلمون، إن الإيمان باليوم الآخر هو ركن من أركان الإيمان الستة، هذه الأركان هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء والقدر، ومن المؤسف، بل من المؤلم أن بعض المسلمين يتجاهلون الإيمان باليوم الآخر أو يستخفون به، إنهم يتهربون من الحقيقة الساطعة التي تقول: إن من له بداية، لا بد أن تكون له نهاية.
إن المتجاهلين أو المستخفين يريدون أن ينغمسوا في ملذات الدنيا الزائلة، وأن يعيشوا كما تعيش الأنعام، بل هم أضل، ألم يسمعوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذكر هادم اللذات، الموت))[2].
نعم، أيها المسلمون، إن اليوم الآخر بالنسبة للإنسان يبدأ حين فراق الروح لجسده، أي بالموت، وإن أول مراحل الموت أن يأتي الملكان الموكلان بالموت للمتوفى، فإن كان المسلم صالحاً أثنيا عليه، وقالا له: جزاك الله خيراً، وإن كان غير صالح قالا له: لا جزاك الله خيراً.
وإن المؤمن الصادق لا يجزع من الموت، بل يكون راغباً في لقاء الله عز وجل، ويكون مستعداً للامتحان وللسؤال في القبر ويوم القيامة ويوم الحساب.
أيها المسلم، يا عبد الله، ينبغي حين تحضرك الوفاة أن تكون محسناً الظن بالله سبحانه وتعالى، وأن ينطق لسانك بالشهادتين بشكل مستمر، إلى أن تسلم الروح وأن تتصف بالسكينة والوقار والهدوء لاستقبال الموت، لأن الاستبشار به من علامات لطف الله بك، لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله))، أما الذي يرفض فكرة الموت أو أنه يخاف من أن يموت، فإنه يكون والعياذ بالله يائساً من رحمة الله، من أمثال المتعاطين للمخدرات أو السارقين أو المفسدين، أو أن يكون ـ والعياذ بالله ـ عميلاً أو جاسوساً أو سمساراً، فكيف سيكون عذابهم في القبر، وفي اليوم الآخر، فكن أخي المسلم ـ يا عبد الله ـ مستعداً للقاء الله، وذلك بالاستقامة وإيصال الحقوق إلى أصحابها.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، بحلول عام ميلادي جديد تكثر الإشاعات والتقولات، منها: إن اليوم الآخر قد اقترب بحلول عام الألفين، ومن مزاعمهم بأن يوم القيامة مرتبط بهدم المسجد الأقصى المبارك وبناء الهيكل على أنقاضه، وأن ظهور السيد المسيح عليه السلام قد اقترب موعده كما يتخيلون، وهكذا من أقوال الكنائس الغربية المتصهينة في أمريكا، هذه الأقوال لا أصل لها من الصحة، فإن نزول السيد المسيح عليه السلام من السماء يعد من العلامات الكبرى، ولا يوجد أي دليل على اقتراب العلامات الكبرى لليوم الآخر، أما العلامات الصغرى فقد ظهر معظمها، وهي موجودة في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية، منها انتشار الربا، قطع الأرحام، عقوق الوالدين، التطاول في البنيان، الضجيج في المساجد من الغوغائيين.
ولكن ظهور العلامات الصغرى لا يعني بالضرورة اقتراب موعد يوم القيامة، فموعد اليوم الآخر منوط ومرتبط بالله سبحانه وتعالى وحده، ونقول: بدلاً من أن تشغلوا أوقاتكم بالخوض في ما يتعلق بعلم الله عز وجل، ينبغي عليكم أن تفكروا، كيف ستلاقون الله؟ وكيف تستعدون للموت؟ وعلى أي ديانة ستموتون؟
أيها المسلمون، إن الموت سنة الله في خلقه، والموت كأس، وكل الناس شاربه، فلا تغفلوا عنه، وهو حق على المخلوقات جميعها، لقد شمل الأنبياء والمرسلين، حتى إنه شمل سيد الخلائق محمداً عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فقد روى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اجتمعنا في بيت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدمعت عيناه، فنعى إلينا نفسه، وقال: مرحباً، حياكم الله بالسلام، حفظكم الله، رعاكم الله، جمعكم الله، نصركم الله، وفقكم الله، نفعكم الله، رفعكم الله، سلمكم الله، وأوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، وأستخلفه عليكم، قلنا: يا رسول الله متى أجلك؟ قال: ((قد دنى الأجل، والمنقلب إلى الله، وإلى سدرة المنتهى، وجنة المأوى والفردوس الأعلى))[3].
وحينما قرب الأجل جاء جبريل عليه السلام فقال: يا أحمد، هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، فقال: ((ائذن له، فدخل ملك الموت ووقف بين يديه وقال: إن الله أرسلني إليك، وأمرني أن أطيعك، فإن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها، فقال عليه الصلاة والسلام: وتفعل يا ملك الموت؟ قال: كذلك أمرت أن أطيعك، فقال جبريل: يا أحمد، إن الله اشتاق إليك، فقال: فامض إلى ما أُمرت به يا ملك الموت، فقال جبريل: السلام عليك يا رسول الله، هذا آخر موطني في الأرض، إنما كنت حاجتي من الدنيا))[4].
أيها المسلمون، اليقظة اليقظة في قلوبكم، كي لا تقعوا في المنكرات والموبقات، وهل صحيح أن الذي يؤمن بعذاب القبر يتجرأ على الله، فيسب الدين والرب، وهل الذي يؤمن بلقاء ربه يرتكب الزنا ويتعامل بالربا ويأكل أيام اليتامى ظلماً؟ هل الذي يؤمن بالبعث والنشور يفرط في أرضه وبيته ويسمسر للأعداء ويخون دينه ووطنه؟
إن الموت ـ أيها المسلمون ـ حق، وإن لقاء الله أمر قطعي، لا مجال للشك فيه، جاء في الحديث الشريف: ((لا يلج النار من بكى من خشية الله، حتى يعود اللبن في الضرع))[5] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] رواه الترمذي (2308)، وابن ماجه (4267)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (3442)
[2] رواه الترمذي من حديث أبي هريرة (2307)، والنسائي (11824)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3333).
[3] رواه الطبراني في معجمه الأوسط 4/208،قال الهيثمي: في إسناده ضعفاء منهم اشعث بن طابق قال الأزدي لا يصح حديثه. مجمع الزوائد 9/25.
[4]رواه الطبراني في معجمه الكبير 3/129 قال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه عبدالله بن ميمون القداح وهو ذاهب الحديث. مجمع الزوائد 9/35.
[5] ، رواه من حديث أبي هريرة الترمذي في سننه (1633)، والنسائي (3108)وصححه الألباني، في صحيح الترمذي (1333).
|