أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه ـ رحمكم الله ـ على الدوام، واغتبطوا بما هداكم للإسلام، وازدلِفوا إليه باتِّباع سيّد الأنام، ويا بُشرى لكم عند ذلك بصلاح الأحوال وزكاء القلوب والأعمال وحصول السعادة والفلاح في الحال والمآل.
أيها المسلمون، في خضمّ تنامي اللغَط والتلاسن الكلامي ووَسط زخمٍ هائلٍ مغرضٍ من التحامل الإعلامي وكيلِ الاتهامات جُزافاً وتعالي أصواتِ النّشاز بضجيجٍ مُسِفٍّ محموم وفحيح مستعرٍ مسموم عبر حملاتٍ مغرضة وهجماتٍ موتورة، أخرجت المكنونَ وأظهرت المدفون، ضدَّ الإسلام ورسول الإسلام وأهل الإسلام، في ظلّ هذه الأجواء القائمة يدرك الواعي اللبيب ويوقن الحصيفُ الأريب أن الأمةَ بل العالمَ بأسره بحاجةٍ ماسَّة إلى التعرّف على محاسن هذا الدين الفريدة، والتفهُّم لمزاياه وخصائصه الحميدة، تثبيتاً لأفئدة أهل الإيمان، وإحقاقًا للحق، وتصدِّيًا لهذه الحملات الشّرسة بالحُجج القاطعة والبراهين الساطعة، إسهاماً في التواصل الحضاري وتحقيقِ الأمن والاستقرار العالمي، لتسعدَ الإنسانية قاطبةً بحياة أفضل، وتستشرف آفاقَ مستقبل أمثل، وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى ٱلسَّبِيلَ [الأحزاب:4].
معاشر المسلمين، أرأيتم إلى الشجرة الباسقة عميقةِ الجذور ذاتِ العروق المتعدِّدة والأغصان المتكاثرة، لا تقوى على زعزعتها الرياحُ العاتية والأعاصير الهوجاء، وهي مع ذلك دانيةُ القطوف، دائمةُ الأُكُل والظّلّ، حلوةُ الثمار، نضيدة الطلع، طيِّبة الجنى، إنها ـ يا عباد الله ـ مثلُ الإسلام في محاسنه الجمَّة ومزاياه القمّة، وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم:25]، يقول ابن القيم رحمه الله: "والإخلاص والتوحيد شجرةٌ في القلب، فروعها الأعمال، وثمرها طيبُ الحياة في الدنيا والنعيمُ المقيم في الآخرة".
إخوة العقيدة، وأول ما يستوقف المتأمّلَ في محاسن هذا الدين ذلك الأصلُ المكين والأساس المتين في دوحة الإسلام الفيحاء وروضته الغناء، إنها العقيدة السمحة، عقيدةُ الصفاء والنقاء التي تسمو أن تكونَ مجرّدَ فلسفاتٍ كلامية ونظرياتٍ جدليّة وتعقيدات منطقية، إنها عقيدة تصلُ العالمَ كلَّه بالله الواحدِ الأحد الصمد الذي لا شريك له ولا معبودَ بحقٍّ سواه، هو الأوّل بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، لا يفني ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ [الشورى:11]، برهانُها النقلُ الصحيح والعقل الصريح، تتمشّى مع الطباع السليمة والفطر المستقيمة.
لقد جمعت العقيدةُ الإسلامية خلاصةَ الشرائع السماوية وجملةَ الرسالات الإلهية، شَرَعَ لَكُم مّنَ ٱلِدِينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ [الشورى:13]، وحوت في أصولها ومبادئها ما يتواءَم وحاجةَ الإنسانية ويتواكب ومصلحةَ البشرية في كلّ زمان ومكان، وما يحقِّق مصالحَ العباد في المعاش والمعاد.
جاءت بالإيمان بجميع رسلِ الله عليهم صلوات الله وسلامه، قُولُواْ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، وجمعت الرسالاتِ كلَّها في رسالة محمد ، أخرج الشيخان من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنةَ على ما كان من العمل)).
فأيُّ عقيدةٍ أحقُّ وأحكم وأرحب وأقوم من هذه العقيدة التي تسلِّم الإنسانيةَ كلَّها إلى مصير واحد وإله واحد ورسالة خاتمة؟! قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً [آل عمران:64]. ولذا فإنَّ من كان نيِّرَ البصيرةِ مستقيمَ الفكر والنظر منصفَ الرؤى أدرك أنّه الحقّ واليقين لما فيه من جميل المحاسن وجليل الفضائل.
إخوة الإيمان، ومنهلٌ آخرُ عذب تظهر فيه محاسنُ دنينا بجلاء، ذلكم هو ما اشتمل عليه من عبادات سامية، تطهّر النفوس، وتزكّي القلوب، وتهذّب السلوك، إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، وغير ذلك من العبادات، وهي مع ذلك في مقدور المكلَّف وحسب طاقته، لذلك يؤدّيها أهلُ الإيمان بنيةٍ خالصة وعزيمة صادقة، وتتشوّف إليها نفوسُهم حفيَّةً بها مشتاقةً إليها.
معاشرَ الأحبة، ولم يقف الأمرُ في محاسن هذا الدين عند هذا الحدّ، بل تعدّاه إلى ميدان الحياة العملية، إذ هو ليس في عزلةٍ عن معترك الحياة وعن صور التعامل فيها بين بني البشر، بل هو الموجِّه لها بما يدفع إلى الغايات النبيلة والمقاصد الكريمة. وهذا يؤكّد أن الإسلام في محاسنه نظامٌ كامل يشمل الدينَ والدنيا معاً، في تناسقٍ بديع وبناء محكَم، نظَّم ما يقع بين الناس من ضروب تبادل المنافع وصورِ التعامل من بيعٍ وشراء وإجارة وغيرها من العقود، وحثّ على العمل وشجّع عليه، وجعله ضرباً من ضروب العبادة يُؤجر صاحبها عليه، فيا لله أيُّ نظامٍ في محاسنه وفضائله أعظم من هذا؟! وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
معشر الإخوة الفضلاء، وثمةَ جانبٌ مهمّ تجلّت فيه محاسنُ ديننا بأبهى صورها وأسمى معانيها، ذلكم هو الجانب الأخلاقي، فقد ربَّى الإسلام أتباعَه على خير السجايا وأحسن وأكرم الخصال وأنبل الشمائل والخلال، حيث ينشُد الإسلامُ إقامةَ المجتمع المسلم المتماسك، والكيانَ العالمي الشامخ الذي تُرفرف على جنباته راياتُ المحبّة والوئام وأعلامُ المودّة والإيثار والسلام، وتربِط بين أبنائه وشائج الحبّ المتبادَل وأواصرُ الودّ المشترك والتعاون المشاع، يرسِّخ مبادئَ الحق والعدل والمساواة، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ [الحجرات:12]، وينهى عن الظلم والتسلّط والبغي والعدوان والفساد في الأرض: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا [الأعراف:56]. كفل حقوقَ الإنسان بجدارة، وضمن له الحرية الشرعية، وصانه عن الانفلات والحياة البهيمية، وقصد إلى حفظ دينه ونفسه وعقله وماله وعرضه، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـٰهُمْ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَـٰهُمْ مّنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
وهكذا ـ عباد الله ـ في مجال القضايا الاجتماعية أو ما يُعرف بالأحوال الشخصية، وقضايا المرأة والأسرة، وقل مثلَ ذلك في الحدود والجنايات، بل تعدّى ذلك إلى الجماد والحيوان والبيئة والنبات، حيث تبرز في ذلك كلِّه محاسنُ هذا الدين، ورعايته للمصالح، ودرؤه للمفاسد، والتزامُه بالقيم والفضائل، وردعُه للشرور والرذائل، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً [النساء:82].
أمة الإسلام، ومِشعلٌ أخير أَلِقٌ لألاء، يُشعّ النورَ والضياء في بيان محاسن هذا الدين، ذلكم هو ما اشتمل عليه من مقاصدَ عظمى وقواعدَ كبرى، كان لها أثر بالغ في شموله وعمومه وخلوده وصلاحيته لكلّ زمان ومكان. فمن كبريات قواعده اليُسر ورفعُ الحرج، يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ [البقرة:185]، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وذلك أوضح سماتٍ شريعتنا الغراء، بل وجهُها المشرق الذي يتألّق بهاءً وجمالاً وعظمة وجلالاً، في اعتدالٍ وتوسّط يعبّر عن ميزة فريدة تجمَع المحاسنَ والفضائل جمّةً، وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]. فلا غلوّ ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، وكلا المسلكين طارئ على المنهج الشرعيّ الصحيح المتميِّز بالتوسّط والاعتدال، يقول ابن القيم رحمه الله: "فكلّ مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجَور وعن الرحمة إلى ضدِّها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، فالشريعة عدلُ الله بين عباده، ورحمتُه بين خلقه، وظلّه في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله ... إلى قوله رحمه الله: وهي العصمة للناس وقوامُ العالم وقُطب الصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة".
وفي الجملة ـ يا عباد الله ـ فدين الإسلام يحوي خيرَي الدنيا والآخرة ونعيمَ العاجلة والآجلة، فما من خيرٍ وفضيلة إلا حثّ عليها، وما من شرّ ورذيلة وفسادٍ وجريمة إلا حذّر منها، فمن تمسّك به عاش سعيداً ومات حميداً، ومن أعرض عنه عاش عصيًّا ومات شقيا.
تلك ـ يا رعاكم الله ـ إضاءةٌ من محاسن هذا الدين الغامرة، وشُعاعة من إشعاعاتِه الفياضة المتدفّقة، تُقدَّم للعالم اليومَ في وقتٍ هو أحوج ما يكون إليها، وللإنسانية الحائرة في منعطفٍ تأريخيّ خطير ومرحلة من أشدّ مراحل تأريخها المعاصر، لعلها تُسهم في تفتُّح الأبصار والبصائر إلى هذا الدين القويم الذي نوقن أنه صمامُ الأمان ومركب النجاة للحيارى والتائهين الذين يتخبَّطون في دياجير الشكّ والظلمات ودهاليز النُّظم والشعارات. وما يحمل الغيورَ على التذكير بهذا الموضوع إلا حبُّ الخير للإنسانية جميعاً، فلقد منّ الله علينا فهدانا لهذا الدين، وتذَوّقنا حلاوةَ محاسنه، ونرى أنَّ من العقوق للإنسانية الحيرَى والتقصيرِ في الدعوة إلى الحقّ أن لا ندلّ من ضلّ الطريق إليه، لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ [الأنفال:42].
وبعد: فيا أيها الناس، هذا هو ديننا، وهذا ما يتميّز به إسلامنا، فلماذا الحملات عليه؟ وإلى متى الهجوم عليه؟ ولمصلحة من يستمرّ التطاول عليه؟
بيدَ أنَّ ثمَّة ملحظاً مهمّاً، ينبغي على المنصفين العقلاء الشرفاء الحكماء أن يتبصَّروه، وهو أن تقصيرَ بعض المسلمين في الالتزام بهذه المحاسن والفضائل ليس عيباً في الإسلام نفسه، فمن المسلَّمات أن خطأ أيِّ شخصٍ في تطبيق نظامٍ ما ليس عيباً في النظام نفسه، فخطأ القاضي مثلاً ليس قدحاً في الشرع ذاته، وتجاوزُ الطبيب ليس عيباً في مهنة الطب، وهكذا دواليك، وليس يُعاب الدين من جهل مسلمٍ.
وإذا قامت الحجةُ واتَّضحت المحجة فقد حصل الإعذار، وليس يفيد الأعمى قوّةُ الأنوار، فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰتٍ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].
وما علينا إذا سلكنا الرّشادا أصدوداً لقينا أو عناداً
وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ [النور:40].
فاللهَ الله ـ عباد الله ـ في التمسّك بدينكم والثباتِ عليه، لا سيما في عصر الفتن وغربة الإسلام، وفي زمن التحدِّيات الجسام والأخطار العظام، وحذارِ من استفزازات المرجفين وإثارات حملات الموتورين، فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ [الروم:60].
ألا فاتقوا الله عباد الله، واجعلوا من أنفسكم صوَراً مشرقة ومرايا صادقة تعكس محاسنَ هذا الدين وجمالياته، وتُترجم للعالَم بصورةٍ عملية مزايا هذا الدين وإشراقاتِه وفضائلَه وأخلاقياته، والدعوة موجّهةٌ إلى علماء الشريعة ورجال الدعوة والإصلاح ووسائل الإعلام لإبراز هذه المحاسن وترجمتها إلى واقعٍ عملي وسلوك تطبيقي، وهذا خير علاج وأنجع دواء تتصدّى الأمة من خلاله لمواجهة الحملات المغرضة ضدّ دينها وعقيدتها وبلادها، وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ [التوبة:32].
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه رؤوف رحيم.
|