أما بعد: فاتقوا الله ربكم حق تقواه، واعلموا أن من اتقى ربه كفاه وآواه، ومن كل مكروه حماه، وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2، 3]، عباد الله، لا يلام الإنسان إن هو سعى بكل طاقته في تحصيل ما ينفعه ودفع ما يضره في بدنه وماله وأهله وأولاده، فمن سمع بمرض معد تحصن منه وأخذ أهبته، ومن صال عليه معتد يريد نفسه أو عرضه أو ماله حمي أنفه وثارت غيرته واستبسل في الذود عن حماه، ومن رأى خطراً أمامه تجنبه وحاد عنه.
أيها الأحبة، لو كان أحدنا في منزله وسمع صوت معدات تشرع في هدم منزله، ورأى شخصاً مغرضاً يقوم بذلك، أيدعه يصنع ما يشاء أم أنه سيمنعه قدر استطاعته ؟ وسؤال آخر: لو كان هناك عمارة كبيرة مكونة من عدة أدوار، وأراد ساكن الدور الأرضي من هذه العمارة أن يوسع مكان نزوله فشرع في هدم وإزالة الأعمدة ونقض الجدران من حوله ليتسع منزله ولم يأبه بحق ساكني العمارة من فوقه، ولم يبال بحياتهم، ولم يكن عنده مانع من أن تسقط العمارة بكاملها ما دام أنه مستفيد بتوسعة منزله، هل سيدعه الساكنون يفعل ما بدا له أم أنهم سيحولون بينه وبين ما عزم عليه، ولو تركوه وما نوى لهلكوا جميعاً تحت أنقاض العمارة بدءً بصاحب الدور الأرضي الذي ارتكب هذه الحماقة.
وصورة أخرى ومثل جميل ضربه النبي لأمته حين أشار إلى ركاب سفينة تمخر بهم عباب البحر وسط هدير الأمواج وصفق الماء، وركاب السفينة كثر، بعضهم في أعلى السفينة وبعضهم الآخر في أسفلها، والذين في أسفلها إذا احتاجوا إلى الماء مروا بمن فوقهم فأزعجوهم وأشغلوهم وأحرجوا معهم، فأراد أحد الذين في أسفل السفينة أن يريح نفسه من هذا العناء فعزم على إحداث خرق في أسفل السفينة حتى يصل إلى الماء كلما أراده دون إيذاء من فوقه، فشرع في هذا الخرق انطلاقاً من حريته الشخصية وأنه لا أحد يمنعه مما أراد، فما موقف الباقين من ركاب السفينة؟
إن العاقل يعلم أنهم لو تركوه يعمل ما يشاء ولم يمنعوه من إحداث الخرق لغرقت السفينة بكاملها وبجميع ركابها. استمعوا إلى الحبيب وهو يضرب المثل للمجتمع المسلم بتلك السفينة.
أخرج البخاري من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي أنه قال (( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)) وفي لفظ آخر قال النبي : ((مثل المدهن في حدود الله ـ والمدهن هو المحابي الذي يضيع الحقوق ولا يغير المنكر ـ والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه، فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم)).
إن نبي الله يضرب لأمته هذا المثل حين يشبههم بركاب السفينة، فهذه سفينة النجاة تبحر وسط أمواج الفتن والشبهات والشهوات، وكلما كانت السفينة سليمة، وركابها عقلاء، يمنع عاقلهم سفه سفيههم، كانت حرية بالسلامة والنجاة، ولكن الخوف إنما يأتي من قبل أناس قلَّت عقولهم وهانت عليهم سلامة مجتمعهم وغلبوا أهواءهم وحكموا شهواتهم فتنادوا إلى الوقوع في المحرمات والولوغ في المعاصي والسيئات، ودافعوا عن أمثالهم ممن رتع في الموبقات، أو تساهل في أداء الواجبات، فهؤلاء هم الذين يخرقون سفينة المجتمع بمعاول شهواتهم ما لم تردعهم البقية الباقية من المجتمع.
وإن أمضى سلاح يصان به المجتمع المسلم وتحفظ به كرامته، أداء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبه تصان الأعراض، ويحتاط للدين، وبه يأمن المسلم على عرضه، وهو الضمانة بإذن الله تعالى للمجتمع من أن يقع به ما وقع للأمم السابقة ولأمم ومجتمعات لاحقة ممن أشاع المنكر واستهان بالواجب الشرعي، فإن المجتمع المسلم إذا فشا فيه المنكر ولم ينكر ولم يتصد له الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر فإنه يفقد أماناً كان بيده، وتزول عنه ضمانة كان يحملها مهما كان موقعه وزمانه، يؤكد هذا ما قاله النبي الكريم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي دخل عليها فزعاً يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ـ وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها ـ، فقالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)). إذا كثر الخبث وعم، فلا منكر ينكر، ولا معروف يؤمر به، وترك الحبل على غاربه، وانطلق كل مفتون ينفس عن مكبوت شهواته بلا حياء ولا خوف، فهنالك تأتي السنة الربانية التي تستوجب العقوبة والهلاك للمجتمع الذي يفشو فيه المنكر.
إن قوماً سبقونا جاءتهم اللعنة على لسان نبيين من أنبياء الله تعالى، لما أن صارت حالهم إلى تلك الحال، بل إنهم أنكروا المنكر في أول أمره، ولكنهم ألفوه فيما بعد، فما عاد بعضهم ينكره على بعض، أخرج الترمذي ـ وحسنه ـ وأبو داود من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي قال: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض))، ثم قرأ قول الله تعالى: لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرٰءيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـٰهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَىٰ كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى ٱلْعَذَابِ هُمْ خَـٰلِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـٰكِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ [المائدة:78-81]، ثم قال ثم قال: ((كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطُرُنّه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم)).
إذا عُطّلت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرم المجتمع من إجابة الدعاء، وفتح أبواب السماء له، كما جاء عند أحمد والترمذي من حديث حذيفة أن النبي قال: ((لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)). فيا لله، أي حرمان يعيش فيه ذلك المجتمع، وأي شيء يبقى له حين تحجب عنه أبواب الإجابة، دخل رسول الله ذات يوم على عائشة رضي الله عنها وقد تغير وجهه، فعرفت عائشة أنه قد حضره أمر قد أهمه، قالت: فقام رسول الله فتوضأ ولم يكلم أحداً حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((أيها الناس، إن الله يقول مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم)) فما زاد عليهن حتى نزل. [أخرجه ابن ماجه].
فيالله العجب، أوَ حقاً يدعو الناس فلا يستجيب الله لهم، وهو القائل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ [البقرة:186]، نعم، إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!؟ إنها ورب الكعبة حقيقة ترتجف لها النفوس فرقاً، ويقشعر الوجدان منها رعباً. ماذا يبقى للناس إذن؟؟ ماذا يبقى لهم إذا أوصدت من دونهم رحمات الله؟ ولمن يلجئون وقد أوصد الباب الأكبر الذي توصد بعده جميع الأبواب، فهل كتب الله ذلك الأمر المهول على عباده المسلمين؟ نعم، حين يكفون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو بأضعف الإيمان.. حين يتكاسل الناس عن هذا الواجب المقدس، وحينما يتواكلون، فالشر يغري ويهيج، والمنكر يعلن ويذاع به ويدافع عنه.
وقد جرت سنة الله بذلك، فالمـتأمل في التاريخ يجد أن أي أمة تراخت وأهملت، وتركت الباطل يسيطر على شؤون الناس فلم تغير عليه، وتركت الحق يذوي ويستذل، فلم تنصره فهي الأمة الفاشلة، وهي الأمة التي حل بها الدمار. قال : ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، فتدعونه فلا يستجيب لكم)) أخرجه الترمذي وحسنه.
ومن الذي يأمن مكر الله أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ [النحل:44، 45].
إذاً، فالنجاة من ذلك بفضل الله تعالى أولاً ثم بتحقيق تلك الشعيرة، وكما قال سبحانه: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْفَسَادِ فِى ٱلأرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116، 117].
اللهم إنا نسألك لطفك ورحمتك، اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك، ربنا لا تؤاخذنا بما فعلنا ولا بما فعل السفهاء منا واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا.
|