عباد الله، ما ظنكم برجل حافي القدمين عاري الرأس، وفي منتصف الظهيرة في مثل هذه الأيام الحارة والشمس اللاهبة ترسل سهامها فوق رأسه والعرق يتصبب من جبينه ومن جميع جسده، يكاد حر الشمس أن يشوي وجهه، يشعر وكأنه في مرجل يغلي، ولفحات السموم تصفعه بلذعاتها، أي شعور يحمله هذا الرجل؟ أهو مستريح مطمئن البال أم هو منشغل بنفسه منزعج من حاله يبحث عن المخرج من هذه الحال؟
أيها المؤمنون، لئن كان قدرنا ونصيبنا أن ننال من حر الشمس الكثير، فديارنا حارة وشمسنا قوية في الصيف، يعد الناس عدتهم للهروب من شمسها وسمومها، ينشدون الراحة والجو المعتدل، فإننا لن نعدم فوائد نستفيدها ووقفات تأمل واعتبار في عجيب صنع الله الذي أتقن كل شيء وكل شيء عنده بمقدار، وقد أخبرنا ربنا أن من صنيع أولي الألباب والعقول الوافرة التفكر في خلق الله والتأمل في آيات الله الكونية إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لاَيَـٰتٍ لاِوْلِى ٱلاْلْبَـٰبِ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190، 191].
الوقفة الأولى: أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم، واشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير))، فإذا كان هذا الحر الشديد والشمس المحرقة إنما هي نفس من أنفاس جهنم فيا ترى ما عذابها إذاً؟.
رأى عمر بن عبد العزيز قوماً في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل وتوقوا الغبار، فبكى وأنشد:
من كان حين تصيب الشمس جبهته أو الغبار يخاف الشيـن والشعثا
ويألف الظـــل كي يبقى بشاشته فسوف يسكن يومـا راغما جدثا
في ظــــل مقفرة غبراء مظلمة يطيل تحت الثرى في غمها اللبثا
تجهزي بجهاز تبلغين به يا نفــس قبــل الــردى لم تخلقي عبثا
وهل تذكر العاصي لربه تلك النار التي توقد وتغلي بأهلها حين أقدم على معصية الجبار سبحانه مستهيناً بمولاه وجاحداً لنعمته عليه، ومتناسياً ما أعد من العذاب والنكال للعصاة.
وقال أحدهم:
نسيت لظى عند ارتكابك للهوى وأنت توقى حر شمس الهـواجر
كأنك لم تدفن حميما ولم تكـن له في سياق الموت يوما بحاضر
الوقفة الثانية: هل استشعرنا عظيم نعمة الله علينا حين يسر لنا من وسائل التبريد والتكييف ما تطمئن به النفوس ونتقي بها أذى الشمس وسمومها، فشكرنا ربنا على ذلك وتركنا الإسراف في استعمال هذه الأجهزة؟
الثالثة: إن كنا نستطيع اتقاء الحر والشمس في هذه الدنيا بما أتاح الله لنا من الوسائل والأجهزة، ويمكننا السفر إلى بلاد الاصطياف الباردة المنعشة اليوم، فسيأتي يوم شديد الحر عظيم الكرب، أخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم)). وأخرج البخاري أيضاً عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم عليه السلام، فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات ـ فذكرهن أبو حيان في الحديث ـ نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى ابن مريم.
فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبيا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله قط ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمدا فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟
فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، أمتي يا رب. فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحميَر أو كما بين مكة وبصرى)).
هل أعددنا لذلك اليوم عدته يا عباد الله، يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2]، وعند مسلم عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله يقول: ((تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً)) قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه.
الرابعة: هل الحر عائق عن طاعة الله، أم أن الصفوة من عباد الله يرون أن في الحر غنيمة لا تفوت؟ هذا معاذ بن جبل حين حضرته الوفاة لم يتأسف على مال ولا ولد، ولم يبك على فراق نعيم الدنيا، ولكنه تأسف على قيام الليل ومزاحمة العلماء بالركب وعلى ظمأ الهواجر بالصيام في أيام الحر الشديد، خرج ابن عمر في سفر معه أصحابه فوضعوا سفرة لهم فمر بهم راع فدعوه إلى أن يأكل معهم فقال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم، فقال أبادر أيامي هذه الخالية.
ويقول أبو الدرداء موصياً أحبابه: صوموا يوماً شديداً حره لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور.
وحين خرج النبي إلى غزوة تبوك وكانت في حر شديد تواصى المنافقون فيما بينهم بعدم النفير في هذا الحر فجاء الوعيد من الله وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى ٱلْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81]، وحين يخرج المصلي إلى صلاة الظهر أو العصر فيرى الشمس اللاهبة ويحس بالحر اللافح، ولكنه يطمع في رحمة رب العالمين ويدخر هذا المخرج عند الله في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
الخامسة: ابن آدم ملول، قد وصفه ربه بأنه ظلوم جهول، ومن جهله عدم الرضا عن حاله، وفي ذلك يقول الناظم:
يتمنى المرء في الصيف الشتاء فإذا جاء الشتاء أنكــره
فهو لا يرضى بحال واحــد قتل الإنسان ما أكفــره
وهذا من طبع البشر ولكن المسلم يرضى بما قدر الله من خير أو شر، أخرج مسلم عن صهيب قال: قال رسول الله : ((عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)). ولن يعدم المؤمن أحد هذين الخيرين بشرط الرضا والشكر والصبر، ومن حرم الصبر على ما قدر الله فهو المحروم.
السادسة: هذه الشمس بضخامتها ولهبها المحرق تسجد بين يدي ربها مطيعة مذعنة كما ثبت في الحديث الصحيح، فقد أخرج البخاري أن النبي قال لأبي ذر حين غربت الشمس: ((أتدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: وَٱلشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ [يس:38])).
فعلام يتكبر بعض بني آدم عن السجود لربهم طاعة له وامتثالاً قبل أن يحال بينهم وبين السجود يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَـٰشِعَةً أَبْصَـٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَـٰلِمُونَ [القلم:42، 43].
والحمد لله رب العالمين.
|