وبعد:
هاهم الطلاب والمدرسون قد ألقوا عن عاتقهم عبء الدراسة، وثقل المذاكرة وهموم التصحيح وقيل لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء!
وإزاء هذا الفراغ الحادث، والإجازة الطويلة يظهر العديد من الأفكار، وتتفلت من الألسنة مقالات شتى تنِمُّ عما في النفس.
أحدهم يقول: في الصيف سوف أثأر من النوم سأنام أكثر من عشر ساعات يومياً.
ويقول الثاني: في الصيف سوف أتفرغ لمتابعة القنوات الفضائية، فأنا لم أتمكن من ذلك وقت الدراسة.
ويوضح الثالث بأنه في الصيف سوف يسافر إلى الخارج، ليتمتع بالمناظر الجميلة والجو الساحر، ويطلق لنفسه العنان.
ويقول الرابع والخامس والسادس ما يشبه هذا الكلام أو ما يكون قريباً منه!
إن هذه الأنماط من التفكير تشعرنا بخطورة قضية الصيف والإجازة الصيفية.
وتشعرنا بأن علينا أن نسرع بدراسة واقعنا الاجتماعي وتأمله والبحث عن مواطن الخلل لإصلاحها قبل أن يطغى السيل ويتسع الخرق على الراقع فلا نتمكن من فعل شيء. وحينها نعض أصابع الندم ولات حين مندم.
كان من المقدر أن يكون الصيف بإجازته مدرسة من وراء المدرسة، وعاملاً تربوياً مهماً لنا ولأبنائنا ولإخواننا، ولكننا ـ وللأسف ـ نشاهد أن تحول إلى معول هدم لكل ما بني طوال العام، فلم يا ترى؟
إنها جملة من الآفات التي نستطيع أن نسميها آفات الصيف!!
ومنشأ هذه الآفات كلها الفهم الخاطئ للصيف وإجازته، فنحن نسميها الإجازة الصيفية أو العطلة الصيفية! والإجازة مأخوذة من قولهم: أجاز له ذلك أي سوغه، وأجاز له البيع أي أمضاه، وأجاز الموضع أي سلكه وخلفه وراءه. [التاج:8/35].
والعطَل في اللغة كما قال الصاغاني: "فقدان الزينة والشغل، والأعطال من الرجال الذين لا سلاح معهم، والتعطيل: التفريغ والإخلاء وترك الشيء ضياعاً، وإبل معطلة لا راعي لها، وتعطل الرجل بقي بلا عمل.. ويقال للدلو التي انقطع حبلها فلم يعد يستقى بها: العطِلة". [تاج العروس:15/498].
وهكذا تسرب هذان المعنيان اللغويان إلى واقعنا، أو قل استدعيناهما نحن إلى واقعنا، فصار معنى الصيف عندنا وصار مفهومه عند الكثيرين هو: تسويغ ضياع الأوقات، وإمضاؤها في غير نفع، وتخليف جلائل الأعمال وراءنا، والفراغ من الشغل، وترك المهمات ضياعاً، وإهمال الراعي (ولي الأمر) لرعاياه من الأبناء.
نعم، ترى الأب حريصاً على ابنه في زمن الدراسة، يحاول أن يقنن أوقات لعبه، وأن يصرفه إلى الدرس والجد، فإذا جاء الصيف ترك له الحبل على الغارب يفعل ما يشاء، ويأتي ما أراد!! بل ربما قال له مشجعاً على الدراسة: ادرس الآن، وإذا جاءت الإجازة فافعل ما تشاء!!
وهكذا نعمق هذا المفهوم الخطير للإجازة لدى أبنائنا ومن نعول! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عجيب أمرنا أيها الإخوة، أليس المسلم محاسباً على كل نفَس من أنفاسه؟ أليس هو مسؤولاً عن كل دقيقة من دقائق عمره، مجزياً عن كل لحظة من لحظات يومه؟
أليس ما ألقي علينا من مهمات جسام لا تكاد تسعها أوقاتنا؟ فكيف نتصور أن يأتينا وقت نكون فيه فارغين لا شغل لدينا؟
أما قال الله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ وَإِلَىٰ رَبّكَ فَٱرْغَبْ [الشرح:7، 8]، ولقد مر ابن عقيل رحمه الله يوماً على صبيان أمضوا عامة يومهم في اللعب فقال: ما هذا؟ فقالوا: فرغنا! فقال: أو بهذا أمر الفارغ؟ أين أنتم من قوله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ وَإِلَىٰ رَبّكَ فَٱرْغَبْ؟
وكيف يسوغ في عقل أن يكون لدى الإنسان المسـلم وقــت (معطـل) ووقته هو مادة حياته؟ قال ابن القيم رحمه الله: "وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة وهو يمر مر السحاب، فما كان من وقته لله و بالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوباً من حياته وإن عاش فيه عيش البهائم، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة فموت هذا خير له من حياته" [سوانح:27].
ولقد كان أسلافنا على النقيض منا، كانوا يستشعرون ضيق الزمن وأن ما قدر لهم من سنين في هذه الحياة لا يكفي للقيام بما ندبوا له من واجبات، لذا كانوا حريصين على كل ساعة بل على كل دقيقة بل على كل لحظة و نفس، وهاهو الإمام ابن عقيل يقول: "وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي حتى أختار سفّ الكعك وتحسيه بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من تفاوت في المضغ، توفراً على مطالعة أو تسطير فائدة لم أدركها"!!
ولله در أولئك من رجال..
هكذا إذا أيها الإخوة يكون الفهم الخاطئ للإجازة الصيفية أو العطلة الصيفية مدعاة إلى كثير من التفريط.
وأنا أعلم أن بعض إخواني يحدث نفسه الآن ويقول: مالهذا الخطيب؟ أيريدنا أن نحمل كابوس الدراسة في أيام الإجازة؟ أم يريدنا في نصَب دائم لا نرتاح؟
وأنا أقول هون عليك يا أخي فإن الله قد أذن لنا بالتمتع بالطيبات، وأعوذ بالله أن أكون ممن أنكر الله عليهم بقوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَـٰتِ مِنَ ٱلرّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ كَذَلِكَ نُفَصِلُ ٱلآيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف:31]. ولكني أريد أن أعالج المفهوم الخاطئ فقط، عندما أتصور الإجازة فراغاً محضاً لن أفعل شيئاً ذا بال، ولكني عندما أتصورها فرصة للاستجمام وتطوير الذات فسوف أنجز أشياء ذات بال دون أن أبخس حق نفسي من الراحة والمرح، ورحم الله من قال:
أفـد طبعـك المكدود بالهـم راحـة يجم وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته ذلك فليكـن بمقـدار ما يعطى الطعام من الملـح
فكل ما تريد ولا يزد الملح في طعام، فيصبح غير صـالح للأكل
ومن آفات الصيف الناشئة عن هذا المفهوم الخاطئ: السهر المفرط في غير طاعة
فقد تعودت مجتمعاتنا السهر إلى ساعات متأخرة من الليل أمام التلفاز أو في أحاديث فارغة لا جدوى منها، أو في الولائم والأعراس! ولو لم يكن في هذا السهر إلا مخالفة هدي النبي لكفى بذلك سوءاً فقد روى البخاري رحمه الله عَنْ أَبِي بَرْزَةَ أَنَّ النبي كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا. [568].
قال ابن حجر رحمه الله: "لأن السمر بعدها قد يؤدي إلى النوم عن الصبح أو عن وقتها المختار أو عن قيام الليل، وكان عمر بن الخطاب يضرب الناس على ذلك ويقول أسمراً أول الليل ونوماً آخره؟" [الفتح2/73].
وقال أيضاً: "والمراد بالسمر ما يكون في أمر مباح لأن المحرم لا اختصاص لكراهته بما بعد صلاة العشاء بل هو حرام في الأوقات كلها".[الفتح2/73].
ولم يستحب الرسول السمر بعد العشاء إلا في الأمور النافعة من العبادة أو الفقه والخير أو ملاطفة الأهل والضيف، فقد ورد في كل ذلك من الأحاديث ما يرخص فيه أو يستحبه [انظر كتاب مواقيت الصلاة أبواب 39، 40، 41].
وبناء على ما سبق نستطيع أن نعتب على كثير من إخواننا سهرهم في قيل وقال، وتضييع أوقات ولعب حتى يؤول بهم الأمر إلى النوم عن صلاة الفجر!!
وأما السهر أمام القنوات الفضائية فهذه آفة ثالثة…
لقد استطاعت هذه القنوات للأسف أن تخطف أبصار كثير منا، وأنا أعلم وأنتم تعلمون أن بعض أبناء مجتمعنا يصرفون أطيب أوقات يومهم أمامها، وهم في دراستهم، فكيف بهم في الصيف؟!!
أخبرني يا مدمن هذه القنوات واصدقني ماذا استفدت منها؟
أليست قد شغلتك بأخبار الراقصين والراقصات والفنانين والفنانات، وملأت سمعك بالأغاني الماجنات، وجرحت إيمانك بصور الكاسيات العاريات.
اصدقني كم كلمة فاجرة أدخلتها في أذنيك؟ وكم عورة محرمة هتكتها أمام عينيك؟ وكم معصية منكرة جرأتك عليها؟
تقول فيها فائدة وأخبار وثقافة؟ وأقول لك: وهل فائدتها إلا كفائدة الخمر والميسر؟ يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْـئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَـٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:219] فعلام تتحمل الكثير من الوزر المحقق من أجل القليل من الخير المظنون غير المتيقن؟
أنسيت قول الله: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ [النور:30].
أنسيت قول المصطفى : ((النظرة سهم مسموم من سهام إبليس))؟
أنسيت قوله : ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف))؟
ثم أين هي غيرتك ورجولتك وشهامتك وأنت تنظر المائعين والمائعات يتراقصون ويفعلون المناكر؟ أين رجولتك أيها الرجل؟
ماذا جرى يا أبا تمام هل كذبت أحسابنا أم تناسى عرقه الذهب
رجولة اليوم أخرى لا ينِمُّ على تاريخها اسم ولا لون ولا لقب
حدثني بعض من أعرف من أهل العلم أنه جاءه في مكتبه شاب هزيل نحيل قد غارت عيناه فصارتا كسراجين مطفأين علقا في نفق وتقلصت وجنتاه حتى عادتا كالأخدود في وجهه، وعلى جبينه مسحة حزن باكية، وطفق الشاب يتكلم والدمع يتحدر منه ويقول: كنت شاباً صالحاً لا أترك الصلاة ولا قيام الليل ولا القرآن، ثم جاء أبي بهذا الطبق الفضائي إلى بيتنا فتصبرت زماناً وغضضت الطرف، ثم انفلت الزمام ففاض بي الكيل واتقدت الشهوة فعمدت إلى العادة السرية فصارت هي شغلي بالليل والنهار، وخسرت ديني وصلاتي وقرآني فقل ماذا أفعل؟
ومن آفات الصيف، التجمعات الرصيفية و(شلل الحارات)! وهي ظاهرة ـ وإن كانت موجودة طوال العام ـ تكثر في فترة الإجازة.
ومهلا يا أخي، أنا لا أحتقر هؤلاء الجالسين على الرصيف، بل والله أحبهم وأحب لهم الخير، ولكني أربأ بهم أن يكون هذا حالهم، وأذكرهم بأن من كان في سنهم من أسلافنا كان لا يرى إلا في جهاد وغزو أو في مجلس علم وذكر أو على الأقل في بيته يعين أبويه على أمورهما.
أريدك أن تعلم يا أخي أن بعض هذه التجمعات بداية الانحراف، وأن كثيرين دخلوا من بواباتها إلى عالم الخمور والمخدرات والفواحش.
وأريدك أن تعلم أن هذا الذي أوبقته الكبائر يأبى أن يراك نقياً طاهراً وهو ملوث بالعصيان، فيحرص على إغوائك و إضلالك ويبدأ معك من كرة على الرصيف وينتهي بك إلى عالم مظلم مخيف.
فكن حصيفاً يا أخي واحذر…
وكن أيها الأب حصيفاً واحذر على ابنك قبل أن تفاجأ في يوم أنه أُخِذ مجرماً، أو أنه صار على غير ما تحب.
|