الحمد لله الذي جعل الصيام جنة من العذاب، وأضافه إليه، وجعل ثوابه لديه بغير حساب، وفضل هذا الشهر الكريم على غيره من الشهور، وأنزل فيه كتابه، وخصّ فيه هذه الأمة بمزيد التكريم والثواب، ومنحه فيه ما لا يحصى من قبول الأعمال والدعاء المستجاب، نحمده حمد من إليه أناب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بالحكمة وفصل الخطاب.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وأصحابه إلى يوم المآب، أما بعد:
عباد الله، هذا شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلى القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه بالتمام، ومن فرط فليتمه بالحسنى والعمل بالختام، فاستغنموا منه ما بقي من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملاً صالحاً يشهد لكم به عند الملك العلام، وودعوه عند فراقه بأزكى تحية وسلام.
فيا أصحاب الذنوب العظيمة، الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة، فما منها عوض، ولا لضياعها من عودة، فمن يعتق منها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة، وقد ورد عن علي كرم الله وجهه أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: (يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه)، قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحن، ومن ألم فراقه تئن، كيف لا تجري للمؤمن على فراقه دموع! وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع.
عباد الله، هذا شهر رمضان قد انتصف، فمن منكم حاسب نفسه لله وانتصف، من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني له فيها غرفاً من فوقها غرف؟
ألا إن شهركم قد أخذ بالنقصان، فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به وقد انصرف، فكل شهر فعسى أن يكون منه خلف، وأما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف؟ وفي الصحيح عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره)[1].
وكان عمر رضي الله عنه قد أمر أُبي بن كعب وتميماً الداري أن يؤما بالناس في شهر رمضان، فكان القارئ منهم يقرأ بالمئتين في ركعة واحدة، حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا قبيل الفجر.
وفي هذا الشهر يا عباد الله مدرسة ربانية، مدرسة رحمانية، تفتح أبوابها كل سنة شهراً كاملاً، يتدرب فيه العباد على طاعة الله عز وجل والإمساك عن معاصيه، فهو شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن والصدقة والعمرة وسائر الطاعات.
أيها المسلم، إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
وكان السلف إذا صاموا أكثروا من جلوسهم في المساجد، فهو أقرب في الطاعة والعبادة إلى الله تعالى، وكان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وتسلمه مني متقبلاً.
كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أخرى أن يتقبله منهم، كانوا إذا دخل رمضان قالوا: جاء وقت تلاوة القرآن وإطعام الطعام.
وكان الإمام مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
والشهر ـ يا عباد الله ـ مجاهدة بالليل والنهار، فكما أن العبد يجاهد نفسه بالصيام ويلزمها بأخلاق الصائمين، يجاهد نفسه كذلك بالقيام تشبهاً بالصالحين، هذا شهر عظيم تضاعف فيه الحسنات، فبادروا إلى طاعة الله ومرضاته، سارعوا إلى إخراج زكاة أموالكم، ومدوا يد العون للفقراء والمحتاجين وأسر الشهداء والأرامل، ومن انقطعت بهم سبل الحياة، ومن هدّمت منازلهم، كفكفوا دموع الثكالى، وامسحوا دموع اليتامى، فالراحمون يرحمهم الله.
أيها المؤمنون، نعيش وإياكم في هذا اليوم العظيم وفي هذه الرحاب الطاهرة ذكرى خالدة عظيمة، ذكرى معركة بدر الكبرى، وقعت معركة بدر صبيحة يوم الجمعة في السابع عشر من شهر رمضان المبارك في مثل هذا اليوم بالذات، في السنة الثانية من الهجرة الشريفة قبل ألف وأربعمائة وواحد وعشرين عاماً من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذه المعركة التي قادها نبينا صلى الله عليه وسلم بنفسه مع الفئة المؤمنة وكان عددهم لا يزيد عن ثلاث مائة وبضعة عشر رجلاً ضد قوى الظلم والبغي والإلحاد، ضد قريش التي جمعت خيلها وخيلاءها وعددها وعدتها، وبلغ عدد المشركين ما يربو على الألف رجل من صناديد قريش.
واستشار نبينا صلى الله عليه وسلم أصحابه من الأنصار، ووقف زعيمهم سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه وقال: يا رسول الله لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، امض يا رسول الله، امض لما أردته، فنحن معك، فوالله الذي بعثك بالحق فلو استعرضت بنا هذا البحر وخضته لخضناه معك، ما تخلف رجل واحد منا، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إننا لصُبُر في الحرب، صُدُق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، سر بنا على بركة الله.
وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمئن على تماسك الجبهة الداخلية إيماناً وصدقاً لم يكف عن مناشدة الله عز وجل نبينا عليه الصلاة والسلام يرفع يديه إلى السماء في ذلك اليوم العظيم ويتوجه إلى الله تبارك وتعالى قائلاً: ((إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض))[2].
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك، ثم خفق الرسول صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ثم قال: ((أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع))[3].
ودارت المعركة، معركة الفرقان بين الحق والباطل، بين الإسلام والشرك، بين نور الإيمان وظلام الكفر والإلحاد، وانتصر المسلمون، وقتل من المشركين سبعين، من صناديدهم ومن زعمائهم الذين ناصروا العداء للنبي صلى الله عليه وسلم، وآذوا أصحابه وأذاقوهم صنوف العذاب، قتل أبو جهل، وقتل أمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث ألد أعداء الإسلام، وانتصر النبي الكريم وأصحابه الكرام، لماذا انتصروا يا عباد الله؟ لماذا انتصروا في هذه المعركة الحاسمة؟ وما بال أمتنا الإسلامية قد ران على رأسها الطير؟
توالت هزائم المسلمين في بقاع الأرض هنا وهناك، ما بال المسلمين اليوم حكاماً وشعوباً أصبحوا ذليلين مقهورين مسلوبي الحقوق! لماذا أصبحت ثرواتنا بأيدي أعدائنا ولصالح قوى البغي والعدوان؟
ها هي معاناة شعبنا الفلسطيني المسلم تزداد يوماً إثر يوم، شهداؤنا يتسابقون على ثرى فلسطين المسلمة يومياً، جرّاء تصاعد العدوان الإسرائيلي تحت مرأى ومسمع العالم أجمع دون أن يقول أحد للمحتلين: كفاكم ظلماً وجوراً وعدواناً، كفاكم قتلاً واغتيالاً وفتكاً للأرواح، كفاكم تدميراً للمنازل وتجريفاً للأراضي وتخريباً للمزروعات، كفاكم حرماناً للمسلمين من أبنائنا من أجل أداء الصلاة في المسجد الأقصى المبارك، فما هو المطلوب من شعبنا الفلسطيني في هذه المرحلة الحاسمة من حياتنا؟
وما هو المطلوب من أمتنا الإسلامية؟ ونحن نعيش في أجواء هذا الشهر الكريم، شهر العزة والكرامة، وشهر الانتصارات الإسلامية، شهر بدر ـ كما ذكرنا ـ وشهر فتح مكة، وفتح أنطاكية على يد الظاهر بيبرس، وعين جالوت على يد القائد قطز، وفتح بلغراد على يد السلطان العثماني سليمان القانوني، وفتح الأندلس على يد طارق بن زياد، رجال وقادة عظام تربوا على مائدة القرآن، وتربوا على مائدة الرحمن وتخرجوا من مدرسة الرسول عليه الصلاة والسلام، كانت قلوبهم عامرة بالإيمان والصدق، فدانت لهم البلاد وخضعت لهم الجبابرة، وساد العدل والأمن والسلام في ظل دولة الإسلام.
أيها المؤمنون، المطلوب من شعبنا الفلسطيني المسلم الحفاظ على وحدة الإيمان والعقيدة وتفويت الفرص على الأعداء من النيل من وحدة الصف المطلوب منا، عدم الرضوخ للإملاءات والابتزازات من قبل أعدائنا، وعدم التفريط في أرض الآباء والأجداد، مهما بلغت التضحيات ومهما بلغ عَنَت وظلم الأعداء.
أرض فلسطين ـ يا عباد الله ـ أرض وقفية إسلامية، والقدس درتها، وهي أمانة تركها لنا الفاتحون الأوائل بعد أن حرروها من دنس المحتلين الغاصبين، هي أمانة عمر وصلاح الدين.
أما المطلوب من أمتنا الإسلامية فهو توحيد الصفوف وبعث الأمل من أجل حياة جديدة والتمسك بالإسلام دستوراً ونظام حياة، فقضايا الأمة الإسلامية قضية واحدة، ومصيرها واحد، إن معركتنا اليوم هي بين الحق والباطل، بين الإسلام وأعداء الإسلام، وصدق من قال: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
|