أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عباد الله، قال الله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمّلُ قُمِ ٱلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ ٱلْقُرْءانَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:1-5].
خطابٌ للرسول كي يُعدَّ للقول العظيم والرسالة الثقيلة، ومحضنُ الإعداد مدرسةُ الليل التي تفتح القلب، وتوثِّق الصلة بالله، وتشرق بالنور.
كان النبي أعلم الناس [بالله] وأتقاكم له، يخلو ذاكرا ربَّه، كلما سنحت له فرصةٌ يتعبَّد لخالقه، فإذا جاء الليل وأرخى سدوله توجَّه إلى معبوده عز وجل، ينادي، يدعو، يتضرع بين يديه قائماً وقاعداً وساجداً، حتى يكاد الليل أن ينجلي وهو لم يشعر بطول القيام، وكيف له أن يشعر بذلك، وهو خالٍ بالله تعالى، خالٍ بملك الملوك، مستأنسٌ بمناجاته، متلذِّذ بعبادته، مقبلٌ عليه بقلبه وجسده، تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة:16، 17]، قيل للحسن البصري رحمه الله: ما بال المتهجّدين من أحسن الناس وجوها؟! قال: "لأنهم خلوا بالرحمن ففاض عليهم من نوره"[1].
إن قيام الليل ـ عباد الله ـ عبادةٌ تصل القلب بالله، وتجعله قادراً على مقاومة مغريات الحياة، وعلى مجاهدة النفس في وقت هدأت فيه الأصوات، ونامت فيه العيون، ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة، وسمات النفوس الكبيرة، قال تعالى: كَانُواْ قَلِيلاً مّن ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِٱلأَسْحَـٰرِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:16، 17].
ما أكثر الفوائد التي يجنيها الفرد من قيام الليل، لتربية ذاته وصلاح حاله، ومن أهمِّ الثمار تنميةُ وازع الإخلاص، تحقيق المتابعة بالاقتداء بنبينا محمد الذي يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. ومن تدبر القرآن أثناء هجوع الناس أحسَّ بتقصيره، وندم على تفريطه، ومن خشع في القرآن والصلاة سالت منه عبرات الندم والتوبة، وإذا ذكر الله خالياً ففاضت عيناه حشره رب العزة والجلال في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ولا عفوَ إلا عفوه.
عباد الله، للذكر في صلاة الليل حلاوته، وللصلاة في الليل خشوعُها، إنها لتسكب في القلب أنساً وراحة ونورا، ولذا يقول أحد السلف: "أهلُ الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم"[2]، يقول الحسن البصري رحمه الله عن سلف الأمة: "لقد صحبتُ أقواماً يبيتون لربهم سجداً وقياماً، يقومون هذا الليل على أطرافهم، تسيل دموعهم على خدُودهم، فمرة رُكعاً، ومرةً سجَّداً، يناجون ربَّهم في فكاك رقابهم، لم يملّوا طول السهر لِما خالط قلوبهم من حسن الرجاء، فأصبح القوم مما أصابوا من النصب لله في أبدانهم فرحين، وبما يَأملون من حسن ثوابهم مستبشرين، فرحم الله امرأ نافسهم، ولم يرض لنفسه من نفسه بالتقصير في أمره واليسير من فعله، فإن الدنيا عن أهلها منقطعة، والأعمال على أهلها مردودة" انتهى كلامه رحمه الله.
عباد الله، قيامُ الليل يورثُ القلبَ رقةً ونوراً، قال عطاء الخرساني: "كان يقال: قيام الليل محياة للبدن، ونور في القلب، وضياء في البصر، وقوة في الجوارح، وإن الرجل إذا قام من الليل متهجداً أصبح فرحاً يجد لذلك فرحاً في قلبه، وإذا غلبته عيناه فنام عن حزبه أصبح حزيناً منكسرَ القلب، كأنه قد فقد شيئاً، وقد فقد أعظم الأمور له نفعاً" انتهى كلامه.
أخي المسلم، ربُّك يعجب ممّن يقوم الليل، قال رسول الله : ((عجب ربنا عز وجل من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحِبِّه إلى صلاته، فيقول ربنا: أيا ملائكتي، انظروا إلى عبدي، ثار من فراشه ووطائه ومن بين حِبّه وأهله إلى صلاته، رغبةً فيما عندي وشفقةً مما عندي)) أخرجه أحمد وأبو داود من حديث ابن مسعود رضي الله عنه[3]. فيا له من عمل جليل، قيامُ الليل يعجب ربُّك من رجاله.
من ابتغى الشرف والرفعة فليداوم على قيام الليل لقوله عليه الصلاة والسلام: ((شرف المؤمن قيامه بالليل))[4].
قيام الليل دأب الصالحين، قربةٌ إلى الله تعالى، منهاة عن الإثم، تكفير للسيئات، مطردة للداء عن الجسد، كما ثبت ذلك من حديث المصطفى .
قيام الليل سببُ رفع الدرجات، وبابٌ عظيم من أبواب الخير، قال : ((ألا أدلك على أبواب الخير؟! الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل)) أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي[5].
المسلم حين يتسلل من فراشه في ظلمة الليل البهيم، ويتوضأ بالماء البارد، ثم يقف بين يدي ربه يناجيه، ويدعوه في الصلاة، فإن الرب تبارك وتعالى يذكره، ويفاخر ملائكته، يسمع ابتهاله واستغفاره، يسمع تسبيحه وتمجيده في وقت يهجع الناس وينامون، وربّ الناس وخالقهم لا يغفل ولا ينام، يقول الله تعالى: هل من تائب فأتوب عليه.
إن ربنا ينزل إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يبقى ثلث الليل فيجيب دعوة الداعي، ويعطي السائلَ سؤله، ويغفر ذنبَه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((ينزل الله إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يقضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر)) متفق عليه[6]، وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي يقول: ((إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كلَّ ليلة)) أخرجه مسلم[7]، وذكر النبي الجنة فقال: ((إن في الجنة غرفةً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها))، فقال أبو موسى الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: ((لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وباتَ لله قائماً والناس نيام)) أخرجه أحمد[8].
قال الفضيل بن عياض: "إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم قد كثرت خطيئتك"، وقال رجل للحسن البصري: إني أبيت معافىً وأحبُّ قيامَ الليل وأعدّ طهوري، فما بالي لا أقوم؟! فقال: "قيَّدتك ذنوبك".
وإذا لم يكن لك حظّ من الليل فكن كما قال بعض السلف: "إن لم يكن لك حظّ من الليل فلا تعصِ ربك في النهار"، عن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، ثم قال: يا محمد، شرف المؤمن قيام الليل، وعزُّه استغناؤه عن الناس[9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] انظر: مختصر قيام الليل للمروزي (ص58).
[2] هذا من كلام أبي سليمان الداراني، انظر: صفة الصفوة (4/228).
[3] أخرجه أحمد (1/416)، ورواه أيضا أبو يعلى (5272)، والشاشي (876)، والطبراني في الكبير (10/179)، وأبو نعيم في الحلية (4/167)، والبيهقي في الكبرى (9/164)، وصححه ابن حبان (2557، 2558)، واختلف في رفعه ووقفه، فرجح الدارقطني في العلل وقفه (5/266-267)، وقال المنذري في الترغيب (1/246): "ورواه الطبراني موقوفا بإسناد حسن"، ونقل الشوكاني في النيل (3/69) عن العراقي أنه قال: "إسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (630). تنبيه: أخرج أبو داود أصل الحديث، وليس فيه هذا الجزء المذكور في الخطبة.
[4] أخرجه العقيلي في الضعفاء (2/37) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "هذا يروى عن الحسن وغيره من قولهم وليس له أصل مسند"، وأورده ابن الجوزي والصاغاني في الموضوعات، لكن له شواهد مرفوعة، منها حديث سهل بن سعد الآتي أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (151) من كلام النبي لا حكاية عن جبريل عليه السلام، وقد حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة لشواهده (1903).
[5] أخرجه أيضًا أحمد (5/231)، والترمذي في كتاب الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، والنسائي في الكبرى (11394)، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة (3973) من حديث معاذ رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (2/447)، وهو في صحيح الترمذي (2110)، وانظر: السلسلة الصحيحة (1122).
[6] أخرجه البخاري في الجمعة (1145)، ومسلم في صلاة المسافرين (758).
[7] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء (757).
[8] أخرجه أحمد (2/173)، والطبراني في الكبير، والبيهقي في الشعب (3090) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (270، 1200)، وحسنه المنذري في الترغيب (1/239)، وابن كثير في تفسيره (2/371)، والهيثمي في المجمع (2/254)، وهو في صحيح الترغيب (617). وله شاهد من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عند أحمد (5/343)، والطبراني في الكبير (3/301)، والبيهقي في الكبرى (4/300) والشعب (3892)، وصححه ابن حبان (509)، وقال الهيثمي في المجمع(2/254): "رجاله ثقات". وشاهد آخر من حديث علي رضي الله عنه عند الترمذي في صفة الجنة (2526)، وأبي يعلى (428)، وابن أبي شيبة (7/30)، والبيهقي في الشعب (3360)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (1616).
[9] أخرجه الطبراني في الأوسط (4278)، والسهمي في تاريخ جرجان (83)، وأنو نعيم في الحلية (3/253)، والقضاعي في مسند الشهاب (746)، والبيهقي في الشعب (10541)، وصححه الحاكم (7921)، ووافقه الذهبي، وحسنه المنذري في الترغيب (1/243)، والهيثمي في المجمع (10/219)، وقال في موضع آخر (2/253): "فيه زافر بن سليمان وثقه أحمد وابن معين وأبو داود، وتكلم فيه ابن عدي وابن حبان بما لا يضر"، وقال عنه الحافظ: "صدوق كثير الأوهام"، وللحديث شواهد وقد حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (831). |