أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله لنبيه محمدٍ : هُوَ ٱلَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلأرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:62، 63].
أيها المسلمون، إن قلوبَ العباد بين يدي الله، بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، فهو القادر على جمع القلوب، وهو القادر على تفريقها، إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء [القصص:56]، فأخبر الله نبيَّه أنه لو أنفق ما في الأرض جميعاً ليجمع بين قلبين ما قدر على ذلك، ولكن الله القادر عليه، لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلأرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ.
أيها الإخوة، إن الله جل وعلا قد أرشد العبادَ إلى أمور هي سببٌ في تأليف القلوب وجمع الكلمة ووحدة الصف بين أمة الإسلام. هذه الأمور إذا طبَّقها المسلمون فيما بينهم تآلفت قلوبهم، واجتمعت كلمتهم، وأحبَّ بعضهم بعضاً، وساد بهم روحُ المحبة والمودة، وتحقَّق فيهم قولُ الله جل جلاله: وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]، وقوله: إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقول النبي : ((مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر))[1].
فقد صح عنه أنه قال: ((حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لقيتَه فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبْه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمّته، وإن مرض فعده، وإن مات فاتبعه))[2]، فهذه حقوقٌ ستة من جملة الحقوق التي يحصل بها التآلف بين القلوب، ومحبة البعض للبعض.
فأولاً: يقول : ((إذا لقيته فسلِّم عليه))، فإن إفشاءَ السلام بين المسلمين سببٌ للمحبة، ولذا يقول : ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))[3]. فإذا لقيتَ أخاك المسلم فبدأته بالسلام فإن هذا السلام يزيل الوحشةَ بين النفوس، ويجلب المودةَ والمحبة، ويسبِّب ارتياحَ أخيك إليك، وميولَه إليك، فإذا سلّمت عليه كنت ممن سعى في جلب المحبة والمودة.
والله جل وعلا يقول: وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، إذاً فإذا لقيتَ أخاك فسلِّم عليه، والنبي يقول: ((وخيرهم الذي يبدأ بالسلام))[4]، فسلم عليه، وتسليمك عليه إيناسٌ له، وإزالة للوحشة، وبعْدٌ عن القطيعة، وإبعادٌ لخلُق الكبر والتعاظم.
ثم هو يبادلك التحية، فيردّ عليك السلام كما سلَّمت عليه، والسنة أن تقول له: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فيتأكَّد عليه أن يردَّ عليك مثلما قلت؛ لأن الله يقول: وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا.
والمسلم يسلِّم على من يعرف ومن لا يعرف، ولذا يقول عمار: (ثلاثٌ من خصال الخير) وذكر منها: (وأن تسلّم على من عرفتَ ومن لم تعرف)[5]، فليس البداءة بالسلام خاصاً بمن تعرفه، بل تسلِّم على من تعرف ومن لا تعرف.
ويسلم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد، ويسلم القليل على الكثير.
أيها المسلم، إفشاء السلام يجلب المحبةَ والمودة، ولذا إذا لم يسلّم عليك اتهمتَه بالكبر والتعاظم، وإن سلَّم ولم تردَّ عليه السلامَ أدَّى ذلك إلى القطيعة والبغضاء.
والمسلم يسلِّم على نفسه، قال تعالى: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَـٰرَكَةً طَيّبَةً [النور:61]، ويقول لأنس بن مالك: ((إذا دخلت منزلك فسلِّم على أهلك تكن بركة منك عليهم))[6].
أيها المسلم، ويقول : ((وإذا دعاك فأجبه))، أي: أجِب دعوتَه إذا دعاك، ففي إجابة الدعوة تآلفٌ للقلوب، وإيناسُ البعض بالبعض، ولا سيما إن تكن الدعوة من ذي رحم، فإجابتك لدعوة أخيك تشرّفه بذلك، وتكرمه بذلك، فيحصل من المحبة والتآلف ما الله به عليم، ولذا يقول : ((ومن دعاكم فأجيبوه))[7]، وأكَّد ذلك في وليمة العرس فقال: ((ومن لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم ))[8]، وإذا لم تجبْه فأبدِ له عذراً حتى يكون مبرِّراً لك، حتى لا يظنَّ بك تكبُّراً عليه، وتعاليًا عليه، فأبدِ له عذرَك عندما لا تريد الإجابةَ لسبب أو آخر.
ثم يقول : ((وإذا استنصحك فانصح له))، إذا استنصحك أخوك، وطلب منك النصيحة، وأن تنصح له في أمر ما من الأمور، فإن الناصح أمين، يجب عليه أن يؤدِّي حقَّ النصيحة وأمانةَ النصيحة، فلا تغشَّه ولا تخدعْه، بل انصحْه بما تحبُّه لنفسك، والنبي يقول: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))[9]، فهو يستنصحك، يريد نصحَك ومشورتك على هذا الأمر من الأمور، فأدِّ له النصيحة الصادقة الحقَّة التي تعتقد أنها حقّ، وترى أنها حقّ، على قدر ما يبلغ اجتهادُك، ولا شيء عليك إن أخطأت وقد قصدت الحقّ، لكن أن تعطيه مشورة تعلم أنها خلافُ الحق وخلافُ الصواب فأنت بذلك خائنٌ لأمانة النصيحة، والنصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم.
ثم يقول : ((وإذا عطس فحمد الله فشمته))، إذا عطس أخوك المسلم وحمد الله بعد عطاسه فقل له: يرحمكم الله، ويجيبك: يهديكم الله ويصلح بالكم، فإن الدعاء له بقولك: يرحمك الله دعاءٌ له بالرحمة، ودعاء له بالشفاء والعافية، فهو يجيبك بقوله: يهديكم الله.
هكذا سنة رسول الله أن هذه الأمور تسبِّب المحبة، ويتبادل المسلمون الدعاء فيما بينهم، هذا يدعو له بالرحمة، وهذا يدعو له بالهداية.
ثم أخبر بقوله: ((وإذا مرض فعُده))، إذا مرض أخوك المسلم فعدْه، عدهُ في مرضه، وزرْه في مرضه، ففي عيادتك له في مرضه تضميدٌ لجراحه، ومواساة له، وإظهارُ الشفقة والرحمة والإحسان إليه. عيادتُك له في مرضه مواساة له، ومحبة الخير له، وأنك تتألم بآلامه، فالمسلمون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
وفي عيادة المريض فوائد كثيرة، فمن تلكم الفوائد أن عيادتك له تسبب المحبةَ والمودة، ومن فوائد عيادة المريض أنك تنصحه إن كنت تعلم خطأ سابقاً، ليتخلَّص من مظالم العباد، ويعطي الناسَ حقوقهم، ويتحلَّل من مظالمهم، ويردَّ الحقوق إلى أهلها. ومن فوائد ذلك أن تحثَّه على كتابة الحقوق التي في ذمته مما قد يخفى على من بعده من الورثة، حتى يلقى الله وقد بيَّن ما له وعليه، فلا يقع ورثتُه في إشكال، ولا يلقى الله متحمِّلاً حقوقَ العباد. وتنصحه أيضاً بأن تحثَّه على التوبة إلى الله والاستغفار والندم على من مضى، وترشده إلى الصبر على ما أصابه من البلاء، وأن هذا البلاء يكفّر الله به الخطايا والذنوب، ولا يزال البلاء بالعبد المؤمن حتى يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. وفي عيادتك له أيضاً ربما يحتاج منك لقضاء حاجة ومساعدة في أمور تخصُّه، وربما أشهدك على وصية، وربما كتبتَ له وصية، ورُبما أعنته على مهمَّات في آخر حياته، ففي العيادة مصالح عظيمة وفوائد كبيرة، هكذا أرشد محمد .
ثم أرشدنا بقوله: ((وإذا مات فاتبعه))، أي: إذا مات فاتبع جنازته، صلِّ عليه، وإذا صليت عليه فاتبع جنازته، وشيِّعه للحده، فإن في ذلك مصالحَ عظيمة. ففي صلاتك عليه أجرٌ تناله، لك قيراط من الأجر، وإن صليتَ وشيعتَه فلك قيراطان من الأجر. وفي تشييعك للجنازة تسلية لأهل المصيبة في مصابهم، ومشاركةٌ لهم في همومهم وأحزانهم. وفيه أيضاً تذكُّرك هذا المصرع، وأن هذا مآل كلِّ حي مهما طال العمر، ومهما امتدَّ العمر، فإن كل حيّ صائر إلى هذا المصير، مِنْهَا خَلَقْنَـٰكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ [طه:55].
تعينهم على حمل ميتهم، تعينهم على دفنه، تعينهم على هذه الأمور، وتعزِّيهم وتسلِّيهم في مصائبهم، وأن تتذكَّر وتنظر إلى هذا المقرّ الذي سينزل فيه كل حي، هذا المقر الذي هو القبر على قدر الإنسان فقط، يوارَى في هذا اللحد، ويُهال الترابُ عليه، ويظلُّ فيه إلى أن ينفخ إسرافيل في الصور نفخة القيامِ من القبور، وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وٰحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:51-53].
ففي اتباع الجنازة سببٌ لرقَّة القلب، وتدبُّر الإنسان للمآل، فعسى أن يكون ذلك سبباً لعظة الإنسان وتذكّره واستعداده للقاء الله، وإكثاره من صالح الأعمال.
أسأل الله أن يوفق الجميعَ لما يرضيه، وأن يعيننا على اتباع سنة نبيه والعمل بها، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1240)، ومسلم في السلام (2162) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في الإيمان (54) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الأدب (6077)، ومسلم في البر (2650) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه بلفظ: ((وخيرهما)) أي: المتهاجرين.
[5] علق البخاري في الإيمان، باب: إفشاء السلام من الإسلام عن عمار قال: (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار)، قال الحافظ في الفتح (1/82-83): "أثره هذا أخرجه أحمد بن حنبل في كتاب الإيمان من طريق سفيان الثّوريّ, ورواه يعقوب بن شيبة في مسنده من طريق شعبة وزهير بن معاوية وغيرهما كلّهم عن أبي إسحاق السّبيعيّ عن صلة بن زفر عن عمّار, ولفظ شعبة: (ثلاث من كنّ فيه فقد استكمل الإيمان) وهو بالمعنى, وهكذا رُوِّيناه في جامع معمر عن أبي إسحاق، وكذا حدّث به عبد الرّزّاق في مصنّفه عن معمر, وحدّث به عبد الرّزّاق بآخرة فرفعه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم, كذا أخرجه البزّار في مسنده وابن أبي حاتم في العلل كلاهما عن الحسن بن عبد اللّه الكوفيّ, وكذا رواه البغويّ في شرح السّنّة من طريق أحمد بن كعب الواسطيّ, وكذا أخرجه ابن الأعرابيّ في معجمه عن محمّد بن الصّبّاح الصّنعانيّ ثلاثتهم عن عبد الرّزّاق مرفوعا، واستغربه البزّار, وقال أبو زرعة: هو خطأ. قلت: وهو معلول من حيث صناعة الإسناد; لأنّ عبد الرّزّاق تغيّر بآخرة, وسماع هؤلاء منه في حال تغيّره, إلا أنّ مثله لا يقال بالرّأي فهو في حكم المرفوع, وقد روّيناه مرفوعا من وجه آخر عن عمّار، أخرجه الطّبرانيّ في الكبير وفي إسناده ضعف, وله شواهد أخرى بيّنتها في تعليق التّعليق".
[6] أخرجه الترمذي في الاستئذان (2698) عن أنس رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وفي سنده علي بن زيد ابن جدعان وهو ضعيف، ولكن له شواهد يتقوى بها، ولذا صححه الألباني في تخريج الكلم الطيب (63).
[7] جزء من حديث أخرجه أحمد (2/68، 95، 127)، والطيالسي (1895)، وأبو داود في الزكاة وفي الأدب (1672، 5109)، والطبراني في الأوسط (4031)، والبيهقي في الكبرى (4/199) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (3375، 3409)، والحاكم (1502) على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، قال الألباني في الصحيحة (254): "وهو كما قالا".
[8] أخرجه البخاري في النكاح (5177)، ومسلم في النكاح (1432) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((فقد عصى الله ورسوله)).
[9] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) من حديث أنس رضي الله عنه.
|