أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فإن تقوى الله عروة ما لها انفصام, من استمسك بها حمته بإذن الله من محذور العاقبة، ومن اعتصم بها وقَتْه من كل نائبة, فعليكم بتقوى الله فالزموها, وجِدوا في الأعمال الصالحة واغتنموها، فالزمان يطوي مسافة الأعمار, وكل ابن أنثى راحل عن هذه الدار.
أيها المسلمون، قضت سنةُ الله عز وجل في هذه الدنيا أن يتصارع الحق والباطل، ويتدافع الهدى والضلال، ويتنازع الصلاح والفساد، وفي محكم التنزيل: وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأرْضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ [البقرة:251]، ويقول سبحانه: وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَوٰمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوٰتٌ وَمَسَـٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
التدافع في هذه الدنيا قائمٌ بلا انقطاع، والتنازع سرٌّ من أسرار هذه الحياة، وناموسٌ من نواميس الله في خلقه، يجري على قدر، وينتهي إلى غاية، تدبيرٌ من حكيم عليم.
ولقد كان من مقتضى ذلك أن تتعدَّد المجتمعات في صفاتها وتتنوَّع في سماتها، فتلتقي كل جماعة على صفات عامة تؤلِّف بينها وتشدُّ بنيانَها وتوثِّق تماسكها وتوحِّد صفوفَها، لتبدو كالجسد الواحد, وفي ذات الوقت تتميَّز كلُّ جماعة أو مجموعة عن غيرها في خصائص وعوامل تجعلها ذات استقلال وانفراد, فتشابُه أفراد المجموعة يحفظها من التشتت والتفكك، وأما مخالفتها لغيرها فيحميها من الذوبان والاضمحلال.
ودينُ الإسلام وهو دين الفطرة يقرر هذه السنةَ الإلهية وهذا النظامَ الرباني، فقد جعل الله الناس أممًا كما جعلهم شعوبًا وقبائل، فقال سبحانه: لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَـٰزِعُنَّكَ فِى ٱلأمْرِ وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبّكَ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ وَإِن جَـٰدَلُوكَ فَقُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الحج:67-69], ويقول سبحانه: لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً وَلَـٰكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا ءاتَـٰكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة:48].
وفي هذا الباب وبمقتضى هذه السنن حرص الإسلام على تمييز المسلمين عن سائر الأمم بوصفهم أمةً مسلمة، فلقد دلَّت الدلائل والنصوص على حفظ هذا الدين ورعاية تميُّزه واستقلاله وخلوصه من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين, وسنةُ رسول الله وشرعتُه ومنهاجه أقوالاً وأفعالاً ومظاهرَ تبايِن سبيلَ المغضوب عليهم والضالين، وتخالف طريقَ الكفار والمشركين، والمجوسِ والوثنيين. فدين الإسلام مبني على الابتعاد عن مشابهة الكفار، ومن أعظم مقاصد الدين وأصوله تمييزُ الحق وأهله عن الباطل وأهله, وبيانُ سبيل الهدى والسنة والدعوة إليه، وكشفُ سبيل الضلالة والتحذير منه.
وقد أوضح ذلك نبيُّنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفصّله وأمر أمَّته بمخالفة الكفار في جميع أحوالهم, في العقائد والعبادات والعادات والمعاملات والآداب والسلوك.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((بُعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذلُّ والصغار على من خالف أمري، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم)) رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه وحسنه الحافظ ابن حجر وصححه الحافظ العراقي[1]، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "هذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبِّه بهم"[2]، وفي الحديث الآخر: ((ليس منا من تشبه بغيرنا)) رواه الترمذي[3]. وقد تكاثر عن رسول الله قوله: ((خالفوا المشركين))، ((خالفوا المجوس))، ((خالفوا اليهود))، ((خالفوا أهل الكتاب))، و((من تشبه بقوم حُشر معهم)).
وقد أورد أهل العلم على هذا أكثر من مائة دليل، قالوا: حتى في الصلاة التي يحبها الله ورسوله شُرع لنا تجنب مشابهتُهم في مجرَّد الصورة كالصلاة عند طلوع الشمس وغروبها فريضةً كان ذلك أو تطوعًا. ويقرِّر جمعٌ من أهل العلم أن التشبُّهَ وجهٌ من وجوه المودة والموالاة مما يدخل في قوله سبحانه: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية [المجادلة:22].
أيها المسلمون، والتشبهُ يكون بفعل الشيء لأجل أن الأعداءَ فعلوه، ومن فعَل شيئًا لأن غيرَه قد فعله فقد تشبَّه به, ومن تبع غيره في فعلٍ منسوبٍ إليه فقد تشبَّه به, والمتشبِّه محبٌّ لمن يتشبَّه به ومحبٌّ لعاداته, والمرءُ مع من أحب، والإنسانُ ميَّال بطبعه إلى نظيره وشبيهه، وهذه طبيعة في الإنسان مفطورٌ عليها, وهذا يورث مودةً وأنسًا، فمن تشبه بقوم أو طائفة وَجد في قلبه أُنسًا بهم وميلاً إليهم، كما يجد نفورًا وابتعادًا ممن يخالفه أو يعارضه, وقد شهِد الحس والوجدان بأن النفوس مجبولة على حبِّ من يتَّبعها. ومن تشبَّه بغيره في مظهره وعادته وسلوكه ولغته أو شيء من أشيائه فإنه يولد إحساسًا بالتقارب وشعورًا بالتعاطف، والطيور على أشباهها تقَع. فإذا كانت المشابهة في الأمور الدنيوية تورث مثل هذه المحبة والمودة والميول والمشاكلة فكيف بأمور الدين والتربية والأخلاق والإعجاب بأحوال الأعداء ومبادئهم ونظمهم؟! فإن إفضاءها إلى أنواع من الموالاة أكثر وأشدُّ مما قد يقود الواقع فيها إلى الدخول في قضايا الإيمان ومسائل الاعتقاد.
أيها المسلمون، ومن أجل هذا فقد تكاثرت النصوص وتواترت في التحذير من التشبه بالكفار بجميع مللهم وعقائدهم، في كل ما له صلة بالعقائد والعبادات والعادات.
ففي باب العقائد جاء النهي عن اتخاذ القبور مساجد، والغلوِّ في الصالحين، واتخاذ القبور مشاهدَ ومزارات، والبناء عليها، والتفرق في الدين والعصبيات والتحزبات والشعارات، والنياحة على الميت، والفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، وحمية الجاهلية.
وفي العبادات ورد النهيُ في مسائل كثيرة من أبواب الأذان والمساجد، والصلاة في أوقات صلاتهم أو هيئاتها، والصيام في أوقات صيامهم، والحج على طريقتهم، والنكاح والذبائح والأعياد.
وفي العادات والآداب من اللباس والزيِّ، والزينة والطعام، وتوفير اللحى وحف الشوارب، وتغيير الشيب، وطريقة إلقاء السلام، والجلوس والاضطجاع، والأكل بالشمال، والتختم بالذهب، وإسبال الثياب، وحمل الصور، واصطحاب الكلاب، والفن الساقط، والطرب ومزامير الشيطان.
إن التشبُّهَ بهم في عقائدهم وعباداتهم وعاداتهم إظهارٌ لأديانهم الباطلة وعباداتِهم الفاسدة ونشرٌ لها، والتشبُّهُ بالعادات والصفات إهانةٌ للأمة وشعور بالضعف والذلة والتبعية والدونية.
إن المخالفة فيما أُمر المسلمون فيه بالمخالفة مصلحةٌ في الدين وإبقاءٌ عليه وحفظٌ له من أسباب الانحلال، كما أن الموافقةَ فيما نُهي عن الموافقة فيه مضرةٌ بالدين، وموقعةٌ في أسباب الانحلال.
ومع الأسف فقد نبتت نابتةٌ في العصور المتأخِّرة وفي أعقاب الزمن ذليلةٌ مستعبَدة، ديدنُها التشبُّه والاستحذاء، ووجدت في بعض أهل الرأي وبعض الضِّعاف من المنتسبين إلى العلم ممن يهون أمر التشبه بالكفار في اللباس والهيئات والمظهر والخُلق حتى صاروا مسخًا في الأمة، فترى الاستئناس بأحوال الأعداء، والرضا عن مسالكهم، وازدراءَ المسلمين وتنقصَهم، والتندُّر بالجميل من عوائدهم ومحافظتهم واحتشامهم في سلوكهم ولباسهم. ومن انسلخ من عوائد أهل دينه فقد أبرَز شأنَ أعدائه، وقدّم أمرَهم على أمر المسلمين.
إن كثيرًا منهم يعيشون تشبُّهًا يقود إلى الذوبان والانحلال والتهتُّك، بل يقود إلى الفسوق والفجور والحرية المتفلِّتة والاختلاط المحرم، وقبول التبرج والسفور، وإبداء الزينة المحرمة.
نعم، بسبب الغفلة عن هذه القضية ضعُفت معنوياتُ كثير من المسلمين، وتضعضعت أحوالهم، وتبلبلت أفكارُهم، ونشأت فيهم النظرياتُ الهدَّامة والأفكار المنحرفة في عقولهم وديارهم، وشبَّ فيهم فئاتٌ لا تعرف للدين منزلة، ولا تعترف للفضيلة بوزن. مظاهرُ التغريب وبواطن الانحراف في الأخلاق والعادات، والإفراط في أنواع من الفسوق والفجور، وانتشارُ الجرائم مما لم يكن معهودًا في أوساط المسلمين، تُرى ما الذي أصاب فئاتٍ من أبناء الأمة فتساقطوا في أحضان الأعداء؟! خفةٌ في الوزن وضعة في القدْر، فلا دينَ لله أقاموا، ولا أعداؤُهم لهم صدَقوا وأخلصوا، فمهما قدم هؤلاء الضعاف من تنازلات وذابوا في شخصيَّتهم ولاقوا رطانتهم فلن يجدوا ناصرًا ولن يكسبوا ودًا، أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ [الملك:20].
أيها المسلمون، إنَّ التحذير من التشبُّه هو دعوة المصلحين الخلَّص من حُرَّاس المِلة, إنهم مصلحون أبصرُ بالعلل وأسباب الهزائم، وأفقهُ بطرق العزة وأسباب طمس الهوية, ومسالك التبعية من مظاهر الشخصية والحياة والتفكير، مصلحون يدرِكون أن صحةَ الطريق بصفاء التميز، وتأكيد الخصوصية.
وبعد، فمن كان شحيحًا بدينه راغبًا في خلاص مهجته من عذاب الله فليتق الله، وليلزمْ هديَ الإسلام ويتَّبع سبيل المؤمنين، وليحذر طريقَ المشركين والمغضوب عليهم والضالين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذَلِكَ ٱلدّينُ ٱلْقَيّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلوٰةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:30-32].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/50) بتمامه، وعلق البخاري بعضه بصيغة التمريض في الجهاد، باب: ما قيل في الرماح، وأخرج أبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031) منه قوله: ((من تشبه بقوم فهو منهم))، قال ابن تيمية كما في المجموع (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح"، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
[2] اقتضاء الصراط المستقيم (ص83).
[3] أخرجه الترمذي في الاستئذان (2695)، والطبراني في الأوسط (7380)، والقضاعي في مسند الشهاب (1191) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقال الترمذي: "هذا حديث إسناده ضعيف، وروى ابن المبارك هذا الحديث عن ابن لهيعة فلم يرفعه"، وحسنه الألباني في صحيح السنن (2168).
|