أما بعد:
فقد روى الصحابي الجليل سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سالت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها. وسالت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم شديد فمنعنيها))[1]. أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في باب الفتن، والإمام أحمد في مسنده.
أيها المسلمون، في هذا الحديث النبوي الشريف يوضح عليه الصلاة والسلام بأنه سأل الله عز وجل ثلاث مسائل: وهي:
المسالة الأولى: تتعلق بالقحط.
والمسألة الثانية: تتعلق بالغرق.
والمسألة الثالثة: تتعلق بالخلافات بين المسلمين.
أما المسالة الأولى، فيقول عليه الصلاة والسلام: ((وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسِنة فأعطانيها)) أي طلبت من الله سبحانه وتعالى أن لا يهلك الأمة الإسلامية بالسِنة أي بالقحط فاستجاب الله لمطلبي بمعنى أن الأمة الإسلامية لا تهلك بسبب القحط، حتى لو أصابها قحط، فإن ضرره يكون جزئياً غير شامل.
أيها المسلمون، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: ((وسألت ربي أن لا يهلك الأمة الإسلامية بالغرق فاستجاب الله لمطلبي)) بمعنى أن الأمة الإسلامية لا تهلك بسبب الغرق، حتى لو أصابها غرق، فإن ضرره يكون جزئياً غير شامل.
ثم يقول عليه الصلاة والسلام: ((.... وسألت أن لا يجعل بأسهم بينهم شديد فمنعنيها)). أي طلبت من الله عز وجل أن لا يجعل الاختلاف والشدة بين المسلمين فمنعنيها، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى لم يستجب لمطلب الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه المسالة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن هذا الحديث النبوي الشريف يحذر المسلمين في كل زمان ومكان من الاختلاف والشقاق والنزاع، وأن الله سبحانه وتعالى قد وضعهم في اختبار صعب وامتحان شديد، في الوقت نفسه، فإن ديننا العظيم من خلال عشرات الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة يحث على الوحدة وعلى التحابب والتصافي والتسامح وعلى نبذ الخلافات والمشاحنات فيما بين المسلمين.
أيها المسلمون، والسؤال: ما الحكمة من عدم استجابة الله عز وجل لمطلب الرسول ومصطفاه عليه أفضل الصلاة ودائم التسليم بشأن المسألة الثالثة؟؟
والجواب: إن الوحدة والتضامن والتكافل تتعلق بها أحكام شرعية، فكما أن الله سبحانه وتعالى طلب منا الالتزام بالأحكام الشرعية المتعلقة بالصلاة والصوم والزكاة والحج، فإنه عز وجل قد طلب منا الالتزام بالأحكام الشرعية المتعلقة بالوحدة والتضامن والتكافل والتعاضد. كما أن هناك أحكاماً شرعية تتعلق بالتحذير من الاختلاف والنزاع والشقاق والاقتتال. فإذا التزم المسلمون الأحكام الشرعية المتعلقة بالوحدة فإنهم يكونون قد اجتازوا الامتحان والاختبار بالنجاح والتوفيق.
أو على العكس من ذلك فإنهم في حالة عدم التزامهم بها، فإنهم يكونون قد فشلوا وتنازعوا، والله سبحانه وتعالى يقول: وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ [الأنفال:46].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، في الوقت الذي تبني فيه الدول غير الإسلامية في هذا العالم علاقاتها على أساس المصالح المتبادلة أو توحيد الأعراق المختلفة ضمن اتحادات سياسية أو اقتصادية كما هو الحال في دول أوروبا، في هذا الوقت نجد العالم الإسلامي يزداد فرقة واختلافاً وتفتيتاً للجهود وتبعية للدول الاستعمارية الكبرى. في حين نحن أولى الناس بالوحدة والقيادة والاستقلال.
وإن مؤتمر القمة العربية الأخير الذي عقد في بيروت قد أثبت عجز الحكام العرب عن مواجهة الأوضاع السياسية، وكأنهم يحاولون أن يخدعوا شعوبهم بأنهم اتفقوا على قرارات ومبادرات في صالح القضية الفلسطينية، وقبل أن يجف الحبر على الورق. صفعتهم إسرائيل بدعم أمريكي، وكأن القرارات لم تكن.
والذي يؤكد هذه المهزلة هو صمت العرب المطبق عما يجري على الساحة الفلسطينية وعلى الساحة الدولية، وأخذوا يتسترون وراء شعار السلام الوهمي المزيف، وهو في حقيقته استسلام، فلو أنهم متحدون متضامنون حقيقة لما تجرأت عليهم أمريكا وإسرائيل، كيف الحكامُ العرب قبلوا تهمة الإرهاب، ثم أخذوا يثبتون بعد ذلك أنهم ضد الإرهاب، بأسلوب متخاذل، وإن تفرقهم قد ضعف موقفهم ولم تكن لديهم الجرأة ليقولوا من الذي يقف على رأس الإرهاب، فانقلبت المفاهيم والمقاييس في هذا القرن الذي يوصف بالتقدم وبالسلام زوراً وبهتاناً.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن ديننا الإسلامي العظيم هو دين الوحدة، وإن الحدود المصطنعة بين الأقطار الإسلامية هي حدود لا يقرها الإسلام، وإن تعدد الكيانات مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية، وعليه فإن ديار الإسلام هي ديار واحدة، فالأراضي المتنازع عليها في اليمن هي للمسلمين، والأراضي المتنازع عليها في إيران هي للمسلمين والأراضي المتنازع عليها في الصحراء المغربية هي للمسلمين، فلا يجوز شرعاً أن يختصم المسلمون فيما بينهم على قضايا حدودية.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ومن ضمن الأحكام الشرعية التي تتعلق بالوحدة ، المياه والأنهار والبحار، هي مشتركة لجميع المسلمين، فلا يجوز أن يقع خلاف بين تركيا والعراق وسوريا على مياه دجلة والفرات، فالرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم يقول: ((والمسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)). أخرجه أبو داود وابن ماجه والطبراني عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما[2].
ويقول: ((ثلاث لا يُمنعن: الماء والكلأ والنار))[3]. رواه ابن ماجه عن الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، وسنده صحيح.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، عرباً وأتراكاً وأكراداً وعجماً، إن الذي يجمعنا هو الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإن هذا الدين العظيم يلزمنا بأن ندعو إلى الوحدة وإلى الإصلاح، وإلى نبذ الفرقة والاختلاف، ويدعو إلى حقن الدماء بين المنازعين.
نحن لا نقف إلى جانب ضد جانب آخر، لأن التحيز أصلاً يؤدي إلى زيادة في الخلاف. وإن دعوتنا إلى الإصلاح بين المتخاصمين لا يعني أننا نؤيد أي نظام قائم في العالم العربي والإسلامي، وإنما ندعو إلى الإصلاح والحوار والتفاهم من منطلق حماية الشعوب الإسلامية من المؤامرات ومن إراقة الدماء.
ونحن في أمس الحاجة إلى الوحدة والتضامن ولمّ الشمل وعدم الانجرار وراء الخلافات والويلات. جاء في الحديث النبوي الشريف من خطبة الوداع : ((ألا ليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))[4]. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.
ادعوا وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] صحيح رواه مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص(2890)، كتاب الفتن، باب : هلاك هذه الأمة. وهو عند أحمد في المسند (2890)
[2] صحيح. رواه أبو داود(3477)، وابن ماجه من حديث ابن عباس (2472)، وأحمد في المسند(22573).
[3] صحيح. رواه ابن ماجه (2374).
[4] صحيح. رواه البخاري في كتاب الحج، باب : الخطبة أيام منى (1739)، وعند مسلم نحوه في كتاب الإيمان، باب : بيان معنى قوله....(65) |