أما بعد: فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى.
ثم أما بعد، فيقول الرب سبحانه وتعالى: وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58].
ويقول الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولايخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا ـ وأشار إلى صدره ثلاثاً ـ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، لقد كرم الله سبحانه وتعالى هذا الإنسان وفضله على سائر المخلوقات، فقال سبحانه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـٰهُمْ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَـٰهُمْ مّنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70]، وإذا كان هذا الإنسان مسلماً وكان مؤمناً زادت كرامته وعظمت مكانته وتأكدت حقوقه، فهذا الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم ينظر إلى الكعبة المشرفة ـ زادها الله تعظيماً وتشريفاً ـ التي يتوجه إليها المسلمون من كل أقطار الدنيا خمس مرات في اليوم ينظر إليها الرسول عليه الصلاة والسلام ويقول: ((ما أعظمك! وما أشد حرمتك! والذي نفسي بيده، للمؤمن أشد حرمة عند الله تعالى منك))، وهو القائل عليه الصلاة والسلام: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم))، وهو الذي وقف يوم عرفة يخاطب أكثر من مائة ألف من أمته قائلاً: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)).
ولذلك لما عرف الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الحقوق العظيمة للعباد خاف أن يلقى الله سبحانه وتعالى وفي ذمته شيء لعبد من عبيد الله، فقام عليه الصلاة والسلام وهو في مرض الموت خطيباً في الناس قائلاً: ((أيها الناس، من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد مني اليوم ـ أي فليقتص مني اليوم ـ، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد مني اليوم، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليستقد مني اليوم قبل أن لا يكون هناك دينار ولا درهم)).
ولما غلا السعر في المدينة وجاء الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله غلا السعر فسعّر لنا، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال)).
ولذلك أيضاً يقول عليه الصلاة والسلام موصياً أمته كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)).
ويجلس الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته رضوان الله تعالى عليهم فيقول لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: ((أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)).
معاشر المسلمين، حقوق العباد عظيمة عظيمة، وأذية العباد من أعظم الذنوب التي لا يغفرها الله سبحانه وتعالى، فالله جل وعلا قد يغفر الذنوب التي بين العبد وربه، أما حقوق العباد فلا تغفر، تقول عائشة رضي الله عنها فيما ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفره الله: الإشراك بالله، يقول الله عز وجل: إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، وديوان لا يترحم عليه: ظلم العباد فيما بينهم حتى يقتص بعضهم من بعض، وديوان لا يعبأ الله به ظلم العباد فيما بينهم وبين الله، فذاك إلى الله: إن شاء عذبه، وإن شاء تجاوز عنه)).
فلنتق الله ـ عباد الله ـ في حقوق العباد، ولنحذر من أذية العباد. عرضت امرأة يرفع أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال: يا رسول الله إن فلانة تصلي الليل وتصوم النهار وتؤذي جيرانها بلسانها، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا خير فيها، هي في النار)).
الشهيد ـ يا عباد الله ـ الذي قدّم روحه لله وأراق دمه في سبيل الله، لو استشهد وفي ذمته شيء لعبد من عبيد الله، فإنه يحبس ويرهن، عن النعيم في قبره حتى يؤدى الدين الذي عليه.
ولذلك لما مات أحد الصحابة وكان عليه ديناران، قال الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته: ((من يتحمل الدينارين عنه؟)) فتحملها أبو قتادة رضي الله عنه وقال: هي علي يا رسول الله. قال أبو قتادة: فما زال يلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكرني ويقول: ((أديت عنه)) فأقول: لا، بعد، حتى لقيني يوماً فقال: ((أديت عنه؟)) فقلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الآن بردت جلدته)).
معاشر المؤمنين، ومعاشر المسلمين الموحدين، رسول رب العالمين محمد صلى الله عليه وسلم ينفي كمال الإسلام والإيمان عن كل من أصر على أذية العباد فيقول عليه الصلاة والسلام: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده))، فلا يكون المسلم مسلماً حقاً إلا إذا سلم المسلمون من لسانه ويده، ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من لا يأمن جاره بوائقه)) أي غوائله وأذيته، ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه)).
فأين نحن ـ يا عباد الله ـ من هذه الأحاديث؟!! وأين نحن من هذه التوجيهات؟!! إلى الله نشكو الحال التي وصلنا إليها، أصبح كثير من الناس ذئاباً في ثياب بشر، أصبح كثير من الناس لا يهدأ لهم جنب ولا تنام لهم عين إلا إذا باتوا على أذى العباد، ليس لهم دَيْدَنٌ إلا تتبع العورات وتصيد الزلات والعثرات، فأين الصلاة؟ وأين الزكاة؟ وأين الصوم؟ أين الإسلام؟ وأين الإيمان؟ وأين الخوف من الله الواحد الديان؟
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس)).
وطوبى: شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مسيرة مائة عام لا يقطعها.
الأذية لها صور كثيرة، فالعين تؤذي، واللسان يؤذي، واليد تؤذي، والرجل تؤذي، والبطن يؤذي، والقلب يؤذي، فأذى العين أن تنظر إلى محارم الله وأن تتبع عورات المسلمين.
أذى العين أن تنظر إلى نِعَمٍ أنعم الله تعالى بها على عبد من عبيده، فتتمنى زوال هذه النعمة، وتعترض على عطاء الله سبحانه وتعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((إياكم والحسد، فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)).
وأذى اللسان الغيبة والنميمة والكذب والبهتان والهمز واللمز، وقد مر عليه الصلاة والسلام لما عرج به إلى السماء على أقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فسأل جبريل عن هؤلاء؟ قال: ((هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)).
وأذى اليد والرجل البطش والقتل والسرقة والسعي في الإضرار بالناس.
وأذى البطن أكل الحرام من ربا ورشوة وأكلٍ لأموال الناس بالباطل وأكلٍ لأموال اليتامى والضعفاء.
وأذى القلب الغل والبغضاء والضغينة والحقد والشحناء، يقول عليه الصلاة والسلام: ((دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين. والذي نفس محمد بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم)).
فاللهَ اللهَ أن ينظر الله سبحانه وتعالى إلى قلبك ـ أخي المسلم ـ وفيه غل أو ضغينة لأخ لك في الله.
اللهم أصلح فساد قلوبنا، وانزع الغل والحسد والحقد من صدورنا.
اللهم أصلح ذات بيننا، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:47].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|