أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإن فيها العزَّ بعد الذل، وبها الأمن بعد الخوف، والنجاة يوم الورود، وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجّى ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّـٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71، 72].
عباد الله، إن من يتحسَّسُ واقع الناس بعامة وواقع المسلمين على وجه الخصوص في زمنٍ كثُرت فيه المعارك وقلّ فيه العَارف، زمنٍ بلغت فيه آلياتُه أوْجَ تقدّمِها، ونالت الحضارة المادية فيه شأوًا بالغاً، زمنٍ هو غايةٌ في السرعة المهولة، سرعةٍ اقتصادية، وأخرى طبيّةٍ، وثالثةٍ عسكرية ومعرفية، إن من يتحسَّس هذا الواقع على وجه الإنصاف والوضوح فسيمْثُل أمامه أن هذه المسارعة بقضِّها وقضيضها لم تكن كفيلةً في إيجاد الإنسان الواعي، الإنسان المدرك لحقيقة وجوده على هذه البسيطة.
نعم عباد الله، هذه هي الحقيقة مهما امتدّت حبال هذا التقدم العصري، وإلا فمن يخبرنا عن سرِّ انتشار الجهل وتضلُّعِه في عصر تقدم المعلومات؟ وما هو سر شيوع الفقر والمسكنة في عصر الكنوز والغنى؟ وما سر سيطرة البطالة في عصر الإنتاج والصناعة؟ وقولوا مثل ذلك متسائلين: ما هو سر وصف بعض الباحثين في الشؤون الاجتماعية على المستوى العالمي هذا العصر بعصر الحزن والاكتئاب، بعد أن أُطلق على فترةٍ قريبة منه سابقة عصرَ القلق؟
إننا في الحقيقة لسنا بحاجة إلى مزيد أدلة تؤكّد ما يكابده هذا العصر من تغلغُل هذه الظاهرة واستشرائها.
الحزن والاكتئاب ـ عباد الله ـ هما آفة العصر المدمرة، وهما أوسع الآفات النفسية انتشاراً في العالم، وأكثرها لدى الناس إلا ما شاء الله، وهي لا تزال في ازدياد ملحوظ كلما ازدادت الإصابة بها.
ثم إن المترقب لآخر الإحصائيات الصحية العالمية ليجد أن ما يقارب عشرةً بالمئة من سكان العالم يعانون من آفة الحزن والاكتئاب، بما في ذلكم بلاد المسلمين، وهذا يعني بداهة وجود مئات الملايين من البشر في معاناة مع هذا الواقع المرير، وقد أسفرت هذه الإحصاءات أيضاً عن أن الأجيال التي وُلدت في هذه العقود الأخيرة يبدأ عندها هذا الحزن والاكتئاب في سنٍّ أصغر وبمعدلات أكبر، نظراً للعوامل الاجتماعية التي تخلَّلت تلك الجسوم بسبب تهلهُلِها وضياع الأثر البيئي الناضج فيها، كما وُجد أن هذا الداء ينتشر بشكل عام بين الإناث أكثر من انتشاره بين الذكور بنسبةٍ تصل إلى الضعف تقريباً، وذلك بسبب فقدان الوظيفة الحقيقية للمرأة، وتحميلها ما لا تطيق من أعباءٍ حياتية أودت بها إلى ترك بيتها، والزجّ بطفلها بين أحضان الخادمات وعقول المربِّيات الأجنبيات. بل لقد بلغت حالات الانتحار بسبب الحزن والاكتئاب الشديد ما يزيد على ثمانمائة ألف شخص في العالم كل عام، ناهيكم عن كون ثمانين بالمئة من المصابين به لا يذهبون إلى الأطباء، ولا يكشفون عن حقيقة حالهم، وهما مكمَن العجب.
إن هذه الظاهرة ـ عباد الله ـ ليست وليدةَ هذا العصر، ولا هي من الأدواء التي لا يُعرف لها ما يقاومها، أو يزيل عُمقَ وجودها في المجتمعات، كلاَّ، بل هي ظاهرة مرهونة بمدى انغماس الكثرة الكاثرة في متاع الحياة الدنيا وسيطرة النظرة المادية الصِّرفة.
ثم إن تفاوت المجتمعات في درجات هذه الظاهرة ليكمن في مدى إيمانها بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ثم في استقامة السلوك الاجتماعي بأمنه وإعلامه وتعليمه، واستقرار العدل والمساواة والمحبة، والبعد عن الأثرة وحب الذات وهلمَّ جرا.
لقد سيطرت هذه الظاهرة سيطرةً مزدوجةً على اهتمامات وأبحاث الكاتبين عنها، من بحاثة شرعيين وأطباء نفسيين، وآخرين من صحفيين نقلة، ولربما تناولتها الأقلام باللَّتِّ والعجن بين الحين والآخر، غير أن هذه المطارحات على تنوّعها واختلاف منطلقاتها لم تُوفَّق في أن تجتمع تحت مظلَّة واحدة تجمع في علاج هذه الظاهرة بين الأصالة والمعاصرة، بين الطب الشرعي الروحاني وبين الطب النفسي الإكلينيكي الموثَّق، والذي يقوم عليه متخصِّصون من ذوي الأمانة والغيرة، ممّن يُخضعون دراساتهم في الطب النفسي للشريعة الغراء، بعيداً عن النظريات المادية البحتة المتجرّدة عن معاني الروح والسمو.
عباد الله، الحزنُ في لغة العرب مأخوذ من الحَزَن وهو الاغتمام، يقولون: حَزِن الرجل إذا اغتمّ واشتد همُّه، وهذا الحزن يُعدّ أحدَ صور العاطفة والمشاعر الإنسانية الفطرية التي تسيطر على الإنسان، فإذا ما اشتدت عليه اشتداداً تتغيّر به نفسه وتنكسر فإنه حينئذ يُسمَّى اكتئاباً، وهو أيضاً إحساس عاطفي يُعد قمةَ الحزن وغايته، حيث يجعل الفرد نهباً لشعوره الداخلي الذي يورث الفشل وخيبةَ الأمل واختفاء الهشاشة والبشاشة والحبور والانشراح، مع انفعالات مزدوجة بالآهات والزفرات، حتى تعزِف النفس بسبب ذلك عن بذل أي نشاط حيوي، بل ولربما عزفت عن الحياة بالكلية ليكون الانتحار هو الحل الوحيد للمصاب بهذه الأزمة والعياذ بالله. في حين إنه لو سلم من قتل نفسه والقضاء عليها، فلا أقل من أن تصيبه لوثة بعض الأمراض المصاحبة لها، كأمثال القرحة وآلام المفاصل والأرق والصداع وغير ذلك، وقد قال ابن القيم رحمه الله: "أربعة تهدم البدن: الهم والحزن والجوع والسهر".
إن أهمية التطبُّب النفسي من خلال عرض الفرص العلاجية عبر جوانب إيمانية من كتاب الله وسنة نبيه لِعِلَّة الحزن والاكتئاب لتكمن في كونهما البديل الأفضل والأكمل والأسلم لمئات من أنواع الأدوية والعقاقير المهدِّئة والكيوفات المؤقَّتة التي قد يتعوَّد عليها الجسم فتتحوَّل مرضا أفتك من الحزن والاكتئاب ذاته.
ثم إن العلاج الشرعي الروحاني على وجه العموم قد يفوق العلاج السريري لهذه الظاهرة الفتاكة بمرات كثيرة. وإذا كان هناك برامج في الطب النفسي تشير إلى أن في السباحة المائية ومزاولة الأعمال المنزلية بصفة متكررة علاجاً لهذه الأزمة، فإننا ـ معاشر المسلمين ـ لا يمكن أن نتصور كون الفرد سابحاً عاملاً في منزله ليلا ونهاراً، ولكن يمكن لنا أن نتصور هذا الفرد متعبِّداً مسبِّحا مستغفرا ليله ونهاره قيامَه وقعوده وعلى جنبه، ولا جرم فقد وصف الله أولي الألباب بقوله: ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]. ومن هنا يأتي تفاضل الأدوية الشرعية الروحانية على المادية السريرية رغم أهميتها وعدم إغفال دورها الفعال في بعض الأحايين.
وبعدُ ـ يا رعاكم الله ـ فلسائل أن يسأل ويقول: قد عرفنا صورة هذه الأزمة، ولكن ما أسبابها الظاهرة؟ وما علاجها المرجو؟
فنقول: إن هناك مسبباتٍ طبيةً بحتة، لا يمكن تجاهلها، ومن أشهر هذه الأسباب كثرة تعاطي الأدوية والعقاقير التي تؤدي بدورها إلى تغيّرات كيميائية في الدماغ الناتج عنها الإصابةُ بالاكتئاب نفسه. ومن ذلك أيضاً تعاطي المخدرات والمسكرات المؤدية إلى الإدمان المروِّع والإحساس بأن الحياة لا شيء بدون معاقرتها. ومن ذلك العوامل الوراثية وبعض الأمراض العضوية. ولكن الذي يعنينا هنا من على هذا المنبر هي تلكم الأسباب التي تناولتها الشريعة الغراء من خلال ذمها والتحذير منها في غير ما آية أو حديث لكافة شؤون الدين والدنيا.
فقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على أن خواء القلب من ذكر الله ويُبس اللسان منه أمارة من أمارات الضيق والنكد والحزن وكسْف البال، فقد قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ [طه:124]. وقد جاء في السنة ما يدل على أن مواقعة المعاصي والاستهانة بها سبب رئيس من أسباب حلول هذا البلاء، فقد قال النبي : ((إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفِّرها من العمل ابتلاه الله عز وجل بالحزن ليكفرها عنه)) رواه أحمد[1].
ومن أسباب ذلك أيضاً قلق كثير من الناس وخواء أفئدتهم من الإيمان بالله وبقضائه وقدره، وفزعهم من المستقبل المجهول، والشعور بالوهن عن حمل المصائب وتحمل المشاقِ، فتجدون أمثال هؤلاء قوماً يفرقون، لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مُدَّخلا لولَّوا إليه وهم يجمحون.
ومن أسباب ذلك ـ عباد الله ـ إجلابُ الشيطان بخيله ورجله على ابن آدم فيوسوس إليه ليخنس، ويقذف في قلبه الحزن والكآبة من خلال تشويشه بكمّ هائل من الأحلام والرؤى الشيطانية في المنام، حتى تصبح في حياة الفرد هاجساً مقلقاً عند كل غمضة عين. ولذلك يُصاب المكتئب بالأرق المزمن وقلة النوم، وقد صح عند مسلم أن النبي ذكر نوعاً من الرؤى وهي التي تكون تحزينا من الشيطان يحزن بها ابنَ آدم[2].
وسبب آخر من أسباب هذه الأزمة يبرز من خلال كثرة الديون والحمالات المالية مع العجز والكسل على إيفائها، أو الجبن والبخل الذي يصيب المرء حينما يُبتلى بالفرق وسَعَار الكانز. ومما يدل على أن هذا الأمر يُعدُّ أساسا في حدوث مثل هذه الظاهرة ما رواه أبو داود في سننه أن النبي دخل المسجد ذات يوم فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: ((يا أبا أمامة، ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟!)) قال: همومٌ لزمتني وديون يا رسول الله، قال: ((أفلا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك؟!)) قال: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال))، قال أبو أمامة: ففعلت ذلك، فأذهب الله همي، وقضى عني ديني[3].
هذه بعض الأسباب لا كلها، وقد رأينا صلتَها الوثيقة بما جاء التحذير عنه في ملتنا السمحة ومنهاجنا الأغر. في حين إن جماع هذه الأسباب هو البعد عن هداية الله والاستقامةِ على طريقة والتعلقُ بالأسباب الدنيوية بعيداً عن مسببها سبحانه، ومن تعلق شيئا فقد وُكل إليه، ومن وُكل إلى غير الله فقد وُكل إلى ضيعة وخراب، فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَاء كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125].
قد قلت ما قلت، إن صوابا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
[1] أخرجه أحمد (6/157)، وابن حيان في طبقات المحدثين بأصبهان (558) من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها، قال المنذري في الترغيب (4/146): "رواته ثقات إلا ليث بن أبي سليم"، وقال الهيثمي في المجمع (2/291): "فيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات"، وقال في موضع آخر (10/192): "أخرجه أحمد والبزار وإسناده حسن"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2695).
[2] أخرجه مسلم في الرؤيا (2263) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أبو داود في الصلاة (1555) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال المنذري: "في إسناده غسان بن عوف وهو بصري وقد ضعف"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1141). |