أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
هنيئاً لمن وُفِّق للوقوف بعرفات، هنيئاً لمن سكب عند المشعر الحرام العبرات، هنيئاً لمن جأر إلى الله بأصدق الدعوات، هنيئاً لمن صام يوم عرفات، هنيئاً للتائبين والمستغفرين، فكم من تائب قُبلت توبته، ومُستغفر مُحيت حوبته، كم من مستوجب للنار أجاره الله منها وأبعده.
عباد الله، للعمل الصالح جزاءٌ في الدنيا والآخرة، فالجزاء في الدنيا حسنُ رعاية الله، ففي الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) رواه البخاري[1].
جزاء العمل الصالح المودَّةُ في قلوب المؤمنين، قال تعالى: إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وُدّاً [مريم:96]. حسنُ الذكر جزاءُ العمل الصالح، قال تعالى: وَءاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِى ٱلدُّنْيَا [العنكبوت:27]، أي: جمع الله تعالى لإبراهيم عليه السلام بين سعادة الدنيا الموصولة بسعادة الآخرة فكان له في الدنيا الرزق الواسع الهنيء، والمنزل الرحب، والمورد العذب، والثناء الجميل، والذكر الحسن، وكل أحد يحبه ويتولاه. تفريجُ الكروب جزاء العمل الصالح، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وفي الحديث عن النبي : ((انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم، حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدَّت عليهم الغار، فلم ينقذهم إلا توسُّلهم إلى الله بأعمالهم الصالحة))[2].
إخوة الإسلام، داوِموا على الخير الذي قدَّمتموه واحرِصوا على الفضل الذي نِلتموه بالمداومة على العمل الصالح، وفي مقدمة هذه الأعمال العباداتُ: الصلاة والزكاة والصيام والحج، فهي من أركان الإسلام التي لا يجوز التهاون بها مطلقاً أو التقليل من أهميتها.
العمل الصالح لا يقتصر على عبادات معينة ومجالات محددة، بل هو ميدان واسع ومفهوم شامل، فمن بنى مسجدا أو أنشأ مدرسة أو أقام مستشفى أو أشاد مصنعاً ليسدّ حاجة الأمة فإنه يكون بذلك قد عمل صالحا، وله بذلك أجر. من واسى فقيراً وكفل يتيماً من عاد مريضاً وأنقذ غريقاً وساعد بائساً وأنظر معسراً وأرشد ضالاً فقد عمل صالحاَ، قال عليه الصلاة والسلام: ((كل معروف صدقة)) أخرجه البخاري[3].
كل عملٍ ينتفع به الآخرون مأجور صاحبُه عليه وهو من الصالحات، الإحسان إلى البهائم عمل صالح، ورجل سقى كلبا فشكر الله له سعيه فغفر له[4]. إنظار المعسرين، التخفيف عنهم عمل صالح. غرس الأشجار، إماطة الأذى عن طريق الناس عمل صالح. الخدمة العامة للمجتمع وصيانة مرافق المسلمين العامة عملٌ صالح بالنية الصادقة، قال : ((مرّ رجل بغصْن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحِّين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأدخل الجنة)) أخرجه البخاري ومسلم[5]، وقال : ((الإيمان بضع وسبعون شعبة))، وفيه: ((أدناها إماطة الأذى عن الطريق)) أخرجه البخاري ومسلم[6].
على المرء أن لا يحقر المعروف، وأن لا يحقر عمل الخير مهما صغر، فالله يجازي على وزن الذرة من الخير، قال تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة:7]، وفي الحديث: ((لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) أخرجه مسلم[7].
وإذا قعَدت بالعبد قلةُ ذات اليد، وكان يملك نفساً توَّاقة للعمل الصالح فتح الله له من ميادين الخير حسب طاقته، فعن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي قال: ((على كل مسلم صدقة))، قالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد؟! قال: ((يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق))، قالوا: فإن لم يجد؟! قال: ((يعين ذا الحاجة الملهوف))، قالوا: فإن لم يجد؟! قال: ((فليعمل بالمعروف، وليمسك عن الشر فإنها له صدقة)) أخرجه مسلم[8].
كل من يؤدِّي رسالةً لأمته فهو في عمل صالح، الكاتب بقلمه الصالح المصلح، والطبيب بأدويته النافعة، والباحث في معمله، والفلاح في مزرعته، والمعلم بين يدي طلابه، والمسؤول يؤدي ما اؤتمن عليه، كل هؤلاء ينصرون الدين ولهم فضل عظيم.
إخوة الإسلام، المداومة على العمل الصالح من أحب الأعمال إلى الله، كما في الحديث القدسي: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)) أخرجه البخاري[9]، ومن هديه المداومة على الأعمال الصالحة، فعن عائشة رضي الله عنه قالت: كان رسول الله إذا عمل عملاً أثبته، وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. أخرجه البخاري ومسلم[10].
ذلك ـ عباد الله ـ أن المداومة على الأعمال الصالحة تعني اتصال القلب بخالقه، مما يُعطيه قوة وثباتاً وتعلقاً بالله عز وجل، واعتبر بعض أهل العلم هذا الأثر من الحِكَم التي شرعت من أجلها الأذكار المطلقة والمقيدة بالأحوال.
تتحقق محبة الله للعبد بالمداومة على الأعمال الصالحة، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهّرِينَ [البقرة:222].
المداومة على العمل الصالح سبب للنجاة من الشدائد، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت رديف النبي فقال: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة)) أخرجه الإمام أحمد[11].
المداومة على صالح الأعمال تنهى صاحبها عن الفواحش، قال تعالى: ٱتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].
المداومة على العمل الصالح سبب محو الخطايا والذنوب، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً، هل يبقى من درنه شيء؟!)) قالوا: لا، قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا)) رواه البخاري ومسلم[12]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حُطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) أخرجه البخاري ومسلم[13].
المداومة على العمل الصالح سببٌ لحسن الختام، ووجه ذلك أن المؤمن يصبر على أداء الطاعات كما يصبر عن المعاصي والسيئات، محتسباً الأجر على الله عز وجل، فيقوى قلبه على هذا، وتشتد عزيمته على فعل الخيرات، فلا يزال يجاهد نفسه فيها وفي الانكفاف عن السيئات، فيوفقه الله لحسن الخاتمة، قال تعالى: يُثَبّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27]، وقال تعالى: وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
المداومة على الأعمال الصالحة سببٌ للتيسير في الحساب، وتجاوز الله تعالى عن العبد، اجتمع حذيفة وأبو مسعود، فقال حذيفة: ((رجل لقي ربه فقال: ما علمت؟ قال: ما عملت من الخير إلا أني كنت رجلاً ذا مال فكنت أطالب به الناس، فكنت أقبل الميسور وأتجاوز عن المعسور، فقال: تجاوزوا عن عبدي))، قال أبو مسعود: هكذا سمعت رسول الله يقول. أخرجه البخاري ومسلم[14]. تجاوز الله عنه لمداومته التجاوز عن عباد الله.
المداومة على العمل الصالح سبب في أن يستظل الإنسان في ظل عرش الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله، أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبُه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) أخرجه البخاري ومسلم[15].
إخوة الإسلام، تتفاوت الأعمال الصالحة عند الله تفاوتاً عظيماً، فمن أعلاها بعد الإيمان أداء الفرائض واجتناب المحارم، ومن أدناها الكلمة الطيبة وإماطة الأذى عن الطريق، ففي الحديث الشريف: ((اتق المحارم تكن أعبد الناس)) أخرجه الترمذي[16]، وقال بعض السلف: "ترك ذرة مما حرم الله خير من قناطير من العبادة".
ومهما وفق الله تعالى العبد إلى أعمال صالحة فإنها ليست بالغةً به أن تؤهله إلى دخول الجنة التي عرضها السموات والأرض، إنما يدخل الله تعالى عبادَه السعداء جنتَه برحمته، وبمحض فضله وإحسانه وجوده وكرمه، ففي الحديث الشريف قال : ((سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يُدخل أحدًا الجنةَ عملُه)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة)) أخرجه البخاري ومسلم[17].
عباد الله، جزاء العمل الصالح في الآخرة النعيم العظيم والثواب المقيم، فقد أعد الله للمؤمنين الصالحين في الجنة دارِ الخلود ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال تعالى: وَبَشّرِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَـٰبِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ [البقرة:25]، وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَـٰتُ ٱلْعُلَىٰ جَنَّـٰتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّىٰ [طه:75، 76].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: التواضع (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] حديث أصحاب الغار أخرجه البخاري في الإجارة (2272)، ومسلم في الذكر والدعاء (2743) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في الأدب، باب: كل معروف صدقة (6021) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[4] حديث الرجل الذي سقى كلباً أخرجه البخاري في الوضوء (174)، ومسلم في السلام (2244) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في المظالم (2472)، ومسلم في البر (1914) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (9)، ومسلم في الإيمان (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليس عند البخاري: ((وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)).
[7] أخرجه مسلم في البر (2626) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[8] أخرجه مسلم في الزكاة (1088)، وهو عند البخاري أيضا في الزكاة (1445) واللفظ له.
[9] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: التواضع (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] هو عند مسلم في الصلاة (746).
[11] أخرجه أحمد (5/18-19) (2803)، والحاكم (3/623) والضياء في المختارة (10/24)، وصححه القرطبي في تفسيره (6/398)، وأخرجه بنحوه أيضاً أحمد (4/409-410) (2669)، والترمذي في صفة القيامة (2516) وقال: "حديث حسن صحيح"، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي أخرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[12] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب: الصلوات الخمس كفارة (528)، ومسلم في المساجد (667).
[13] أخرجه البخاري في الدعوات، باب: فضل التسبيح (6405)، ومسلم في الذكر والدعاء (2691).
[14] أخرجه البخاري في البيوع، باب: من أنظر موسراً (2077)، ومسلم في المساقاة، باب: فضل إنظار المعسر (1560) واللفظ له.
[15] أخرجه البخاري في الأذان (660)، ومسلم في الزكاة (1031).
[16] أخرجه أحمد (2/310)، والترمذي في الزهد (2305)، وأبو يعلى (6240)، والطبراني في الأوسط (7054)، والبيهقي في الشعب (7/78) من طريق الحسن البصري عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان، والحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئاً... وروى أبو عبيدة الناجي عن الحسن هذا الحديث قوله، ولم يذكر فيه عن أبي هريرة عن النبي "، ونقل المنذري في الترغيب (3/171) عن الترمذي أنه قال: "حسن غريب"، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب (2349).
[17] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: القصد والمداومة على العمل (6467)، ومسلم في صفة القيامة (2818) من حديث عائشة رضي الله عنها. |