أما بعد:
فيقول الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، أيها المرابطون، أيها المحتسبون، إن الصبر من الفضائل الإيمانية الخلقية، وهو النفحة الروحية التي يعتصم بها المؤمن، فتخفف بأسه، وتدخل السكينة والطمأنينة إلى قلبه، وتكون بلسماً لجراحاته. ولولا الصبر لانهارت أعصاب الإنسان لما يشاهد من البلايا والمصائب والنكبات، ولأصبح عاجزا عن السير في ركاب الحياة، وتحمل المسؤوليات.
لذا أولى القرآن الكريم عنايته بالصبر، وذكره بما يزيد عن مائة موضع، وأثنى على المتصفين بالصبر، فيقول: وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:96].
أيها المسلمون، أيها الصابرون، لم تذكر فضيلة من الفضائل الحميدة الأخرى في القرآن الكريم بمثل هذا العدد، وهذا يدل على أهمية موضوع الصبر، لأنه أساس لكثير من الفضائل، فالشجاعة هي الصبر على مكاره الجهاد والغزوات، والعفاف هو الصبر على الشهوات والمغريات، والحلم هو الصبر على المثيرات والجهالات، والكتمان هو الصبر على نشر الأخبار والمعلومات وهكذا...
أيها المسلمون، أيها المرابطون، نحن الآن نفتتن بالاجتياحات العسكرية المتكررة والحصارات الخانقة الظالمة، وبسبب الحرب الاقتصادية المدمرة الموجهة ضد الشعب الفلسطيني المؤمن المرابط، وذلك من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
إن هذا الشعب المؤمن يتأسى برسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم الذي مر في ظروف وأحوال قاسية أشد من الظروف التي نمر بها الآن، فقد قامت قريش بإنزال العقاب الجماعي على الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلى أقاربه من المسلمين، وعلى أصحابه وأتباعه المؤمنين. وقد شمل العقاب أيضاً غير المسلمين من أقاربه، لماذا؟ لأنهم رفضوا تسليمه لأهل قريش، فأصدرت قريش صحيفة حينئذ تعرف بصحيفة المقاطعة التي تتضمن عدم البيع والشراء مع المسلمين، وعدم تزويجهم كما لا يتزوجون منهم، وقد وضعت الصحيفة في جوف الكعبة، واستمر الحصار في سرب أي في واد من شعاب مكة مدة ثلاث سنوات، والمسلمون صابرون محتسبون لما أصابهم من جهد البلاء وشدة الكرب، حتى كانوا يأكلون ورق الشجر وقِطَع الجلود، ورفضوا التسليم والاستسلام، إلى أن هيأ الله العلي القدير الجبار المنتقم أسباب الفرج على أيدي نفر من أشراف قريش، قاموا ـ على شركهم وكفرهم ـ بنقض الصحيفة والمناداة برفع الحصار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أقاربه وأصحابه.
وذكرت كتب السيرة النبوية بأنهم وجدوا الصحيفة قد أكلتها الحشرات والأرضة باستثناء اسم الله عز وجل الذي بقي سالما، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز. ونقول للمسلمين في العالم: أين الذي سيفُكُّ الحصار عن أهل فلسطين؟!
أيها المسلمون، أيها المرابطون، أيها المحتسبون، يمر حبيبنا محمد عليه أفضل الصلاة وأفضل التسليم بامتحان آخر، ويتمثل ذلك بوفاة زوجه خديجة وعمه أبي طالب في عام واحد، عرف هذا العام بعام الحزن، فازدادت قريش إيذاءً لرسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم وتنكيلا بأصحابه رضوان الله عليهم، فخطط عليه الصلاة والسلام الذهاب إلى الطائف لعله يلمس اللين من جو مكة المكفهر، فكانت المحنة والمعاناة حين تصدى له سفهاء الطائف وغلمانهم، فرجموه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين، والسفهاء كما هو مشاهد موجودون في كل عصر وفي كل موقع.
فرجع عليه الصلاة والسلام حزيناً كئيباً، ودخل في طريقه إلى كرم عنب، ولجأ إلى الله عز وجل الذي لا ملجأ غيره داعيا ومتوجها بقلبه ومشاعره وأحاسيسه إليه قائلاً: ((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبَك أو تحل عليَّ سخطَك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)).
أيها المسلمون، في هذه اللحظات الصعبة الحرجة التي كان فيها عليه الصلاة والسلام نزل جبريل عليه السلام يقول له: اطلب ما شئت، فإن أردت أن يطبق الله عليهم الأخشبين ـ أي: الجبلين على أهل الطائف ـ لفعل، فقال عليه الصلاة والسلام صاحب القلب الكبير: ((اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون))، فأنزل الله عز وجل الآية الكريمة ثناءً على نبيه ومصطفاه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
أيها المسلمون، هذه لمحات من سيرة رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم وكيف أنه وصحابته قد لاقوا من الشدة والعنت والحصار والمقاطعة والقوة، ونحن شعب فلسطين المرابط نمر الآن في هذه الأجواء الصعبة والعنت الشديد من قبل سلطات الاحتلال لتنفيذ المشاريع الاستسلامية. هذه السلطات التي تقوم بإجراءات تعسفية ظالمة لا إنسانية، من قتل للأبرياء وللنساء والأطفال، وتشريد للعائلات، وقصف للمنازل، ومصادرة الأراضي، وإقامة المستوطنات عليها، ومن تعذيب للمعتقلين.
ينبغي علينا ـ أيها المسلمون ـ أن نقف في وجه هذه الممارسات الظالمة الجائرة ضمن إمكاناتنا، وأن لا نيأس ولا نستسلم، وعلى كل مسلم أن يتحلى بالصبر الإيماني، وأن يتلقاها بأعصاب ثابتة، فلا يفزع ولا يجزع، ولا يفاجأ بها حين نزولها وعليه لا يجوز للإنسان أن يقدم شكواه لإنسان آخر حين تكون الشكوى لله سبحانه وتعالى خالق الكون والإنسان والحياة، فإلى من المشتكى فيما نحن فيه من محنة وشدة وعنف، فالمؤمن شاكر صابر، فهو شاكر في الرخاء، وصابر في الشدة للحديث النبوي الشريف: ((عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وان إصابته ضراء صبر فكان خيراً له)).
وإذا عرتك بلية فاصبر لها صـبر الكـريم فإنـه بـك أعلـم
وإذا شـكـوت لابـن آدم إنما تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحم
أيها المسلمون، قد يقول القائل: إن الصبر مظهر من مظاهر السلبية والخنوع والاستسلام, إن هذا قول خاطىء مخالف لمفهوم الصبر بالشريعة الإسلامية، فإن الصبر في المفهوم الشرعي مرتبط بالإيمان وبالعمل الدؤوب، وإن الصبر يدعو إلى التخطيط والتنفيذ، وإن الصبر يحمي المسلم من القنوط والكسل.
الصبر عنصر من عناصر الرجولة والبطولة والثبات والرباط، وإن أثقال الحياة ومسؤولياتها، لا يقوى عليها إلا الرجال الصابرون، لا المهازيل ولا الجبناء ولا الأنانيون ولا الثرثارون كيف لا؟ والصبر نصف الإيمان ونصف حياة الإنسان ((واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري وأصبر حتى يأذن الله في أمري
وأصـبر حتـى يعلـم الصـبر أنـي صابر على شيء أمرّ من الصِبر
|