أما بعد:
أمة الإسلام، سيل من السهام وزحام من الأقلام وظنون كاذبة وأراجيف مبطلة وفرية شنيعة وكذبة فظيعة ونفوس مريضة، أعماها الحقد، وأعشاها الحنق، فانطلقت تهذي بما لا تدري، وتهرف بما لا تعرف، يقلد بعضها بعضاً، تتحاكى تحاكي الببغاء.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدّق ما يعتاده بالتوهم
فهذه الأقلام الجائرة والأفهام الحائرة يصدُق عليها بحق وحقيقة قول الأول:
إن يسمعوا سبّة طاروا بها فرحاً هذا وما سمعوا من صالح دفنوا
وكل ينفق مما عنده، وكل إناء بما فيه ينضح، نفوس جُبلت على المقت والبغضاء والكراهية والشحناء.
أمر غريب، وشأن عجيب، يوحي لك أن الأمر قضي بليلة ظلماء، وأعجب من ذلك أن تنطلق هذه الأكاذيب من أقلام تدعي المصداقية وقول الحقيقة مهما كلف الثمن، ونصبت نفسها محامية عن حقوق المجتمع ومدافعة عن قضايا الأمة ومعالجة لمشكلاتها، وهي ذاتها ركام المشكلات، ورصيد من العُقد النفسية، تصورت مفاهيم منكوسة، وتهيأ لها أحوال شيطانية، ثم تدافعت إلى بثها، وتسابقت إلى نشرها عند أدنى حدث، ولو كان كذباً مختلقاً، في إسقاطات كاذبة، وممارسات خطيرة.
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم
وأعجب من هذا كله أن يصرح أولو الشأن ويعلن أولو الأمر ومن هم على رأس الهرم في المسؤولية والتحري والاطلاع، يصرحون ببراءة رجال الهيئات من هذا الإفك براءة الذئب من دم ابن يعقوب، غير أن هؤلاء المرضى الأفاكين لا يزالون يكتبون ويتدافعون في سباق محموم، قُتِلَ ٱلْخَرصُونَ [الذاريات:10].
والأمر ـ أيها الأحبة في الله ـ لا يحتاج إلى تفكير طويل، ولا إلى ذهن ثاقب في حلّ هذا اللغز، لماذا يهجم هؤلاء الأفاكون على رجال الحسبة المصلحين من غير ذنب جنوه ولا جرم ارتكبوه؟
وإذا أردت أن تعرف سبب ذلك فاسأل متعاطي المخدرات ومروجيها عن جهاز مكافحة المخدرات وعن تقييمهم له، ماذا سيقولون؟ إنهم قطعاً سيكررون نفس المسرحية، وسيكيلون الشتائم لهذا الجهاز. واسأل اللصوص وقطاع الطرق عن رجال الأمن الذين يأخذون على أيديهم، ويمنعونهم من ممارسة مهنتهم القذرة وهوايتهم الدنيئة، فماذا تظن؟ ماذا تظن أن يقولوا؟ وهكذا، هكذا هؤلاء الموتورون حين تسنح لهم الفرصة لينقضوا على جهاز الإصلاح الحسبة الذي منعهم من شهواتهم المحرمة، وحال دون تنفيذ مشاريعهم المشبوهة، وإنك إن تأملت فلن تعدم لهؤلاء أو أكثرهم ملفات ضمن قضايا الهيئات من الحوادث المخلة بالشرف والكرامة.
وكان لزاماً على المنابر أن تقون كلمتها، وتعلن رأيها بكل صدق ووضوح، دفاعاً للعدوان، وإزهاقاً للباطل، وكشفاً للحقيقة، والساكت عن الحق شيطان.
والخطاب أولاً إليك أيها المسلم، وإليك أيتها المسلمة، فأنتما المستهدفان من هذا كله، لرسم صورة بغيضة مقيتة للصالحين في أنظاركما، وتكريههم في نفوسكم، تمهيداً للمطالبة بإلغاء هيئات الحسبة ونزع صلاحيات الرئاسة العامة لتعليم البنات من الصالحين، أهل الأمانة والعلم الذين حفظوها وصانوها واجتهدوا في تنقية مناهجها، وبث الدعوة إلى الله فيها، وحفظها من المخالفات الشرعية، وصيانة منسوباتها من التبذل والتبرج والتسيّب، حتى كانت هذه الرئاسة مظهراً من مظاهر تميّز هذا البلد، تخرج الفتاة منها على درجة من العلم والبصيرة، وأعظم من ذلك من الديانة والصيانة، وهذا كله لا يسرّ مرضى النفوس أهل الكذب والزيف والافتراء.
إنك يا أخي، حين ترى جرأتهم وإقدامهم في الهجوم على المؤسسات الدينية كالقضاء والهيئات والدوائر المحافظة كرئاسة تعليم البنات لنتساءل بصدق: أي شيء يحتمي به أولئك الأفاكون؟ ومن وراءهم؟ ومن يمنحهم الحصانة من المساءلة والمقاضاة؟ في الوقت الذي يجترئون فيه على الأعراض والحرمات وعلى المسؤولين وأجهزة الدولة، من يحمي هؤلاء المعتدين؟ وهل يمكن أن يكون هؤلاء قد أعطوا الضوء الأخضر للهجوم على المؤسسات الدينية؟ ثم أين هؤلاء من بقية المؤسسات الرسمية التي لا تخلو من تفريط وجوائح تنزل بها؟ أين الصحافة حين احترقت طائرة في مطار الرياض وقتل أكثر من مائتين وخمسين نفساً؟! أين الصحافة عن الحمى المتصدع والذي انتشر من خلال الأغنام المريضة ومات بسبب الوباء مئات الناس؟ لماذا لم يصرخ هؤلاء ويطالبون باستقالة وزير الزراعة ناهيك عن محاكمته؟ أين الصحافة عن حوادث المواصلات والذي تحصد الطرق المتخلفة المهترئة سنوياً أرواح آلاف الناس والشباب بصفة خاصة؟ لم يقل أحد مع الأسف الشديد: حاكموا وزير المواصلات، فهل فهمت؟ هل فهمت أيها المسلم وأيتها المسلمة؟
أما الحوادث والأخطاء فتوجد في كل مكان، والخطأ إن وجد يحمَّل به شخصاً ولا يُعدَّى إلى البريء، فكيف إذا كانت المسألة فرية من أولها إلى آخرها؟ كم يذهب من الأنفس في الجمرات، وفي مواقف الحج، وهذه الأيام في حوادث القطارات، فأين هذا التباكي؟ أين هذا التباكي على الجثث المتفحمة ورائحة الشواء وغير ذلك مما نسمع من عبارات التفخيم والتضخيم والتهويل؟ علماً أن الموت كان نتيجة دهس وتزاحم الموجودات، فلا شواء ولا تفحم ولكن المكابر لا حيلة فيه.
وأنت أيها المسلم، إذا تأملت استغلال هؤلاء المبطلين للحدث وأعدت النظر، وأمعنت الفكر، تبين لك الأمر بجلاء، أن ذهاب الأنفس ليس لأولئك بكبير همٍّ ولا صغير، ولا يعنيهم في قبيل ولا دبير، وإلا فكم يذهب من ملايين المسلمين تحت مطارق الكفر، وكم يُسحق في أفغان والشيشان وكشمير حديثاً ليس بالظنون ولا بالأكاذيب، فأين سفح الدموع؟ أين سفح الدموع على سفك الدماء وبأيدي الكفرة من اليهود والنصارى والشيوعيين وعباد البقر؟
لعلك أيها المسلم تندهش ويشتد عجبك لو علمت أن هذه النفوس الباكية الكاذبة الخاطئة لا تسعها أجسامها فرحةً بالقضاء على المسلمين، فهذا كاتب خبيث صاحب السوابق عدو الحجاب والذي ركب الموجة وتباكى كغيره وذكَّر بخطر الحجاب على الأرواح البريئة، هو الذي أعلن في رمضان أن العيد عيدان عيد الفطر وعيد القضاء على الإرهاب في أفغانستان، ولا يزال يهلل ويطبل ويزغرد على أحزان المسلمين وآلامهم وأوجاعهم ودمائهم وأشلائهم في أفغانستان، فالمسألة مكشوفة، وإلا فما علاقة الحدث بالحجاب حتى يطالب بإلغائه؟ وما علاقته بالهيئات حتى تهاجم زوراً وبهتانا؟ فيكتب أحدهم بكل وقاحة وجرأة على الله: هيئة الأمر بالموت والنهي عن الحياة، قتله الله وقاتله وأمثاله.
فافهموا أيها المسلمون، وافتحوا أعينكم إلى النهاية، وقوموا قياماً على أمشاط أرجلكم دفاعاً عن الحسبة، وعن الحجاب، وعن الإسلام والمسلمين، وعن أعراضكم وحرماتكم، ولا يستخفنكم الذين لا يوقنون.
والخطاب ثانياً إلى أصحاب الأقلام، ومنهم صاحب القلم النظيف، إلى أصحاب الأقلام النظيفة، إلى الكتاب الذين يحترمون أنفسهم ويغارون على دينهم ويحيون العدل ويكرهون الظلم، إلى أصحاب الأقلام الشريفة التي طالما نصرت الحق ودفعت الباطل وأزهقته، هذا يومكم، وجاء دوركم، لتؤدوا دوراً مهما في بيان الحق ونصرته، وكشف الباطل وإزهاقه، هنا دوركم لكبح جماح الأقلام القذرة التي تتقيأ السم الزعاف، وأنتم بذلك على ثغر عظيم من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلكم.
والخطاب ثانياً أيضاً إلى صاحب القلم السيئ، أيها الكاتب، يا من جردت قلمك وأهرقت مداده الأسود مردِّدا تهماً ومزاعم ومروِّجاً للشائعات الكاذبة، ألا تعلم أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً، ألا تتقي الله؟ ألا تقدِّر الأمانة أمانة الكلمة، وشرف المهنة؟ إن مجرد التشهير بشخص وتجريحه وقذفه بلا بينة صادقة إفك وبهتان عظيم وكذب مبين، كما جاء في القرآن العظيم: إِنَّ ٱلَّذِينَ جَاءوا بِٱلإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإثْمِ وَٱلَّذِى تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ لَّوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَـئِكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْكَـٰذِبُونَ [النور:11-13]، فكيف إذا كان التجريح لأناس كثير، نذروا أنفسهم للجهاد في سبيل ربهم، والأمر بالخير، والنهي عن الفساد في الأرض، متحملين في ذات الله أبشع أنواع الاعتداء والاستهزاء والإهانة، ومخاطرين بحياتهم، يسهرون الليالي إلى أسحارها، يحمون الأعراض من مرضى القلوب وفجارها، عازفين عن الدنيا وثرواتها، وأنهارها وأشجارها، ألظَّتهم المنكرات، وأحرقت أجفانهم، وأقضت مضاجعهم، وأسهرت جنوبهم، وحرمتهم لذيذ النوم، بل لذليذ العبادة، ومع ذلك لا يسلمون من الحملات المغرضة، والأقلام التي سطرتها نفوس خلية من كل هم إلا من هم إشاعة الفاحشة، وتزيين المنكر والتفنن في نشره، شبعت من نعمة الله وبطرت، فتفرغت للباطل والإفك وسطرت، وقديماً قالت العرب: ويل للشَّجِيِّ من الخَلِيِّ.
أيها الكاتب، إذا كنت تدعي الصدق والإنصاف والشجاعة فابحث عن كبش فداء آخر، ودعك من طعن الأسير وتمزيق جلود الموتى.
إن طعن القتيل ما عاد فخراً فلماذا تمزقـون الجلـودا؟!
ومن اللؤم امتهـان الأسارى والأسـارى يعالجون القيودا
ألا توجد أخطاء عند غيرهم، وأخطاء دافعها الشهوات والنزوات؟! هاجم إن كان فيك بقية شجاعة القطاعات الحكومية الأخرى، مع كون ذلك غير سائغ ولا مقبول.
أسدٌ علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
أيها الكاتب، كن منصفاً ولو مرة، ومرّر هذه التهم الباطلة إلى عقلك إن كان الهوى أبقى لك عقلاً، قبل أن تمررها على بنانك وسبابتك السابّة الخاطئة.
لعلكم تظنون رجال الحسبة من نوع أسيادكم الخواجات الذين يتلذذون لمقتل الأطفال الأبرياء والنساء والضعفاء في فلسطين وأفغانستان، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
يا أُغيلمة الصحافة، حُق فيكم قول الحق وصدق: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوٰهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٌ، وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٌ.
أين التثبت من الأخبار، وهو أمر تقتضيه العقول السليمة وتشدد عليه الشرائع السماوية؟! يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَـٰدِمِينَ [الحجرات:6].
يا كتاب الصحافة، أذكركم الله وأمانة الكلمة وقول رسول الله في الحديث الصحيح: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، تهوي به في جهنم)).
أحذركم من البغي ومن دعوات المظلومين ومن سهام الليل في الأسحار وأنصاف الليالي، أذكركم بقوله في الرجل الذي يشرشر شدقه إلى قفاه إلى يوم القيامة، وهو الرجل يكذب الكذبة تبلغ الآفاق. الله أكبر، كم شرقت فراكم وغرّبت، وشمألت وأجنبت، وبلغت آفاق الدنيا، ستسألون ـ والله ـ عن هذا كله في يوم تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30]، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]، فانظروا بأي جواب تخرجون، ورب كلمة تقول لصاحبها: دعني، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.
يا أغيلمة الصحافة، اذكروا أن كل كتاب مسطور، وكل عمل منشور، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصَّل ما في الصدور.
هذي الكتابة ديْن أنت غارمهُ كل بما سطرت يُمناه مرتهن
فماذا أنت قائل؟ ماذا أنت قائل ـ أيها الكاتب ـ إذا وقفت بين يدي الواحد القهار العزيز الجبار؟
وما من كـاتب إلا سيبلى ويُبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه
يا شباب الأمة، يا هواة الكتابة، لا يكن أحدكم إمّعة، ولا يعر قلمه فكر غيره، يقلد غيره، ويقلد التقليد الأعمى، ليكن حراً مفكراً نزيهاً متحرراً متجرداً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم.
|