أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه عليها المعوَّل، وعليكم بما كان عليه سلف الأمة والصدر الأول، واشكروه على ما أولاكم من الإنعام وطوَّل، وقصروا الأمل، واستعدوا لبغتة الأجل، فما أطال عبدٌ الأمل إلا أساء العمل، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها المسلمون، إن الشهور والأعوام، والليالي والأيام مواقيت الأعمال ومقادير الآجال، تنقضي جميعاً وتمضي سريعاً، والليل والنهار يتعاقبان لا يفتران، ومطيَّتان تقربان كل بعيد، وتدنيان كل جديد، وتجيآن بكل موعود إلى يوم القيامة، والسعيد لا يركن إلى الخُدَع، ولا يغترُّ بالطمع، فكم من مستقبل يوماً لا يستكمله، وكم من مؤَمِّلٍ لغدٍ لا يدركه، وَلَن يُؤَخّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11].
أيها المسلمون، هذا عام من أعماركم قد تصرّمت أيامه، وقُوِّضت خيامه، وغابت شمسه، واضمحل هلاله، إيذانا بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وأن ما بعدها دارٌ إلا الجنة أو النار، فاحذروا الدنيا ومكائدها، فكم غرّت من مُخلِد فيها، وصرعت من مكبّ عليها، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) أخرجه البخاري[1].
عباد الله، ذهب عامكم شاهداً لكم أو عليكم، فاحتطبوا زاداً كافياً، وأعدوا جواباً شافياً، واستكثروا في أعماركم من الحسنات، وتداركوا ما مضى من الهفوات، وبادروا فرصة الأوقات، قبل أن ينادي بكم منادي الشتات، ويفجأكم هادم اللذات، فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي يعظ رجلاً ويقول له: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، فما بعد الدنيا من مستعتب ولا بعد الدنيا دارٌ إلا الجنة أو النار)) أخرجه الحاكم[2].
فيا من قد بقي من عمره القليل، ولا يدري متى يقع الرحيل، يا من تُعد عليه أنفاسه استدركها، يا من ستفوت أيامه أدركها، نفسك أعزُّ ما عليك فلا تهلكها، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها)) رواه مسلم[3].
ويا من أقعده الحرمان، يا من أركسه العصيان، كم ضيّعت من أعوام، وقضيتها في اللهو والمنام، كم أغلقت باباً على قبيح، كم أعرضت عن قول النصيح، كم صلاةٍ تركتها، ونظرة أصبتها، وحقوق أضعتها، ومناهي أتيتها، وشرور نشرتها، أنسيت ساعة الاحتضار؟! حين يثقل منك اللسان، وترتخي اليدان، وتشخصُ العينان، ويبكي عليك الأهل والجيران، أنسيت ما يحصل للمحتضر حال نزع روحه؟! حين يشتد كربه، ويظهر أنينه، ويتغيّر لونه، ويعرق جبينه، وتضرب شماله ويمينه، هذا رسول الله ، وليس أكرم على الله من رسوله، إذ كان صفيه وخليله، حين حضرته الوفاة، كان بين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يُدخل يده في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)) رواه البخاري[4].
عباد الله، أين من عاشرناه كثيراً وألفنا، أين من ملنا إليه بالوجدان وانعطفنا، كم أغمضنا من أحبابنا جَفْناً، كم عزيز دفنّاه وانصرفنا، كم قريب أضجعناه في اللحد وما وقفنا، فهل رحم الموت منا مريضاً لضعف حاله وأوصاله؟! هل ترك كاسباً لأجل أطفاله؟! هل أمهل ذا عيال من أجل عياله؟! أين من كانوا معنا في الأعوام الماضية؟! أتاهم هادم اللذات، وقاطع الشهوات، ومفرّق الجماعات، فأخلى منهم المجالس والمساجد، تراهم في بطون الألحاد صرعى، لا يجدون لما هم فيه دفعاً، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ينتظرون يوماً الأمم فيه إلى ربها تُدعى، والخلائق تُحشر إلى الموقف وتسعى، والفرائص ترعد من هول ذلك اليوم والعيون تذرف دمعاً، والقلوب تتصدع من الحساب صدعاً.
فيا من تمرّ عليه سنة بعد سنة، وهو في نوم الغفلة والسِنة، يا من يأتي عليه عام بعد عام، وقد غرق في بحر الخطايا وهام، قل لي بربك لأي يوم أخرت توبتك؟! ولأي عام ادخرت أوبتك؟! إلى عام قابل، وحول حائل، فما إليك مدة الأعمار، ولا معرفة المقدار، فبادر التوبة واحذر التسويف، وأصلح من قلبك ما فسد، وكن من أجلك على رصد، وتعاهد عمرك بتحصيل العدد، وفرَّ من المجذوم فرارك من الأسد، فقد أزف الرحيل وقرب التحويل، والعمر أمانة، سيُسأل عنه المرء يوم القيامة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تزول قدما ابن ادم يوم القيامة من عند ربه حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم)) رواه الترمذي[5]، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما ندمتُ على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي).
أيها المسلمون، أين الحسرات على فوات أمس؟! أين العبرات على مقاساة الرمس؟! أين الاستعداد ليوم تدنو فيه منكم الشمس؟! فتوبوا إلى ربكم قبل أن يشتمل الهدم على البناء، والكدر على الصفاء، وينقطع من الحياة حبل الرجاء، وقبل أن تخلو المنازل من أربابها، وتؤذن الديار بخرابها، واغتنموا ممرَّ الساعات والأيام والأعوام، وليحاسب كل واحد منكم نفسه، فقد سعد من لاحظها وحاسبها، وفاز من تابعها وعاتبها. وهلموا إلى دار لا يموت سكانها، ولا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبابها، ولا يتغير حُسنها، يقول النبي : ((من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه)) أخرجه مسلم[6].
فيا عبد الله، استدرك من العمر ذاهباً، ودع اللهو جانباً، وقم في الدجى نادباً، وقف على الباب تائباً، بلسان ذاكر، وجفن ساهر، ودمع قاطر، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) أخرجه مسلم[7].
فأحسن فيما بقي، يُغفر لك ما مضى، فإن أسأت فيما بقي، أُخذت بما مضى وبما بقي.
يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلَـٰقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَىٰ سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً [الانشقاق:6-15].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الرقاق (6416).
[2] هو في مستدركه (4/341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وليس فيه الجزء الأخير، وقال : "صحيح على شرط الشيخين" ، ولم يتعقبه الذهبي ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355) ، لكن ذكر له البيهقي في الشعب علّة (7/263) وهي أن الصحيح أنه من رواية عمرو بن ميمون الأودي مرسلاً ، كذا أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص2) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7/77) ، وصححه الحافظ في الفتح (11/235).
[3] أخرجه مسلم في الطهارة (223).
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6510) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[5] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2416) وقال : "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي إلا من حديث الحسين بن قيس ، وحسين بن قيس يضعّف في الحديث من قبل حفظه ، وفي الباب عن أبي برزة وأبي سعيد" ، وله شاهد أيضاً من حديث معاذ رضي الله عنه ، ولذا حسنه الألباني في الصحيحة (946).
[6] أخرجه مسلم في الجنة (2836) من حديث أبي هريرة.
[7] أخرجه مسلم في التوبة (2759). |