أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل وخشيته وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُون [النور:52].
عباد الله، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على كمال قدرته وكمال خلقه ورحمته.
كلما تأملت عظمتهما ونفعهما وانتظام سيرهما، عرفت وأيقنت بكمال قدرة خالقهما، وإذا نظرت إلى ما في اختلاف سيرهما من المصالح والمنافع، تبين لك كمال حكمته ورحمته.
ألا وإن من حكمة الله في سيرهما ما يحدث فيهما من ذهاب ضوئهما كله أو بعضه وهو ما يسمى بالكسوف أو الخسوف، فهذا إنما يحدث بأمر الله يخوف الله به عباده؛ ليتوبوا إليه ويستغفروه ويعظموه.
وقد كسفت الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج فزعاً يجر رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصلى بهم صلاة طويلة ثم سلم وقد انجلت الشمس، ثم خطب بالناس ووعظهم موعظة بليغة، فأثنى على الله بما هو أهل له سبحانه وتعالى، ثم قال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، فافزعوا إلى المساجد، فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره)).
وفي رواية: ((فادعوا وتصدقوا وصلوا)) ثم قال: ((يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً))، وقال: ((ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، وأوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم قريباً، أو مثل فتنة الدجال)) ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر، وقال: ((لقد جيء بالنار يحطم بعضها بعضاً، وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها حتى رأيت عمرو بن لحي يجر أقصابه ـ أي أمعاءه ـ في النار، ورأيت صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً))، قال: (( ثم جيء بالجنة، وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي فأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل)) رواه مسلم في صحيحه.
عباد الله، إن كسوف الشمس حدث عظيم مخيف ودليل ذلك ما حدث للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من الفزع والصلاة وقولِه صلى الله عليه وسلم: ((ولكنهما آيتان من آيات الله، يخوف بهما عباده)).
وإن مما يؤسف له ـ يا عباد الله ـ أن يظن بعض الناس أن ذلك ظاهرة طبيعة مجردة متأثراً بأقوال من لا يرجون حساباً وكذبوا بآيات الله كذاباًُ، يظن أن ذلك لا أثر له بذنوب العباد، ويستدل لذلك بمعرفة الفلكيين بحدوث الكسوف والخسوف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "العلم بذلك وإن كان ممكناً فإنه لا يترتب عليه علم شرعي، فإن صلاة الكسوف والخسوف لا تصلى إلا إذا شاهدنا ذلك، ومن نوى أن يصلي الكسوف والخسوف عند ذلك واستعد ذلك الوقت لرؤية ذلك كان هذا حثاً من باب المسارعة إلى طاعة الله تعالى وعبادته" ثم قال رحمه الله: " وفي رواية في الصحيح: ((ولكنهما آيتان من آيات الله، يخوف بهما عباده)) وهذا بيان منه صلى الله عليه وسلم أنها سبب لنزول عذابٍ بالناس، فإن الله إنما يخوف عباده بما يخافونه إذا عصوه وعصوا رسله…"اهـ.
عباد الله، إن تلك النظرة المادية المجردة أثرت على كثير من الناس، فأضعفت عندهم الربط بين الأسباب ومسبباتها، ولم يدركوا العلاقة بين الأعمال وآثارها، نشأ في المسلمين فريق تلبسوا بالشهوات فذهبوا بها كل مذهب، وغلبت على آخرين منهم شبهات تواردت عليهم من الشرق أو الغرب حتى رأوا في كسوف الشمس منظراً جمالياً، لا ينبغي أن يفوت الاستمتاع بمشاهدته، فضلّوا بذلك عن إدراك سنن الله هُوَ ٱلَّذِى يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىء ٱلسَّحَابَ ٱلثّقَالَ وَيُسَبّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَٱلْمَلْـٰئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ ٱلصَّوٰعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَـٰدِلُونَ فِى ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ [الرعد:12، 13].
عباد الله، لقد توالت علينا النذر تحذرنا من المعاصي وتلين منا القلب القاسي، فالمعاصي لها شؤمها ولها عواقبها في النفس والأهل في البر والبحر، تضل بها الأهواء، وتفسد بها الأجواء ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
وإن كسوف الشمس من هذه النذر، فمن يدري ما وراء هذا التخويف من عقوبات عاجلة أو آجلة في الأنفس والأموال والأولاد؟ عقوبات عامة أو خاصة؟ الله أعلم بها، وهو القادر أن يقينا شرها.
وإن من المؤسف ـ يا عباد الله ـ أن نغفل عن هذه السنن، حتى رأينا ذلك أمراً طبَعيًّا مجرداً، لا يهتز له جنان ولا تذرف له عينان، وما أوتينا إلا بسبب قسوة قلوبنا وما ران عليها من الذنوب كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ ٱلْجَحِيمِ [المطففين:14-16].
نشاهد هذه الآية العظيمة، فلا تتحرك القلوب، ولا يفزع إلى الصلاة وذكر الله إلا القلة من الناس، وما ذاك إلا بسبب الإقامة على اللهو الحرام والاجتماع على الموائد الآثمة، حتى ضعف بسبب ذلك اليقين، وامتلأت القلوب بالشكوك، تمكنت منها الشياطين فباضت فيها وفرخت.
يا من تظن أن هذه الآية لا علاقة لها بذنوب العباد، وأنها أمور طَبَعِيَّة، سببها حيلولة القمر بين الأرض والشمس، وتستدل لذلك بمعرفة الفلكيين له قبل حدوثه وتحديدهم له بالساعة والدقيقة ابتداء وتوسطاً وانتهاءً.
فلتعلم أن الذي قدر الأسباب هو الله، فمن الذي جعل القمر يحول دون ضوء الشمس؟ من يقدر على هذا إلا الله! من الذي يسير هذه الأفلاك؟! من الذي يحفظ توازن الكواكب ويقدر على انتظام سيرها إلا الله!
إن الشك في ذلك خلل في توحيد الربوبية فضلاً عن توحيد الألوهية، ثم إن الله تبارك وتعالى لا يقدر إلا لحكمة، فهو الحكيم العليم، وحكمة ذلك تخويف العباد بنص كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم، والمؤمن العاقل يستطيع أن يجمع بين السبب الشرعي والسبب الكوني، فيعلم علم اليقين أن الله هو الذي قدر ذلك لحكمة معلومة من نصوص الشريعة.
عباد الله، إن ذلك يدعونا لمعرفة سعة رحمة الله بعباده وفضله عليهم، يرسل لنا النذر، ويرينا الآيات، لعلنا نستيقظ من الغفلة، لعلنا نحاسب أنفسنا على التقصير في جنب الله، لعلنا نصحح واقعنا ونتوب من ذنوبنا، يمهلنا ويذكرنا حتى لا يأخذنا على حين غرة.
عباد الله، إن الذنوب والآثام ظلمات بعضها فوق بعض، بها تزول النعم، وتحل النقم، وتتحول العافية، وبها يستجلب سخط الله، فالله يخوفنا عواقب الذنب. فلنخف من الله ولنستحي منه، ولنأخذ أنفسنا بالعزيمة على الرشد والبعد من الغي، ولنصغِ لداعي الله، ولنستمع لكلام الناصحين والواعظين ولنتق الله في السر والعلن، وغاروا ـ عباد الله ـ على حرمات الله، يسلم لكم دينكم وعرضكم، وتأمنوا من عذاب الله ومكره.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِٱلاْيَـٰتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلاْوَّلُونَ وَءاتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِٱلاْيَـٰتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|