أما بعد:
فيا أيها المسلمون الوافدون لطابة، قدِمتم خير مقدَم، وغنمتم خيرَ مغنم، وطاب في طيبة بقاؤكم، وتقبّل الله صالح أعمالكم، وبلّغكم خير آمالكم، حُيِّيتم في دار الهجرة والنصرة بلد المصطفى المختار، ومهاجَر الصحابة الأخيار، وديار الأنصار، فأنتم في هذه البلاد ـ بلاد الحرمين الشريفين وخادمة المسجدين العظيمين ـ بين أهليكم وذويكم ومحبيكم، خِدمتُكم شرفُها، وراحتكم مطلبها، والقيام بما تحتاجون وظيفتها وواجبها، فالديار دياركم، والبلاد بلادكم.
أيها الوافدون لطابة، إنكم في بلد هي بعد مكة خير البقاع، وأشرف الأماكن والأصقاع، فاعرفوا حقَّها، واقدروا قدرها، وراعوا حرمتَها وقداستها، وتأدبوا فيها بأحسن الآداب، واعلموا أن الله توعد من أحدث فيها بأشدِّ العذاب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي أنه قال: ((المدينة حرم ما بين عَيْر إلى ثَوْر، فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً)) متفق عليه، فمن أتى فيها إثمًا أو آوى من أتاه وضمّه إليه وحماه فقد عرّض نفسه للعذاب المهين وغضب إله العالمين. وإن من أعظم الإحداث تكدير صفوها بإظهار البدع والمحدثات، وتعكيرها بالخرافات والخزعبلات، وتدنيس أرضها الطاهرة بنشر المقالات البدعية، والكتب الشركية، وما يخالف الشريعة الإسلامية من ألوان المنكرات والمحرمات، والمحِدث والمؤوي له في الإثم سواء.
أيها الوافد الزائر لمسجد سيد الأوائل والأواخر ، هل فقهت ما يتعلق بهذه الزيارة من أحكام؟ هل علمت الحلال فيها من الحرام أم أنت ممن قلّد العوام، واتبع الطغام، وجهل سنة سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام؟
أيها الزائر المكرَّم، إليك كلمات منتقاة وتوجيهات مستقاة من الكتاب والسنة، ما هي إلا إشارة وإنارة في أحكام هذه الزيارة، وبالكتاب والسنة يحتمي المسلم من ضلال الضُلال، وجهالة الجُهَّال، وبدع الأقوال، ومحدثات الأفعال.
أيها المسلمون، زيارة المسجد النبوي سنة من المسنونات، وليست واجبًا من الواجبات، ليس لها علاقة بالحج ولا هي له من المتمِّمات، وكل ما يُروى من أحاديث في إثبات علاقتها أو علاقة زيارة قبر المصطفى بالحج فهو من الموضوعات والمكذوبات، ومن قصد بشدِّ رحله إلى المدينة زيارة المسجد والصلاة فيه فقصده مبرور، وسعيه مشكور، ومن لم يرُم بشدّ رحله إلا زيارة القبور والاستعانة بالمقبور فقصده محظور، وفعله منكور، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)) متفق عليه، وعن جابر رضي الله عنهما، عن رسول الله أنه قال: ((إن خير ما رُكبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق)) أخرجه أحمد.
أيها المسلمون، الصلاة في مسجد المدينة مضاعفة الجزاء، فرضًا ونفلاً في أصحّ قولي العلماء، يقول عليه الصلاة والسلام: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواها إلا المسجد الحرام)) متفق عليه، إلا أن صلاة النافلة في البيت أفضل من صلاتها في المسجد حتى ولو كانت مضاعفة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)) متفق عليه.
أيها الزائر المكرَّم لهذا المسجد المعظم، اعلم أنه لا يجوز التبرك بشيء من أجزاء المسجد النبوي، كالأعمدة أو الجدران أو الأبواب أو المحاريب أو المنبر، بالتمسح بها أو تقبيلها، كما لا يجوز التبرك بالحجرة النبوية باستلامها أو تقبيلها أو مسح الثياب بها، ولا يجوز الطواف عليها، ومن فعل شيئًا من ذلك وجب عليه التوبة وعدم العودة.
ويُشرع لمن زار المسجد النبوي أن يُصلي في الروضة الشريفة ركعتين أو ما شاء من النفل لما ثبت فيها من الفضل، فعن أبي هريرة عن النبي قال: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي)) متفق عليه، وعن يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع فيصلِّي عند الأسطوانة التي عند المصحف، أي في الروضة الشريفة، فقلت: يا أبا مسلم، أراك تتحرّى الصلاة عند هذه الأسطوانة! فقال: فإني رأيت النبي يتحرّى الصلاة عندها. متفق عليه.
والحرص على الصلاة في الروضة لا يسوِّغ الاعتداء على الناس، أو مدافعة الضعاف، أو تخطّي الرقاب.
ويُشرع لزائر المدينة والساكن بها إتيان مسجد قباء للصلاة فيه؛ اقتداءً بالمبعوث في أم القرى، وتحصيلاً لأجر عمرة بلا امتراء، فعن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله : ((من خرج حتى يأتي هذا المسجد ـ يعني: مسجد قباء ـ فيصلي فيه كان كعدل عمرة)) أخرجه أحمد، وعند ابن ماجه: ((من تطهّر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له أجر عمرة))، وفي الصحيحين أن رسول الله كان يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيًا وراكبًا فيصلي فيه ركعتين.
أيها الزائر المكرَّم، لا يُشرع زيارة شيء من المساجد في المدينة النبوية سوى هذين المسجدين: مسجد رسول الله ومسجد قباء، ولا يشرع للزائر ولا لغيره قصد بقاع بعينها، يرجو الخير بقصدها أو التعبد عندها لم تستحبَّ الشريعة قصدتها، وليس من المشروع تتبع مواطن أو مساجد صلى فيها رسول الله أو غيره من الصحابة الكرام لقصد الصلاة فيها أو التعبد بالدعاء ونحوه عندها، وهو لم يأمر بقصدها، ولم يحث على زيارتها، فعن المعرور بن سويد رحمه الله تعالى قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب ، فعرض لنا في بعض الطريق مسجد، فابتدره الناس يصلون فيه، فقال عمر : (ما شأنهم؟!) فقالوا: هذا مسجد صلى فيه رسول الله ، فقال عمر : (أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا، حتى أحدثوها بيعًا، فمن عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض) أخرجه ابن أبي شيبة، ولما بلغ عمر بن الخطاب أن ناسًا يأتون الشجرة التي بُويع تحتها النبي أمر بها فقطعت. أخرجه ابن أبي شيبة.
أيها المسلمون، وشرع لزوار المسجد النبوي من الرجال زيارةُ قبر النبي وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، للسلام عليهم والدعاء لهم، أما النساء فلا يجوز لهن زيارة القبور في أصح قولي العلماء لما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُرج، ولما رواه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله لعن زوارات القبور.
وصفة الزيارة أن يأتي الزائر القبر الشريف فيستقبله بوجهه ويقول: "السلام عليك يا رسول الله"، ثم يتقدم إلى يمينه قدر ذراع فيسلم على أبي بكر ويقول: "السلام عليك يا أبا بكر"، ثم يتقدم قليلاً إلى يمينه قدر ذراع للسلام على عمر بن الخطاب فيقول: "السلام عليك يا عمر". وليحذر الزائر الوقوع في إحدى المخالفات التالية:
المخالفة الأولى: دعاء الرسول أو نداؤه أو الاستغاثة به أو الاستعانة به كقول بعضهم: "يا رسول الله اشف مريضي، يا رسول الله اقض ديني، يا وسيلتي، يا باب حاجتي" أو غير ذلك من الأقوال الشركية والأفعال البدعية، المضادَّة للتوحيد الذي هو حق الله على العبيد.
المخالفة الثانية: الوقوف أمام القبر كهيئة المصلي، بوضع اليمين على الشمال على الصدر أو تحته، وذلك فعل محرّم؛ لأن تلك الهيئة هيئة ذل وعبادة لا تجوز إلا لله عز وجل.
المخالفة الثالثة: الانحناء عند القبر أو السجود أو غير ذلك مما لا يجوز فعله إلا لله، وفي الحديث عن قيس بن سعد رضي الله عنه قال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلت: رسول الله أحق أن يُسجد له، فأتيت النبي فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك، فقال : ((أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟!)) فقلت: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: ((فلا تفعلوا)) أخرجه أبو داود، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر)) أخرجه أحمد.
المخالفة الرابعة: دعاء الله عند القبر، أو اعتقاد أن الدعاء عنده مستجاب، وذلك فعل محرَّم لأنه من أسباب الشرك وذرائع الإفك، ولو كان الدعاء عند القبور أو عند قبر النبي أفضل وأصوب وأحبَّ إلى الله وأجوب لرغبنا فيه رسول الله ؛ لأنه لم يترك شيئًا يقرب إلى الجنة إلا وحث أمته عليه، فلما لم يفعل ذلك عُلم أنه فعل غير مشروع، وعمل محرم وممنوع، وقد روى أبو يعلى والحافظ الضياء في المختارة أن علي بن الحسين رضي الله عنهما رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثًا سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله ؟! ((لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا عليَّ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم)).
المخالفة الخامسة: إرسال من عجز عن الوصول إلى المدينة سلامه لرسول الله مع بعض الزوار، وقيام بعضهم بتبليغ هذا السلام، وهذا فعل مُبتدع، وأمر مخترع، فيا مرسل السلام، ويا مبلغه، كفّا عن ذلك، فقد كُفيتما بقوله : ((صلوا عليَّ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم))، وبقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن لله في الأرض ملائكة سياحين يبلِّغوني من أمتي السلام)) أخرجه أحمد.
المخالفة السادسة: التكرار والإكثار من زيارة قبره ، كأن تكون الزيارة بعد كل فريضة، أو في كل يوم بعض فريضة بعينها، وفي هذا مخالفة لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تجعلوا قبري عيدًا))، قال ابن حجر الهيتمي في شرح المشكاة: "العيد اسم من الأعياد، يقال: عاده واعتاده وتعوّده صار له عادة، والمعنى: لا تجعلوا قبري محلاً لاعتياد المجيء إليه متكررًا تكرارًا كثيرًا، فلهذا قال : ((وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم))، فإن فيها كفاية عن ذلك" انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وفي كتاب الجامع للبيان لابن رشد: "سئل مالك رحمه الله تعالى عن الغريب يأتي قبر النبي كل يوم، فقال: ما هذا من الأمر، وذكر حديث: ((اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد))، قال ابن رشد: فيُكره أن يُكثر المرور به والسلام عليه، والإتيان كل يوم إليه لئلا يُجعل القبر كالمسجد الذي يؤتى كل يوم للصلاة فيه، وقد نهى رسول الله عن ذلك بقوله: ((اللهم لا تجعل قبري وثنًا))" انتهى كلامه رحمه الله.
وسئل القاضي عياض عن أناس من أهل المدينة يقفون على القبر في اليوم مرة أو أكثر، ويسلمون ويدعون ساعة، فقال: "لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه، ولا يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولَها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك".
المخالفة السابعة: التوجه إلى قبره الشريف من كل نواحي المسجد، واستقباله له كلما دخل المسجد أو كلما فرغ من الصلاة، ووضع اليدين على الجنبين، وتنكيس الرؤوس والأذقان أثناء السلام عليك في تلك الحال، وهذه من البدع المنتشرة، والمخالفات المشتهرة.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا سائر البدع والمخالفات، واحذروا الهوى والتقليد الأعمى، وكونوا من أمركم على بينة وهدى، قال جل في علاه: أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ وَٱتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ [محمد: 14].
جعلني وإياكم من الهداة المهتدين، المتبعين لسنة سيد المرسلين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|