أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فمن اتقاه جعل له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل عسر يسرًا، وأعظم له أجرًا.
معاشر المؤمنين، من الأصول العامة في الإسلام التي تُمثِّل المنهجَ الإسلامي المسؤوليةُ الجماعية والفردية، روى الشيخان عن النبي أنه قال: ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته))[1] الحديث.
هذا الحديث يعطي الأمة قاعدة من قواعد الإصلاح، ومنهجًا من مناهج العطاء المثمر والفلاح المنشود، إنها قاعدة الشعور من كل فرد في الأمة الإسلامية بمسئوليته التي تحمَّلها أمام خالقه، ثم أمام أمته ومجتمعه. المسئولية التي إن قام بها على وجهها بكل قوة وأمانة أفلح ونجح، وإن ضيّعها أو فرّط فيها خاب وخسر.
عباد الله، وإن العلم في الإسلام له منزلة ومقام رفيع، وهو في نظرة الإسلام مسؤولية عظمى وأمانة كبرى، والأمة اليوم وهي على مفترق طرق شتى تتربَّص بها الشرور من كل منعطف وزاوية، يريد الأعداء أن يقوِّضوا رسالتها ويطفئوا مشاعلها بالوسائل المتعددة من قوة معادية، وثقافات مسمومة، ومفاهيم دخيلة مغلوطة، ومناهج ملوثة، فإن الأمة والحال تلك في أحوج ما تكون إلى سلوك سبيل الإسلام في التربية والتشريع، في الحكم وجميع الشؤون، لتنهل من ينبوعه الزاخر، فتلتزم التزامًا كاملاً بالمنهج الرباني، وتحتكم إليه الاحتكام التام، لتصل إلى الغاية الأساسية، وهي السعادة والأمن في هذه الدنيا وفي الآخرة.
وإن من لزوم سلوك هذا السبيل حاجتها العظيمة إلى العلماء الربانين والدعاة الصادقين، لتنهل من علمهم، وتتوجه بوجهتهم، وتتربى بقدوتهم.
ومن هنا، فثمَّة مفاهيم أساسية ومرتكزات أصيلة يجب أن تكون على بال كل طالب علم في هذه الأمة المحمدية، تذكُّرًا وعملاً، منهجًا وسلوكًا.
الركيزة الأولى: لزوم العدل في الأقوال والأفعال، في التصرفات والتحركات، إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ [النحل: 90] ويقول جل وعلا: وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ [الأنعام:152]، فمنهج أهل السنة والجماعة العدل والاعتدال، والإنصاف والميزان المستقيم، قال ابن القيم رحمه الله: "ومن له اطلاع على سيرة أئمة الحديث الذين لهم لسان صدق في الأمة وعلى أحوالهم علم أنهم من أعظم الناس صدقًا وأمانة وديانة، وأشدِّهم تحفظًا وتحريًا للصدق ومجانبة للكذب" انتهى.
ولهذا، وهم في مقام الضرورة الشرعية لمعرفة صحيح حديث رسول الله يلتزمون بالاعتدال في بيان أحوال الرواة، ولا يجوّزون الجرح بما فوق الحاجة.
فالواجب البعد عن الهوى ورغبة النفس، وعن التعصب في المقال والفعال، فذلك باب لظلمة القلوب، وتهييج النفوس، وتعكير الألسن بطيِّ الفضائل ونشر الرذائل، وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ [ص:26]. ولن يستقيم عدل إلا بإرضاء الخالق جل وعلا.
الركيزة الثانية: لزوم الاتحاد على السنة، والتعاون على الخير، والحذر من التفرق والاختلاف، يقول جل وعلا: وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، يقول الطحاوي رحمه الله: "ونرى الجماعة حقًا وصوابًا، والفرقة زيغًا وعذابًا"[2].
والتفرق والاختلاف من حيث هو من أنواع الفتن التي حذرنا الله جل وعلا منها، فهو من مضامين تفسير قول الله جل وعلا: وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25].
ومن هنا فصحابة رسول الله تلاميذ محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فهموا مقاصد الشريعة، ووعوا أهدافها وأغراضها، فسلكوا منهج الاعتصام بالوحدة وعدم التفرق، ففي سنن أبي داود أن ابن مسعود رضي الله عنه صلى مع عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع، صلى معه في منى، فأتم عثمان الصلاة متأولاً، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (السنة في منى ركعتان لكل صلاة رباعية)، فقيل له: كيف تصلي مع عثمان بالإتمام؟! فقال: (الخلاف شر، الخلاف شر، الخلاف شر) [3]، وبمعنى هذا القول عن غيره من الصحابة كثير وكثير. والمقصود بالاختلاف المذموم هو الذي يصدر عن البغي وعدم اتباع الحق، وهو الذي يؤول إلى إيقاع الأهواء في الأمة، وسفك الدماء، واستباحة الأموال، وإيقاع العداوة والبغضاء بين أفرادها.
الركيزة الثالثة: وجوب الرد إلى الله وإلى رسوله في كل مسألة تنزل أو معضلة تقع، يقول جل وعلا: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، ويقول : ((فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي))[4].
وعلى هذا درج أهل الحق من هذه الأمة، يقول شارح الطحاوية: "مسائل النزاع التي تنازعت فيها الأمة في الأصول والفروع، إذا لم تُردَّ إلى الله ورسوله لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم... ـ إلى أن قال: ـ وإن لم يُرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض، إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله"[5].
الركيزة الرابعة: الاهتمام بمعرفة مقاصد الشريعة والدراية بها، وربط التصرفات والأفعال والتحركات بها، وهذه المقاصد كما يُعرِّفها علماء الشريعة هي المعاني والحكم والغايات التي شُرعت الأحكام من أجلها، من معان ومصالح شاملة للدنيا والآخرة، قال العز بن عبد السلام رحمه الله: "معظم مقاصد القرآن الأمر باكتساب المصالح وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفساد وأسبابها" انتهى.
فالمكلف محتاج للعلم بمقاصد الشريعة؛ ليكون علمه وقصده منه موافقًا لقصد الشارع، فالشريعة وضعت لمصالح العباد، والمطلوب من المكلَّف أن يجري على ذلك في أفعاله كلها، ولا يمكن للناس معرفة ذلك إلا عن طريق العلماء بالنصوص الشرعية المستقرئين للوقائع والأحداث، ومتى ردّ فهم جلب المصالح ودرء المفاسد لغير علماء الشرع وفقهاء أحكامه فإنه يُخشى من فهم يهدم أكثر مما يبني، ويُفسد أكثر مما يصلح، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله فيمن ليس على تلك الحال: "تجده آخذًا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها، حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادي رأيه من غير إحاطة بمعانيها، ولا راجع رجوع الافتقار إليها، ولا مسلِّم لما رُوي عنهم ـ أي: الصحابة رضي الله عنهم ـ في فهمها، ولا رجوع إلى الله ورسوله في أمرها، ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة في النفوس، الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل الواضح، واطِّراح النَصَفَة، وعدم الاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الناظر، ويعين على هذا الجهلُ بمقاصد الشريعة، وتوهمُ بلوغ درجة الاجتهاد، واستعجال نتيجة الطلب"[6] انتهى كلامه.
لذا، إن لم يحكم هذا الباب ويوزن بميزان الشريعة الدقيق، فقد يكون ذلك بابًا من أبواب الفتن في الأمة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق الكلام عن تعارض المصالح والمفاسد: "ووجود ذلك من أسباب الفتن بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجِّحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين"[7] انتهى.
الركيزة الخامسة: العمل على لزوم الفهم الرشيد للنصوص الشرعية، فإن منشأ الضرر والشر هو سوء الفهم للنصوص، يقول شيخ الإسلام: "فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب، فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه، وليس الأمر كذلك"[8].
الركيزة السادسة: المعرفة الكاملة واليقظة الدائمة بأن الشريعة راعت المآلات والعواقب، فمن الفقه الدقيق النظر إلى قاعدة المآلات التي تؤول إليها الأمور، والعواقب التي تؤدي إليها الفتاوى، وأن يحذر طالب العلم من أن يكون نظره للمصالح نظرًا آنيًا، فقد يكون الفعل الذي فيه مصلحة آنية مؤديًا في العاقبة إلى مفسدة أعظم، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "النظر في مآلات الأفعال معتبرٌ مقصود شرعًا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالأقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل... ـ إلى أن قال: ـ وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغِب[9]، جارٍ على مقاصد الشريعة"[10] انتهى.
وهكذا فقد يُقدم البعض على فعل أو قول يظن أن فيه الإصلاح وخدمة المسلمين، وشواهد الحال دالة على أن المفاسد المتحققة منه أعظم، فكم من قول أو فعل يصدر عن اجتهاد إصلاحي بدون نظر للعواقب، فيكون غير منضبط بالشرع، ولا منسجم مع المقاصد الشرعية، فيُسْتبْدل الأمن حينئذ بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء بالفساد في الأرض.
الركيزة السابعة: الاعتناء التام بمعرفة القواعد الأصولية والطرق الاستنباطية التي أصلها أهل العلم، فتلك المسالك مهمة لطالب العلم، حذرًا من الوقوع في الخطأ أو التردي فيه، قال العلماء: "من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيِّداتها، أو في العمومات من غير تأمل في مخصِّصاتها، وكذلك العكس بأن يكون النص مقيدًا فيُطلق، أو خاصًا فيُعمّ بالرأي من غير دليل سواه، فإن هذا المسلك رميٌ في عماية واتباع للهوى بالدليل، وحينئذ فالخلل في هذه المسالك الاجتهادية يوقع في أخطاء فاحشة عقائدية وفرعية".
الركيزة الثامنة: الحرص على عدم التسرع في إصدار الأحكام في النوازل المستحدثة، والوقائع المستجدة، وعدم القيام بالاجتهاد من غير تسلح بآلاته، وتلبُّس بأدواته، فإن الاجتهاد في الشريعة علمٌ واسع له شروطه وآلياته، ولا يجوز التصدر له إلا ممن تأهل بقواعده، والتزم بشروطه وأسسه من علم واسع بأصول التشريع، وطرائق الاستنباط، وعوارض الأدلة، وطرق دفعها، وإلا فهو تقول على الله وافتراء على شرعه.
وهذا هو منهج السلف رحمهم الله، يتكلمون فيما يعلمون، ويسكتون عما لا يعلمون، قال ابن عباس رضي الله عنه: (إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله)[11]، وكثيرًا ما تطالعك تراجم علماء السلف ومن تبعهم بإحسان، استشكالاتٌ في قضايا، وتوقفٌ في نوازل وحوادث، حتى يحيطوا بواقعها، ويستكشفوا أمرها، ويجتهدوا اجتهادًا محيطًا بالنصوص المعالجة لها، قال الإمام مالك رحمه الله: "ينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خيرًا، فقد كان رسول الله وهو إمام المسلمين وسيد العالمين يُسأل في الشيء، فما يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء"[12].
ومن تمام هذا المنهج الأرشد عدم التسرع في النفي العام، فإن إحاطة الإنسان بما يعلمه أكثر من إحاطته بما يجهله، والله جل وعلا يقول: وَمَا أُوتِيتُم مّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85]، وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76].
وآخر الركائز في تلك الوصايا: المبادرة إلى الرجوع عند ظهور الحق مع أي كائن ما، فتلك خصلة من خصال أهل الحق والخير، والحق ضالة المؤمن، قال عمر في كتابه المشهور إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عن الجميع: (ولا يمنعنك قضاءٌ قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك، وهُديت فيه لرشدك، أن تراجع فيه الحق؛ فإن الحق قديم لا يُبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل) [13].
فاتقوا الله أيها المؤمنون، ولْيَكن منهج التشريع الكامل رائد تصرفاتكم، وحاكمَ أحوالكم تفوزوا وتفلحوا.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] العقيدة الطحاوية (ص 29 ـ بتعليقات الشيخ ابن باز).
[3] أخرجه أبو داود في المناسك (1960)، والبيهقي في الكبرى (3/ 143)، وصححه الألباني في صحيح السنن (1726)، وأصل القصة في البخاري في كتاب الجمعة (1084)، ومسلم في صلاة المسافرين (695).
[4] أخرجه أحمد (4/126 ـ 127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95)، وغيرهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95 ـ 96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
[5] شرح العقيدة الطحاوية (2/777 ـ الرسالة).
[6] الموافقات (5/142 ـ 143).
[7] انظر: مجموع الفتاوى (20/ 57 ـ 58).
[8] انظر: مجموع الفتاوى (7/116).
[10] الموافقات (5/177 ـ 178).
[11] ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1580، 1581) وعزاه لأبي داود في تصنيفه لحديث مالك.
[12] انظر: جامع بيان العلم وفضله (1578).
[13] أخرجه الدار قطني في سننه (4/206 ـ 207)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 119، 150)، قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (6/71): "رسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبي موسى الأشعري تداولها الفقهاء، وبنوا عليها واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه، ومن طرقها ما رواه أبو عبيد وابن بطة وغيرهما بالإسناد الثابت عن كثير من هشام عن جعفر بن برقان قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري..."، وقال الحافظ في التلخيص (4/196): "ساقه ابن حزم من طريقين، وأعلهما بالانقطاع، لكن اختلاف المخرج فيهما مما يقوي أصل الرسالة، لا سيما وفي بعض طرقه أن راويه أخرج الرسالة مكتوبة". |