أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في سورة الفرقان: وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّـٰلِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِى ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً يٰوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ٱلذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِلإِنْسَـٰنِ خَذُولاً [الفرقان: 27، 28].
أيها المسلمون، لهذه الآيات الكريمة سبب نزول ذكرته كتب التفسير والسيرة النبوية، ومفاده أن عقبة بن أبي معيط من زعماء قريش كان جارًا للرسول صلى الله عليه وسلم، وحصل أن أقام عقبة وليمة دعا إليها الرسول عليه الصلاة والسلام، فعرض الرسول صلى الله عليه وسلم على عقبة الإسلام فاستجاب عقبة بالشهادتين بقوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فعلم بذلك أبي بن خلف من زعماء المشركين، وكان صديقًا لعقبة، فجاء إليه وقال له: وجهي من وجهك حرام إذا لم تطأ عنق محمد وتبصق في وجهه، فاستجاب عقبة لما أمره به صديقه الشرير وفعل فعلته النكراء تجاه حبيبنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وارتد عن الإسلام، فنزلت هذه الآيات الكريمة لتصف عقبة بالظالم، وأنه سيندم على فعلته النكراء يوم القيامة، كما سيندم على صحبته لأبي بن خلف الذي هو بمثابة الشيطان الظالم، وكان مصير عقبة في الدنيا أن وقع أسيرا في يد المسلمين في معركة بدر، وقد أمر الرسول عليه السلام بقتله، فضربت عنقه؛ لأنه قد قام بأعمال بشعة نكراء وشارك في معركة بدر مع المشركين، وأما مصير صديقه أبي بن خلف فقد قتله الرسول عليه الصلاة والسلام بطعنة في معركة أحد؛ لأن أبيًا كان يقصد قتل الرسول عليه السلام، فعاجله بطعنة في معركة أحد، ولم يقتل الرسول بعده أو قبله أحدًا.
أيها المسلمون، إن الأخوة الحقيقية والصداقة المرضية هي التي تُبنى على تقوى الله وعلى الحب في الله، فلم نجد اثنين تحابا في الله ويطيعان أمره ويتعاونان على فعل المعروف ودفع الأذى عن الناس إلا وقد أعزهم الله بعزته التي لا تضام، وكتب لهم القبول بين الأنام، وأظلهم الله بظله الظليل يوم الزحام، لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه)).
أخي المسلم، إن أخَا الصدق الذي يقدم النصح ويرشدك إلى الخير ويحذرك من مواطئ الناس، هو الذي يساعدك بيمينه ويرفع عنك الأذى بشماله، هو الذي يحافظ على الود والوفاء في الشدة واللين، في الفقر والغنى، في المرض والصحة، هو الذي تجده بجانبك في الملمات، وهو يشاركك في أفراحك، ويواسيك في أحزانك، وهو الذي يحفظ غيبتك، وهو الذي يذكرك في ظهر الغيب ويدافع عنك ولا يطعنك من الخلف، فأقول: أين هم هؤلاء الأصدقاء المخلصون في هذه الأيام؟! إنهم كالكبريت الأحمر في الندرة، وإنهم في النائبات قليل.
أخي المسلم، لا تكترث بالصداقة التافهة التي تقوم على المصالح المؤقتة، فتزول الصداقة بزوالها، وهي تعرف بصداقة المصلحة، ومنها الزمالة والمعرفة في العمل والوظيفة، وسرعان ما تزول هذه المعرفة مع انقضاء عملك، أما الصداقة الخالصة فهي الصداقة والصحبة التي تقوم على المحبة في الله، وتبنى على تقوى الله، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يرمز له بالصديق لصداقته الإيمانية للرسول عليه السلام.
أخي المسلم، كن على بينة وحذارِ من الأشرار، حتى لا تصاحبهم ولا تخالطهم، فهم أعداء لك لقوله سبحانه وتعالى: ٱلأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67]، ويقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل))، وإن جليس السوء يؤذي الآخرين بسلوكه وبأخلاقه وبطباعه وبآرائه وأفكاره، وإنه يمثل الأزمة في المجتمع، أما الجليس الصالح فيفيد الآخرين، وينشر المحبة والمرح بينهم، والإصلاح فيما بين الناس، وإنه يمثل البناء في المجتمع، لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم في حديث مطول: ((ومثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك، إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير، إن لم يصبك من شرره أصابك من دخانه)).
أيها المسلمون، في هذا المقام يجب أن نوضح الحكم الشرعي في مجالسة الأشرار، فيقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم في هذا المجال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها الخمر)) فلا يجوز شرعا للمسلم أن يجلس في مجلس تقدم فيه الخمور والمشروبات المحرمة، وكذلك لا يجوز الجلوس مع أناس يرتكبون أي محرم من المحرمات الشرعية، وروي عن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس رضي الله عنه أنه يجلد شاربي الخمر كما يجلد من يشهد مجالسهم، وإن لم يشربوا، فقد أتوا له بقوم شربوا الخمر فأمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم فلانا وقد كان صائما، فقال عمر بن عبد العزيز: ابدؤوا به، أي ابدؤوا بجلد الذي كان صائما، واستدل بقوله سبحانه وتعالى في سورة النساء: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَـٰتِ ٱللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ [النساء:140].
أيها المسلمون، من هنا كان التوجيه الإلهي الرباني لعبده المصطفى محمد عليه أفضل الصلاة وأكرم التسليم بأن يجالس الصحابة المؤمنين ولو كانوا ضعافا أو فقراء، أمثال خباب بن الأرت وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وبلال بن رباح وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، وأن لا ينشغل عنهم في بمجالسة زعماء قريش المشركين الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، أمثال عتبة بن ربيعة وأمية بن خلف وحيينة بن حصن، فيقول الله عز وجل في سورة الأنعام: وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ [الأنعام: 52]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة الكهف: وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28].
أيها المسلمون، نريد شبابًا يتآخون في الله، ويهتدون بسيرة محمد عليه الصلاة والسلام، نريد شبابًا تتعلق قلوبهم بالمساجد، شبابًا متمسكين بدينهم واعين مدركين لإسلامهم، نريد إيمانا يهيمن على قلوبهم وجوارحهم، غير آبهين للصعاب والعقبات التي تصادفهم في طريق دعوتهم، وذلك ليخرج جيل صالح قادر على اختيار الطريق المستقيم لاستئناف حياة كريمة، جاء في الحديث النبوي الشريف عن الله عز وجل: ((قد حقت محبتي للذين يتحابون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي)) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
|