أما بعد:
فيقول الله عز وجل في سورة الحج: وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَائِسَ ٱلْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ [الحج:27-29] صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يتطلع حجاج بيت الله الحرام لهذا العام شوقاً لمكة المكرمة وللكعبة المشرفة، وتهفو قلوبهم حنيناً لزيارة قبر حبيبنا[1]، رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم، إنهم يتهيؤون روحياً ونفسياً وعقلياً لأداء ركن من أركان الإسلام حيث يلتقون هناك، حول الكعبة وبين الصفا والمروة وعلى جبل عرفات، من مختلف الأجناس والقوميات والألوان على طريق واحد، لا فرق بين رئيس ومرؤوس، ولا بين أمير ومأمور، ولا بين غني وفقير، وقد اتصلوا جميعاً بالله سبحانه وتعالى رب الخلائق والمخلوقات، إنه لا رب غيره ولا نعبد سواه.
أيها المسلمون، ملابس الإحرام البيضاء التي تغطي الحجيج هناك تذكر الحاج بيوم القيامة وأهواله وتنسيه الدنيا ومشاغلها ومفاتنها، كيف لا؟! وقد بدأت سورة الحج بقوله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2].
أيها المسلمون، إن ديننا الإسلامي العظيم يأمرنا بأداء فريضة الحج الذي هو ركن من أركان الإسلام، ويرغب في أداء هذه الفريضة، والله سبحانه وتعالى يقول: وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97].
الذي لم يسبق له أن حج ولديه المقدرة المالية ينبغي عليه أن ينوي الحج لأداء هذا الركن، ويقول عز وجل في آية أخرى: ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجّ [البقرة:197]، فالذي يبتعد عن الخصومة والمجادلة والغيبة والنميمة أثناء مناسك الحج فإنه يظفر بالحج المبرور، ويقول رسولنا الأكرم في الحديث المطول: ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [2]، ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث نبوي آخر: ((أفضل الأعمال إيمان بالله ورسوله، ثم جهاد في سبيله، ثم حج مغتفر)) [3]، ويقول في حديث شريف ثالث: ((من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) [4]، وفي رواية: ((خرج من ذنوبه)) [5] بدلاً من ((رجع)) والمعنى واحد.
أيها المسلمون، إن ديننا الإسلامي العظيم يحثنا على التعجيل في أداء ركن الحج وعدم التأخير والتسويف، فيقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) [6]، ومعنى: ((ما يعرض له)) ما يجدّ من أمور تحول دون تأدية فريضة الحج، ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث شريف آخر: ((من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتعرض الحاجة))[7]، والمراد بالمرض أي: ربما سيكون مريضاً، والمراد بأن تضل الراحلة أي: تتعطل المواصلات وتنقطع الطرق كما يحصل في ديارنا هذه الأيام، والمراد بأن تعرض الحاجة أي: تطرأ أمور لم تكن في الحسبان فتحول دون أداء هذه الفريضة. فنقول للذين يتكاسلون عن أداء هذه الفريضة، نقول للذين يسوِّفون ويؤجلون حتى يمرضوا ويشيخوا وهم مقتدرون مالياً وصحياً، نقول لهم: هل تضمنون أن تستمروا على غناكم وعلى قدرتكم المالية؟! هل تضمنون بقاءكم أحياء على وجه الأرض وأنتم تسوِّفون؟! هل هناك اتفاق بينكم وبين ملك الموت لتأجيل وفاتكم حتى تشيخوا وتكبروا ثم بعد ذلك تؤدون فريضة الحج؟! فماذا تنتظرون؟!
ورسولنا الأكرم يقول: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك))[8].
أيها المسلمون، إن ديننا الإسلامي العظيم يحذر أولئك الذين لم يحجوا وهم مقتدرون وذلك من خلال النصوص الشرعية، ويقول رسولنا الأكرم : ((من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام ولم يحج فما عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً))[9]، وفي حديث نبوي شريف آخر: ((من لم تحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حائل أو مجرم من سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً))[10]، أي: لم يكن هناك أي مانع يمنع الإنسان من الحج ولم يحج يطوله إذاً إثم كبير.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من له جدَة ولم يحج فيفرضوا عليهم الجزية، وما هم بمسلمين، وما هم بمسلمين) [11]، ومعنى جِدة المقدرة والسعة المادية.
أيها المسلمون، قد يسأل سائل، يرغب بأداء الحج للمرة الأولى ولكن تحديد الأعداد وتزاحم الطلبات لم يسمح له بالحج، أو أنه ممنوع من السفر من قبل سلطات الاحتلال، أو أن المدينة أو القرية التي يسكنها محاصرة عسكرياً، أو منع لأي سبب من الأسباب الخارجة عن إرادته، فماذا يعمل؟ وكيف يتصرف؟ والجواب: الأصل أن يعقد المسلم النية للحج، والنية أمر ضروري في العبادات وفي غيرها، فإن أتيح له أداء فريضة الحج حجّ، وإن لم يسمح له فالإثم يقع على من كان السبب في منعه وحرمانه، فإن توفي الشخص في هذا العام ولم يحج للمرة الأولى وكان عاقداً النية للحج فلا إثم عليه، ويتوجب على ورثته تخصيص المبلغ الكافي قبل توزيع التركة، وذلك لأداء فريضة الحج عنه مستقبلاً، ويأثم الورثة جميعهم إذا لم يرصدوا المبلغ الكافي للحج عن المتوفى، ونؤكد أنه ينبغي على المسلم أن يعقد النية للحج في كل عام حتى يسمح له وحتى تتهيأ الأسباب الموجبة لذلك.
أيها المسلمون، نقول للذين سبق لهم أن أدوا فريضة الحج أن يفسحوا المجال للذين لم يسنح لهم أن أدوا الحج للمرة الأولى، لأن ذهاب الشخص للحج مرة وأخرى سيحرم شخصا لم يحج مطلقا، وفي ذلك إثم كبير، لأنه يكون سببا في منع غيره من الحج للمرة الأولى بسبب حجز مقعده، وبسبب تحديد الأعداد للحج، أما إذا لم يحجز مقعد غيره فلا مانع من ذلك شرعا.
يا من تريدون أداء فريضة الحج، نصيحتنا لكم أن تتفهموا الأحكام الشرعية المتعلقة بأحكام الحج فإن دراستها وتفهمها يصبح فرض عين بالنسبة لكم، وينبغي أن تحرصوا على تطبيقها والامتثال لها، ليتقبل الله منكم هذه الفريضة، وسائر الطاعات فأنتم أحرى بذلك، وبخاصة أنكم تلبون نداء الله وتعلنون ولاءكم لله وحده، وأنكم ستهتفون بهتاف واحد هو الهتاف الرباني: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] زيارة قبر الحبيب المصطفى أمر مستحب مطلوب ، ولكن لا يشرع شد الرحل إليه عند الأئمة وأكثر العلماء لقوله في المتفق عليه : ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) الحديث.
[2] أخرجه البخاري في الحج ، باب : وجوب – العمرة وفضلها (1773) ، ومسلم في الحج ، باب : في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الإيمان ، باب : من قال : إن الإيمان هو العمل (26) ، ومسلم في الإيمان ، باب : بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (83) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ((حج مبرور)).
[4] أخرجه البخاري في الحج ، باب: قول الله تعالى : وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجّ (1820) ، ومسلم في الحج (1350) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ((رجع كيوم ولدته أمه)).
[5] هذا اللفظ أخرجه أحمد (2/484).
[6] أخرجه بهذا اللفظ أحمد (1/314) ، والبيهقي في الكبرى (4/340) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وحسنه الألباني لطرقه في الإرواء (990).
[7] أخرجه أحمد (1/355) واللفظ له ، وأبو داود في المناسك (1732) مختصراً ، وابن ماجه في المناسك (2883) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وصححه الحاكم (1/448) ، ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني لطرقه في الإرواء (990).
[8] أخرجه الحاكم (4/306) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصححه ، ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355) ، وأخرجه ابن المبارك في الزهد (2) ، ومن طريقه البغوي في شرح السنة (4022) ، وابن أبي شيبة (7/77) ، عن عمرو بن ميمون مرسلاً ، وصحح سنده الحافظ في الفتح (11/234).
[9] أخرجه الترمذي في الحج (812) ، والبزار (861) ، والطبري في تفسيره (4/16، 17) من طريق هلال بن عبد الله ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه ، وقال الترمذي : "هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده مقال ، وهلال بن عبد الله مجهول ، والحارث يضعَّف في الحديث" ، وقال ابن عبدي : "ليس الحديث بمحفوظ" ، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (753).
[10] أخرجه الدارمي (28/2) ، والروياني في مسنده (1246) ، والبيهقي في الشعب (3979) من طريق شريك القاضي عن ليث بن أبي سليم عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة رضي الله عنه. قال الحافظ في التلخيص الحبير (2/222) : "ليث ضعيف ، وشريك سيئ الحفظ ، وقد خالفه سفيان الثوري فأرسله" ، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (754).
[11] أخرجه سعيد بن منصور في سننه – كما في التلخيص الحبير (2/223) - من طريق الحسن البصري عن عمر ، وهو لم يدركه. قال الحافظ: "إذا انضم هذا الموقوف إلى مرسل ابن سابط عُلم أن لهذا الحديث أصلاً ، ومحمله على من استحلّ الترك". |