أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حق التقوى، فتقوى الله فوز لكم في الحياة الدنيا وفي الحياة الأخرى.
عباد الله، إن عِظم الواجب وكبر المسؤولية وضخامة الغاية والهدف، كل ذلك يستدعي بذل الجهد والطاقة والوقت والمال، وقد تلْقى النفس الموت في سبيل الواجب العظيم والغاية الكبرى، مع ما يضاف إلى ذلك من فقدان الأصدقاء، وكثرة الأعداء، والتعرض للسخرية والاستهزاء، ومكر الماكرين، وخصومات الألداء، وقلة المستجيبين والأنصار والأولياء. وهذا الحال هو بعينه حال سيد البشر التي بعثه الله لتحقيقها.
لقد أرسل الله خير خلقه إلى البشرية أحوج ما تكون إلى رسالته، وأشدَّ ما تكون ضرورة إلى دينه، بعد أن غير أهل الكتاب وبدلوا، وصار العالم في ظلمات الشرك والجهل، فأرسل الله عبده محمداً إلى الناس جميعاً، قال الله تعالى: قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ٱلَّذِى لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَـئَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِىّ ٱلأمّىّ ٱلَّذِى يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَـٰتِهِ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].
فوجدهم يعبدون آلهة شتى، منهم من يعبد الأشجار، ومنهم من يعبد الأحجار، والشمس والقمر والملائكة، والجن وعيسى بن مريم عليه السلام، والقبور والأولياء، فيدعونهم من دون الله، ويستغيثون بهم، ويلجؤون إليهم في كشف الشدائد والكربات، ويرغبون إليهم في جلب النفع والخيرات، ويذبحون لهم، وينذرون لهم، ويجعلونهم وسائط يقربونهم إلى الله، ليرفعوا دعاءهم إلى الرب جل وعلا. ووجد الرسول الناس يتحاكمون إلى الكهان والسحرة والعرافين، ويغشون الفواحش والمحرمات، ويسيئون الجوار، ويقطعون الأرحام، ويكسبون الأموال لا يبالون بالحلال أو الحرام، الربا والبيع عندهم سواء، والغصب والميراث قرناء، وتأسس على هذا الدين الجاهلي مصالح ومنافع، واعتبارات مادية ومعنوية، وتراكمت عليه عادات وأعراف، يشق على النفوس الفطامُ عنها، والتخلي عن عوائدها. فجاء رسول الله بدعوة الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، بكل ما تضمنته هذه الشهادة من معنى، بإفراد الله وحده بالدعاء والذبح والنذر والاستعانة والاستعاذة وطلب النفع ودفع الضر والطواف والسجود ونحو ذلك من أنواع العبادة التي هي حق الله وحده، قال الله تعالى: وَأَنَّ ٱلْمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً [الجن:18]، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً [الأنعام:151]، وإفراد الرسول بالاتباع، قال تعالى: وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ [الحشر:7].
جاء نبي الرحمة يدعو الناس إلى العفاف والطهر والخلق الكريم والاستقامة وصلة الأرحام وحسن الجوار والكف عن المظالم والمحارم، ويدعوهم إلى التحاكم إلى الكتاب العزيز، لا إلى الكهان وأمر الجاهلية، وكسب المال من وجوه الحلال، وإنفاقه في الطرق المشروعة والمباحة، وجعل الناس كلهم أمام شريعة الله سواء، يتفاضلون بالتقوى، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْىَ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـٰناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، وقال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.[النحل:90].
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما مرض أبو طالب، دخل عليه مشيخة من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويفعل ويفعل، ويقول ويقول، فأنصفنا من ابن أخيك، فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه، فقال أبو طالب: يا ابن أخي، ما بال قومك يشكونك، ويزعمون أنك تشتم آلهتهم؟! قال: ((يا عم، أريد أن يقولوا كلمة تدين لهم بها العرب، وتؤدي لهم بها العجم الجزية))، فقال أبو جهل: نقولها وعشراً، فقال عليه الصلاة والسلام: ((قولوا: لا إله إلا الله)) ففزعوا. وولوا مدبرين، وهم ينفضون ثيابهم، ويقولون: أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وٰحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَىْء عُجَابٌ[ص:5].
فقد عرفوا مدلول هذه الكلمة، وأنها تصوغ الإنسان صياغة جديدة على مقتضى الإسلام في عبادته ومعاملاته وسلوكه وحياته كلها، كما يدل على ذلك قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ % لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ [الأنعام:161، 162]، فهذا معنى لا إله إلا الله الذي نفر منه المشركون.
دعا رسول الله الناس كلَّهم إلى هذا المعنى العظيم، وقام بهذا الواجب الكبير، الذي هو أكبر واجبٍ في تاريخ البشرية كلها، دعا إلى دين قويم يرقى به الإنسان إلى أعلى المنازل، ويسعد به في الآخرة سعادةً أبدية في النعيم المقيم، فاستجاب له القلة المؤمنة المستضعفة في مكة، فأذاقهم المشركون أنواع العذاب، كالحرق بالنار، وتقليب العريان في شدة الرمضاء.
ووقف في وجه دعوة رسول الله ثلاثة أنواع من الناس: المستكبرون الجاحدون العالمون بالحق، والحاسدون المحترقون، والجهال الضالون. وكوّن هذا الثالوث جبهة عنيدة وحزباً شيطانياً لا يترك من سبيل ولا وسيلة إلا سلكها للصد عن سبيل الله، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ [الصف:8].
واشتد الكرب في مكة، وضيّق الخناق على الدين الإسلامي، وائتمر المشركون بمكة أن يقتلوا رسول الله ، فقال جبريل عليه السلام: ((إن الله أذن لك يا محمد بالهجرة إلى المدينة، فلا تبت هذه الليلة في فراشك))، ورصده المشركون عند بابه ليضربوه ضربة رجل واحد، فخرج عليه الصلاة والسلام عليهم وهو يتلو صدر سورة يس، وذرَّ على رؤوسهم التراب، وأخذ الله بأبصارهم عنه فلم يروه، وأخذهم النعاس، واختبأ هو وصاحبه أبو بكر الصديق في غار ثور ثلاثة أيام حتى هدأ الطلب، وفتشت قريش في كل وجه، وتتبعوا الأثر حتى وقفوا على الغار، فقال أبو بكر : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!))، ولقيا الدليل بعد ثلاث براحلتيهما، ويمَّما المدينة، فكانت هجرة المصطفى نصراً للإسلام والمسلمين، حيث أبطل الله مكر المشركين وكيدهم في تقديرهم القضاء على الإسلام بمكة، وظنهم القدرة على قتل رسول الله .
قال الله تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40].
وقد تعرض رسول الله للقتل غير مرة قبل الهجرة وبعدها، ذكر المؤرخون أن أبا جهل قال: واللات والعزى، لئن رأيت محمداً يسجد عند الكعبة، لآخذن حجراً ثم لأثلغن به رأسه، فأدعه خبزة، فأسلموني أو امنعوني، قالوا: والله لا نسلمك يا أبا الحكم، فجاء رسول الله من الغد، يصلي عند الكعبة، فأخذ حجراً عظيماً، ثم تقدم وقريش في أنديتها، ثم نكص القهقرى منتقعَ اللون، يرجف، فقيل له: ما لك؟ قال: حال بيني وبينه فحلٌ من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته، ولا مثل قصرته، أراد أن يأكلني، فقال النبي : ((ذاك جبريل، والذي نفسي بيده لو تقدم لأخذته الملائكة عضواً عضواً والناس ينظرون)).
وتعرض للقتل من المنافقين في غزوة تبوك، ومن عامر بن الطفيل، ومن فضالة في الطواف، وتحت شجرة في بعض غزواته من مشرك، وفي مسجده من رسول صفوان بن أمية، ووُضع له السم في الذراع فأخبره، وفي كل ذلك نجَّاه الله تعالى، لكمال توحيده، وتوكله على الله عز وجل، قال الله تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
وفي طريق هجرته إلى المدينة هبّت رياح النصر إلى خارج جزيرة العرب، فقد لحق سراقة بن مالك برسول الله يريد الفتك به، لينال جُعل قريش، مئة ناقة، فساخت قوائم فرسه في الأرض، فالتفت إليه رسول الله وقال: ((كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟!))، وأسلم وردّ الطلب عن الرسول ، وألبسه عمر سواري كسرى بعد فتح فارس، تحقيقاً لقول النبوة صلى الله وسلم على صاحبها.
ونزل رسول الله هو وصاحبه أبو بكر المدينة، مكرماً معززاً، مؤيداً منصوراً، مباركاً ميموناً، كلٌ يود أن ينزل بيته، فبركت ناقته في مسجده هذا؛ لأنها مأمورة من الله تعالى باختيار المنزل، فاشتراه وبناه مسجداً يشع منه النور إلى الدنيا كلها إلى يوم القيامة، وبنى حُجَرَ نسائه، وابتدأ عهدٌ جيد ميمون مبارك، حافل بكل نصر وتأييد للإسلام والمسلمين، وبكل عمل رشيد، وصارت الهجرة واجبة من مكة إلى المدينة في عهد رسول الله ، ومِنْ كل مكان لا يقدر المسلم فيه أن يقيم شعائر دينه، وكانت الهجرة عملاً صالحاً يتفاضل الناس بها، قال : ((الإسلام يهدم ما قبله، والهجرة تهدم ما قبلها))، وبعد فتح مكة نسخت الهجرة منها، ولكن بقي على المسلم وجوب الهجرة من البلد الذي لا يقدر أن يقيم فيه شعائر دينه إلى البلد الذي يقدر أن يعبد الله فيه بحرية، وفي الحديث: ((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)).
وأمر الهجرة إلى المدينة في عهد النبوة من المعجزات، فقد كانت المدينة قليلة الموارد الزراعية، قليلة الأمطار، قليلة التجارة، عديمة الصنائع، ضيقةً بأهلها، ففي تقديرات البشر أن الهجرة إليها تسبب مشاكل اقتصادية واجتماعية، ولكن بالهجرة إلى المدينة تحقّق كل خير للإسلام والمسلمين، وبطل كل مكر وكيد للإسلام والمسلمين، وشاهد الكبير والصغير، والذكر والأنثى سيد الخلق ، وتعلموا منه دينهم واقتدوا به، وتخلّقوا بأخلاقه، وحضروا مجالسه، وحفظوا حديثه، ووعوا سنته، ونقلوا حركاته، وسكناته في أدق تفاصيلها، وصحبوه في غزواته، واطّلعوا على حياته داخل بيته في عبادته وفي معاملاته لأهله، يدفعهم لكل ذلك كمال محبتهم للنبي ، فما أعظم أثر الهجرة النبوية على الإسلام والمسلمين، وكم لله فيها من نعم على عباده المؤمنين، حقاً لقد كانت الشدائد مستحكمة في أول الهجرة، وكان الناس في عسرٍ وضيق من الحال، كما قال أبو هريرة : (إني لأخِرُّ ما بين منبر رسول الله وبيت عائشة، فيأتيني الأعرابي ويضع رجله على عنقي، يظن أني مجنون وما بي إلا الجوع).
وروى البخاري عنه قال: أهدي لرسول الله قدح لبن، فرأى الجوع في وجهي، فقال: ((ادع لي أهل الصفة))، وكنت أود أن أشربه مع رسول الله لما بي من الجوع، فدعوتهم ثم سقيتهم واحداً واحداً حتى رووا، ولم يبق إلا أنا ورسول الله ، ثم قال: ((اشرب يا أبا هريرة))، فشربت حتى رويت، ثم قال: ((اشرب))، فشربت، ثم قال: ((اشرب)) فقلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً، ثم شرب عليه الصلاة والسلام الفضلة. وكان يربط النبي عليه الصلاة والسلام الحجر على بطنه من الجوع. ولكن هذه الشدة تجاوزوها بصبرهم وإيمانهم في أول الهجرة، وكان رسول الله يحنو عليهم، ويشملهم بعطفه ورحمته، أكثر من الأب الرحيم والأم الرؤوم، ففتح الله البلدان، وساق إلى المدينة النبوية الخيرات من كل مكان، ولكن الرسول يقول لأصحابه: ((أنتم اليوم خير من يوم يُغدى على أحدكم بجفنة ويراح عليه بأخرى، ويغدو في حُلَّة ويروح في حلة))، لأن الفتنة بالسراء أعظم من الفتنة بالضراء.
أيها المسلم، لئن فاتك ثواب الهجرة إلى الله ورسوله في زمن النبوة، فقد شرع الله لك هجرة من نوع آخر، فيها الثواب العظيم، فاهجر المعصية إلى الطاعة، واهجر التفريط، وهاجر إلى الاستقامة، واهجر التمرد والآثام إلى الانقياد والاستسلام، واهجر الكسل والأمل الباطل إلى الجد والاجتهاد فيما يرضي مولاك، وهاجر بقلبك من الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها إلى الدار الآخرة والرغبة فيها، قال : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما حرم الله))، وفي صحيح مسلم أن النبي قال: ((عبادة في الهرج كهجرة إلي)) يعني وقت الفتن.
قال الله تعالى: إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:218].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|