أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عباد الله، سعادةٌ غامرة تملأ جوانحنا إذ بُلِّغنا هذا الشهر العظيم، فالقلوب يتجاذبها خوفٌ ورجاءٌ، والألسن تلهج بالدعاء أن يتقبّل الله الصيام والقيام لنا ولكم ولجميع المسلمين، أن يتقبل الله منا ما مضى، ويبارك لنا فيما بقي، فطوبى لمن اغتُفِرت زلتهُ، وتُقُبّلت توبتُه، وأقيلت عثرته. في نهاية الشهر العظيم نشكره سبحانه شكر من أنعم على عباده، بتوفيقهم للصيام والقيام، وإعانتهم عليه، ومعونته لهم، وعتقهم من النار، قال تعالى: وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
هكذا مضت الليالي مسرعة، بالأمس كنا نستقبل رمضان، واليوم نودِّعه، ولا ندري هل نستقبله عاماً آخر أم أن الموت أسبق إلينا منه، نسأل الله أن يعيده عليها وعليكم أعواماً عديدة وأزمنة مديدة.
الاستغفار – عباد الله – ختام الأعمال الصالحة، تختم به الصلاة والحج وقيام الليل والمجالس، وكذلك ينبغي أن يُختم به الصيام، لنقوّم به غمرات الغفلة والنسيان، ونمحو به شوائب التقصير والانحراف، فالاستغفار يدفع عن النفس الشعور بالكبر والزهو بالنفس والعجب بالأعمال، ويورثها الشعور بالتقصير، وهذا الإحساس يدفع لمزيد عملٍ بعد رمضان، فتزداد الحسنات ويثقل الميزان، يبين ابن القيم رحمه الله حاجةَ الطائعين إلى الاستغفار فيقول: "الرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها، وأرباب العزائم والبصائر أشدُّ ما يكونون استغفاراً عقب الطاعات، لشهودهم تقصيرهم فيها، وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية ولا رضيها لسيده"[1] انتهى كلامه.
إذا كنا نودّع رمضان فإن المؤمن لن يودّع الطاعة والعبادة، بل سيوثِّق العهد مع ربه، ويقوي الصلة مع خالقه ليبقى نبع الخير متدفقاً، أما أولئك الذين ينقضون عهد الله، ويهجرون المساجد مع مدفع العيد، فبئس القوم: لا يعرفون الله إلا في رمضان، قد ارتدوا على أدبارهم، ونكصوا على أعقابهم، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163].
لا قيمة لطاعة تؤَدَّى دون أن يكون لها أثر من تقوى أو خشية، أين أثر رمضان بعد انقضائه إذا هُجر القرآن، وتُركت الصلاة مع الجماعة، وانتُهكت المحرمات؟! أين أثر الطاعة إذا أُكل الربا، وأُخذ أموال الناس بالباطل؟! أين أثر الصيام إذا أُعرض عن سنة رسول الله إلى العادات والتقاليد، وحُكّمت القوانين الوضعية؟! أين أثر الصيام والقيام إذا تحايل المسلم في بيعه وشرائه، وكذب في ليله ونهاره؟! أين أثر رمضان إذا لم يقدّم دعوة إلى ضال، ولقمة إلى جائع، وكسوة إلى عارٍ، مع دعاء صادق بقلب خاشع أن ينصر الله الإسلام والمسلمين، ويدمّر أعداء الدين؟!
حريّ بنا – أيها الصائمون – أن نتأمل كلام ابن القيم رحمه الله إذ يقول: "فبين العمل والقلب مسافة، في تلك المسافة قطاعٌ تمنع وصول العمل إلى القلب، فيكون الرجل كثير العمل، وما وصل منه إلى قلبه محبّة ولا خوف ولا رجاء ولا زهد في الدنيا ولا رغبة في الآخرة، ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه، فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق ورأى الحق والباطل"[2] انتهى كلامه رحمه الله.
يا أهل الطاعة، اللهُ لا يريد من سائر عباداتنا الحركات والجهد والمشقة، بل طلب سبحانه ما وراء ذلك من التقوى والخشية له، قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، وقال تعالى: لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ [الحج:37].
من الأعمال الصالحة بعد رمضان صيام ست من شوال، قال : ((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر)) [أخرجه مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه][3].
لقد غرس رمضان في نفوسنا خيراً عظيماً، صقل القلوب، أيقظ الضمائر، طهّر النفوس، ومن استفاد من رمضان فإن حاله بعد رمضان خير له من حاله قبله، ومن علامات قبول الحسنة الحسنة بعدها، ومن علامات بطلان العمل وردّه العودة إلى المعاصي بعد الطاعات، فاجعل – أخي الصائم – من نسمات رمضان المشرقة مفتاح خير سائر العام، ومنهج حياة في كل الأحوال، احرص على بر الوالدين، وصلة الجيران، وزيارة الإخوان، انصر المظلومين، وتلذذ بمسح رأس اليتيم، أصلح ذات البين، وأطعم المحرومين، واجبر نفوس المنكسرين، ساهم في زرع السعادة على شفاه المصابين والمبتلين، صل رحمك، احفظ عرض إخوانك، كن نبعاً متدفقاً بالخير كما كنت في رمضان.
لقد تعلمنا في مدرسة رمضان أنجع الدروس وأبلغ المواعظ، تعلّمنا كيف نقاوم نزغات الشيطان، تعلمنا كيف نقاوم هوى النفس الأمارة بالسوء، تعلمنا كيف ننبذ الخلاف وأسباب الفرقة. لقد تراصَّت الصفوف في رمضان كالسجد الواحد، فينبغي أن لا تتناثر بعد رمضان، لقد سكبت العيون الدموع في رمضان، فاحذر أن يصيبها القحط والجفاف بعد رمضان، لقد اهتزت جنبات المساجد، ولهجت الألسن بالتهليل والتحميد والدعاء، فليدم هذا الجلال والجمال بعد رمضان، لقد علا محياك في رمضان سمت الصالحين، ذلٌّ وخضوع، إخباتٌ وسكينة، وقارٌ وخشية، فلا تمحه بعد رمضان بأخلاق الزهو والكبر والبطر والسفه، لقد امتدت يداك في رمضان بالعطاء، وأنفقت بسخاء، فلا تقبضها بعد رمضان.
عباد الله، للصائم فرحةٌ عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، فرحة في الدنيا العاجلة، وفرحة في الآخرة الباقية، لمن داوم على العبادة والطاعة، حيث ينال المتعة الكبرى والنعمة العظمى، ألا وهي الجنة، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وكأني بأقوام من بيننا سينادون: كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، وينادون: وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً [مريم:63]، جعلني الله وإياكم من أهلها.
هؤلاء رُفع لهم عَلَم الجنة فشمَّروا إليه، ووُضِّح لهم طريقها فاستقاموا عليه، علموا أن الربح كل الربح إذا حشروا إلى الرحمن وفدا، فوقفوا اللحظات والسكنات ووجيف القلوب والأنفاس على الجنة أن يدخلوها، فنالوها جَنَّـٰتِ عَدْنٍ ٱلَّتِى وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً [مريم:61].
إنها جنات إقامة دائمة، لا كجنات الدنيا، وقد وعد الله بها المتقين، ووعد الله لا يخلف، فهم آتوها لا محالة. هي الجنة التي إذا غمس فيها العبد غمسة واحدة زال بؤسه، ونسي همّه وغمّه، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ، وفيه: ((ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيُصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟! هل مر بك شدة قط؟! فيقول: لا والله، يا رب ما مرّ بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)) [4].
جعلها الله مقراً لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وأودعها الخير بحذافيره، وطهّرها من كل عيب وآفة ونقص، إن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران، وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن، وإن سألت عن حصبائها فهو اللؤلؤ والجواهر والمرجان، وإن سألت عن بنائها فلبنة من فضة ولبنة من ذهب، وإن سألت عن أنهارها فأنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذّةٍ للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وإن سألت عن طعامهم ففاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وإن سألت عن شرابهم فالزنجبيل والكافور، وإن سألت عن آنيتهم فهي آنية الذهب والفضة في صفاء القوارير، وإن سألت عن لباس أهلها فهو الحرير والذهب، وإن سألت عن فُرُشهم فبطائنها من إستبرق في أعلى الرتب، وإن سألت عن أهلها وحسنهم فعلى صورة القمر ليلة البدر، وإن سألت عن أسنانهم فأبناء ثلاث وثلاثين، على صورة آدم عليه السلام أبي البشر. اللهم اجعلنا من أهلها يا أرحم الراحمين.
أيها الصائمون، هاهي الأمة تودّع رمضان، لكنها لم تودِّع مآسيها الدامية وآلامها المبرحة، وهي تمر اليوم بمحن عظيمة، وجراح عميقة، ترى جراحها في القدس وفي مواقع أخرى ملتهبة، حربٌ شرسة لتنحية الإسلام، وتجفيف منابعه من أعداء الإسلام، متجاوزين كل الحدود والأعراف. لقد امتُحنت الأمة بصنوف المكر وأثقال المصائب، وكان بعض ذلك كافياً للقضاء على غيرها من الأمم إلا أن قوة العقيدة والإيمان ينابيع عذبة تتجدد رغم المصاعب، وأن الغد المأمول لهذه الرسالة، والواجب على المسلمين نصرة قضايا أمتهم، والتحلي بالصبر وضبط النفس، والإخلاص في الدعاء، والاستعانة بالله أمام العواصف العاتية حتى تنقشع الغمة وينكشف الكرب، وَمَا ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مدارج السالكين (1/175).
[2] مدارج السالكين (1/349).
[3] صحيح مسلم كتاب : الصيام ، باب : استحباب صوم ستة أيام من شوال (1164).
[4] صحيح مسلم كتاب : صفة القيامة ، باب : صبغ أنعم أهل الدنيا في النار (2807). |