أما بعد:
فأوصيكم – أيها الناس ونفسي - بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فمن اتقى الله جعل له نوراً وعلماً وفرقاناً، وملأ قلبه طمأنينة وإيماناً، يِـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ [الأنفال:29]. يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الحديد:28].
قفوا عند حدود الله، والتزموا بأوامر الله، فإن لكم من الله طالباً، وعليكم منه مراقباً ومحاسباً، واعتبروا قبل أن تكونوا عبراً، وقدموا لأنفسكم من الخير تجدوه عند ربكم مدخراً.
أيها المسلمون: للحضارات الإنسانية كلها دورتها، تنشأ ثم تزدهر ثم تتلاشى، أما حضارة الإسلام فهي حضارة صاعدة ثابتة لا تعرف التقهقر ولا الهبوط؛ لأنها تملك القوة -بإذن الله – من داخلها وفي تكوينها، فهي حضارة الدين التام، والإسلام الكامل، والملة المرضية، ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
وما دامت الأمة مستمسكة بإسلامها، ناصرة لدين ربها ؛ فستظل حضارتها في تقدم وصعود لا تعرف الضعف ولا النزول مهما كانت الغِيَر والمتغيرات، وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
وكذلك أيضاً – أيها المسلمون – لكل أمة حضارتها في عقائدها الإيمانية، وشعائرها التعبدية، وأعرافها الحسنة المرعية، وضوابط علاقاتها الاجتماعية، وكل أمة محترمة تضع لنفسها من المبادئ التربوية، والمناهج التعليمية ما يكفل المناخ السليم ؛ لإعداد أجيالها ؛ لتلقي هذه العقائد والمبادئ والحماس لها والدفاع عنها.
أيها الإخوة المسلمون: وحديث الحيوية والثبات، والرقي في الحضارات، يؤكد أن للعلوم والمناهج حيويتها وروحها، وأثرها وتأثيرها، هذه الروح هي حقائق هذه العلوم وآثارها العميقة، فالعلوم التي أنشأها الإسلام وصاغها في قالبه تسري فيها روح الإيمان بالله، وتقواه وخشيته، والإيمان بالغيب، والإيمان باليوم الآخر، والسامي من الأخلاق والفضائل.
والعلوم التي وضعتها الأمم الوثنية: من يونانية ورومانية وغيرها تشتمل على الخرافة وروح الجاهلية، وتعدد الآلهة، وقل مثل ذلك من العلوم المبنية على الإلحاد والزندقة والانحصار في الماديات والمحسوسات الجامدة المجردة، وقلة الاكتراث بما لا يدخل تحت الحس والتجربة، أو يحقق المنفعة العاجلة الآنية، سرت هذه الروح من علوم واضعيها ومناهجهم ونظرياتهم وفلسفياتهم، وشعرهم وقصصهم وأدبهم.
فمناهج الأمم والحضارات اللادينية غير مناهج الأمم الدينية، ولا تصلح إحداهما للأخرى، ولا تتوافق معها البتة.
أمة الإسلام: إذا كان ذلك كذلك، فماذا يعني العلم والتعليم، والمعرفة والتربية في أمة من غير شخصية تعتز بها؟! ومن غير رسالة تحملها، ومن غير عقيدة تؤمن بها، ومبادئ ترتبط بها ارتباط الروح بالجسد، واللفظ بالمعنى، ومن غير دعوة تتبناها وتعرف بها.
أيها المسلمون: يا رجال التربية، جدير بالعاقل المنصف المحب لدينه وأمته ووطنه: أن ينظر في مسيرة التعليم والتربية في كثير من الأقطار الإسلامية، في نظرة تقويمية في حساب الربح والخسارة في هذه السياسات التعليمية، التي تقوم عليها كثير من هذه الأقطار: من مدارسها ومعاهدها وجامعاتها، ما مقدار ما تحقق من التقدم المنشود؟! من مقابل ما صرف من أموال وجهود في المنشآت والمناهج والوظائف والمخرجات، وماذا كانت الحصيلة لفلذات الأكباد وأنواع الشباب؟! ما هي أحوال الفوضى الفكرية الهائلة، والتناقض في الأفكار والآراء والشك والارتياب في الدين، والتهاون في الفرائض والواجبات، والتمرد على الآداب والأخلاق والتقليد والتبعية القاتلة في الظواهر والقشور؟!
أجيال وأفواج فارغو الأكواب، ظامئو الشفاه، مظلمو الروح، كليلو البصر، ينكرون أنفسهم، ويؤمنون بغيرهم، يموت الأمل في صدورهم، مبهورون بإنتاج غيرهم، يمدون أيديهم يستجدون خبزاً وشعيراً، يلوكون رطانة، ويتكسرون في مشية، لم تزرع فيهم التربية الثقة بأنفسهم، بل لم تعرّفهم بأنفسهم، ولم تبين له منزلتهم، ولم تشحذ همتهم، لم تبن فيهم الشعور بمسؤوليتهم، قتلوا من غير حرب، كل قلوبهم ونفوسهم حول الماديات تحوم، وبالقشور والهندام تتعلق.
لقد آن الأوان في وقفة جادة، ومحاسبة صادقة: الاعتراف بفشل النظم التربوية الدخيلة، والاعتراف بعجزها عن تربية الفرد والمجتمع، لقد قامت المناهج المستوردة في التربية على أحد أمرين:
إما التنكر للدين، وإما الفصل بين الدين والدنيا، وعلى هذا قامت دراساتهم، وبنيت نظرياتهم؛ فجاءت التطبيقات والمناهج على أمور الدنيا وحدها، وفصلت أمور الدين عن التربية.
أيها المربون، أيها الفضلاء، العلوم والآداب والمناهج ونظريات التربية التي ظهرت، تظهر في الغرب أو في الشرق أو في أي مكان من الدنيا: هي تجارب بشرية يخطئ أصحابها ويصيبون، ويمشون ويتعثرون، يؤخذ منها ما ينفع بعد أن تجرد مما يقترن بها من عوامل الإلحاد والإفساد والاستخفاف بالقيم، ثم تصبغ بصبغة الإيمان صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـٰبِدونَ [البقرة:138].
ليس من العقل ولا من الحكمة والنصح للأمة أن تنقل هذه العلوم والنظريات بعلاّتها وعوامل الإفساد فيها، يجب أن تقود هذه العلوم والدراسات إلى الإيمان والتقوى والخشية، إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء [فاطر:28]. وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191].
أيها المسلمون: إن قضية التربية والتعليم في البلاد الإسلامية من كبرى القضايا ومن عظائم المهمات، فهي مسألة قائمة بذاتها ؛ لأن أمة الإسلام أمة خاصة في طبيعتها ومنهجها وأهدافها، أمة ذات مبدأ وعقيدة، ورسالة ودعوة وجهاد، يجب أن تكون التربية والتعليم خاضعين لمبادئ الأمة وعقيدتها ورسالتها ودعوتها، وكل تربية أو تعليم لا تحمل ذلك ولا تتضمنه فهي خيانة للأمة، وغدر بالذمة.
التربية في الإسلام لم تترك للاجتهادات الإنسانية البحتة، ولا لمن تستهويهم المبادئ المستوردة، وتأسرهم الأفكار الوافدة لتأخذ بهم ذات اليمين تارة، وذات الشمال تارة، ما بين رجعية وتقدمية، واشتراكية ورأسمالية، وفي مدرسة كذا، وعند مدرسة كذا، ونظرية فلان، وقانون فلان.
التربية – أيها الفضلاء – ليست بضاعة للتصدير، والاستيراد، ولكنها لباس يفصل على قامة الأمة؛ ليعكس حقيقتها وملامحها، حقيقتها في الباطن، وملامحها في الظاهر.
التربية تجسد أهداف الأمة التي تعيش من أجلها، وتموت في سبيلها، تجسد العقيدة المستقرة في قلوبها، واللغة التي تنسج بها حضارتها، والمثل الأعلى الذي تطلع إليه، والتاريخ الذي تغار عليه.
أمة الإسلام بحاجة إلى نظام تربوي وسياسة تعليمية تناسب طبيعتها، وتسير مع مثلها العليا في عقيدتها وشريعتها وروحها الجهادية ؛ لتعود لها عزتها، وتسترد أمجادها.
تربية تقوم عليها حياة المسلم من أولها إلى آخرها، وتشمل المجتمع بكل طبقاته، وتعيش معه في كل ظروفه وأحواله.
تربية إسلامية منهجية، تنتظم كل سنوات العمر ومراحل الدراسة؛ من رياض الأطفال حتى أعلى الدراسات العليا، يكون التغيير بها عملياً إلى الصلاح والإصلاح واستعادة العزة وتثبيت الكرامة تربية إسلامية تصلح القلوب، وتطبب النفوس، وتزكي العقول في تقدير للمواهب، واعتراف بالفروق بين الأفراد، فكل ميسر لما خلق له.
التربية تعني – بإذن الله – وظيفة صناعة الرجال، وصياغة العقول، وصيانة السلوك، وتحقيق أهداف كل العلوم ؛ ليكون الإنسان قادراً على حسن المسيرة في هذه الحياة وفق أهدافه النبيلة وغاياته السامية.
التربية هي تعاهد المسلم بالإصلاح في عقيدته وعبادته وخلقه.
التربية هي السعي إلى إصلاح الحياة في كل جوانبها من أجل بلوغ السعادة في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة المربون: ومهما قيل في تفسير السعادة ومعناها فلا محيص من التأكيد والتقرير: أن التربية هي احتفاظ الأمة بالقيم التي تقوم عليها حياتها، والجهاد من أجل بقائها، والنقل الأمين إلى الأجيال القادمة.
ونحن المسلمين، الفواصل عندنا واضحة بين الكفر والإيمان، والدين والزندقة، والالتزام والتحلل، والحلال والحرام، إن عندنا في ذلك خطوطاً فاصلة وفوارق واضحة، أما الآخرون فعقائدهم مبهمة غامضة، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ [آل عمران:110].
وبعد – أيها الإخوة المسلمين، أيها الإخوة المربون -: لقد آن الأوان أن تصاغ التربية ونظام التعليم في الأقطار الإسلامية في الروح والقالب والسبك والترتيب، يجب أن تدون العلوم تدويناً إسلامياً، وتؤلف الكتب والمناهج مشبعة بروح الدين وما لا يعارض الدين، بل تبعث الإيمان واليقين في العلوم كافة: النظري منها والعملي، إن الأمة إن فعلت ذلك فلسوف تنشأ أجيال تفكر بعقل مسلم، وتكتب بقلم مسلم، وتدير دفة أمورها بسيرة رجل مسلم، وتقوم على شؤونها كلها بمقدرة مسلم وبصر مسلم.
وهو عمل كبير واسع، ولكنها الحياة والقوة – بإذن الله – تقوم عليها لجان ومجامع وهيئات تحت مظلة الحكومات الإسلامية ودعمها وتشجيعها، وهو يسير – بإذن الله – إذا صدقت النيات، وتوجهت العزائم، وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد .
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|