أما بعد:
فما زلنا نعالج أيها الإخوة علاج القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه، وقد سبق لنا أن العلاج يكون بأمرين: بمحاسبة النفس ومخالفتها، وكان آخر ما مرّ بنا الكلام على فضيلة محاسبة النفس، ثم نقول اليوم وبالله التوفيق:
محاسبة النفس نوعان، نوع قبل العمل ونوع بعده.
فأما النوع الأول: فهو أن يقف العبد عند أول همِّه ومبدء إرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه.
قال الحسن رحمه الله تعالى: "رحم الله عبدًا وقف عند همِّه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر".
ولكن، كيف يكون محاسبة النفس قبل العمل؟ إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهَمّ به العبد وجب عليه أن يقف أولاً وينظر، هل ذلك العمل مقدور له أم غير مقدور ولا مستطاع؟ هل يستطيع فعله؟ هل يقدر عليه؟ فإن لم يكن مقدورًا له لم يقدم عليه، وإن كان مقدورًا له، وقف ثانية ونظر، هل فعله خير له من تركه؟ أم تركه خير له من فعله؟ فإن كان ترك العمل الذي همَّ به، وأراد أن يفعله -إن كان تركه- خيرٌ له من عمله لم يُقدم عليه، وإن كان فعله خير له من تركه وقف ثالثًا، ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله وثوابه؟ أم إرادة الجاه والثناء من المخلوق؟ ما الباعث على العمل؟ أراد به وجه الله واحتساب الثواب عنده. أم أراد الجاه والثناء والمال من المخلوق؟
فإن كان الباعث عليه إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق لم يقدم عليه, وإن أفضى به إلى مطلوبه، ينبغي عليه ألا يُقدم على العمل، وإن أفضى به إلى تحقيق مطلوبه ومبتغاه، لماذا؟ لئلا تعتاد النفس الشرك ويخف عليها العمل لغير الله تعالى، فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لوجه الله تعالى حتى يصير أثقل شيء عليها، إذا اعتاد العبد العمل لغير وجه الله وتساهل في ذلك ثقل عليه العمل لله تعالى.
وإن كان الباعث على هذا العمل إرادة وجه الله تعالى وثوابه وقف رابعًا وأخيرًا، ونظر: هل هو مُعانٌ عليه وله أعوان وأنصار ينصرونه، إذا كان العمل محتاجًا إلى ذلك أم لا؟ إن كان ليس له أعوان أمسك عنه فإن النبي أمسك عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، فإن كان مُعانًا عليه فليقدم فإنه منصور، فلا يفوِّت النجاح إلاَّ من فَوّت خصلة من هذه الخصال، وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح، فهذه أربع مقامات، إذا حاسب العبد نفسه عليها قبل العمل تبين له ما يقدم عليه من العمل وما يحجم عنه، فما كل ما يريد العبد فعله يكون مقدورًا له ولا كل ما يكون مقدورًا له يكون فعله خير له من تركه، ولا كل ما يكون فعله خير له من تركه يفعله لله، ولا كل ما يفعله لله يكون معانًا عليه.
وأمَّا النوع الثاني: فهو محاسبة النفس بعد العمل، إذا حاسبها قبل أن يعمل وانشرح صدره للعمل فقام به فينبغي عليه محاسبة نفسه بعد العمل أيضًا, لماذا؟ قد وفَّى المقامات التي ذكرت وحققها لماذا يطالب بالحساب بعد العمل مرة أخرى؟ لمصالح أخرى تتبين بعد المحاسبة، ومحاسبة النفس بعد العمل ثلاثة أنواع أحدها:
محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى: إذا فعل العبد طاعة فإنه ينبغي عليه أن يحاسب نفسه بعدها، هل قصَّر في هذه الطاعة أم وفى المقامات التي ينبغي مراعاتها من حق الله في الطاعة؟ وما هي المقامات؟ هي ستة:
الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة رسول الله في العمل، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود منة الله تعالى عليه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله.
يعني عليه أن يسأل نفسه بعد أداء الطاعة هل أخلص في العمل؟ ونصح لله في أداء هذا العمل؟ فخلّصه من الشوائب وخلّص من إرادة غير الله تعالى فيه، وهل تابع رسول الله فيه؟ بحيث يكون العمل خالصًا صوابًا، خالصًا لله، وصوابًا أي يتابعوا فيه رسول الله فلا يؤديه بالهوى إنما يقيده بمتابعة رسول الله .
ثم هل شهد الإحسان في هذا العمل؟ وما هو الإحسان؟ الإحسان كما سئل جبريل النبي عنه فقال: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) وجاء في هذا حديث أبي هريرة في البخاري وحديث عمر في مسلم: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه)) رأي العين فإن من رأى العظيم أمامه لم يشرد ذهنه، ولم يتجه في كل واد، وإنما يركز ويحضره انتباهه وتركيزه، ((فإن لم تكن تراه)) وهذا هو الواقع فعلاً فإن الله لا يُرى في الدنيا ولن تروا ربكم حتى تموتوا، كما جاء في صحيح مسلم والحديث صحيح ((فإنه يراك))، عليك أن تستيقن أن الله تبارك وتعالى وإن حيل بينك وبين رؤيته ((فإنه يراك)) وهذا دافع لك على أن تحسن في أداء العمل.
ثم من مقامات الطاعة: أن تشهد مِنّة الله عليك عندما تؤدي الطاعة، الله هو الذي مَنّ عليك ووفقك وشرح صدرك لأداء الطاعة، ولو أراد لصرف قلبك عنها، ولجعلك من الذين ينشغلون بدنياهم عن آخرتهم، لكن هو الذي رحمك ونظر إليك بعين الرحمة فهداك وأرشدك لتلك الطاعة، فلا تغتر ولا تنظر إلى نفسك نظرة الإعجاب والإدلال.
والمقام السادس: أن تشهد وأن تعترف وأن تلحظ تقصيرك في أداء الطاعة بعد ذلك كله. بعد الوفاء بكل هذه المقامات عليك أن تعرف أنك مازلت مقصرًا، وأنك لم تفعلها ولم توقعها على الوجه الذي ينبغي لله تعالى.
هذه المقامات ينبغي على العبد أن يسأل نفسه بعد أداء الطاعة هل وفاها وهل أتى بها في هذه الطاعة.
هذا أحد أنواع محاسبة النفس بعد أداء العمل.
والثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خير له من فعله، إذا فعل وعمل عملاً كان تركه خيرًا له من فعله، ولم يستن ذلك إلا بعد وقوع العمل فينبغي أن يحاسب نفسه، لماذا فعلت هذا العمل؟ قد كنت سألتُ نفسي وحاسبتها قبل فعله، وتبين لي أن فعله خير لي من تركه، فهل تابعت هواي؟ هل كان تركه خيرًا ثم تابعت أنا الهوى وتركت الحق الذي استبان؟ ينبغي أن يحاسب نفسه.
ثالثًا: ينبغي أن يحاسب نفسه على كل عمل مباح أو معتاد لِم فعله؟ لِم فعل هذا العمل المباح؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحًا، أم أراد به الدنيا والعاجلة فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به؟
والذين يهملون أنفسهم ويتركون محاسبتها ويسترسلون ويتساهلون ويُمَشون الأمور، يؤول بهم هذا الأمر إلى الهلاك، فإن هذه هي حال أهل الغرور الذين يغمضون أعينهم عن العواقب، ولا ينظرون فيها، ويُمشون الحال ويتكلون على العفو، فإنهم يهملون أنفسهم ويتركون محاسبتها فإذا فعلوا ذلك سهل عليهم مواقعة الذنوب كلها، وأنس بها وعسُر عليه فطام نفسه، ولو حضر هذا الإنسان التارك لمحاسبة نفسه رشده لعلم أن الحمية أسهل عليه من الفطام، أيهما أسهل أن يحمي الإنسان نفسه من الوقوع في المحظور والمخالفات، أو أن يفطمها عن المألوفات والأمور المعتادة؟ فطامها صعب، إن أعطيتها ما تريده فإنه يصعب عليك أن تفطمها، لكنك إن حاسبتها عند إرادتها للأشياء وبعد العمل سهل عليك حمايتها عن الوقوع فيما يغضب الله عز وجل، ولو حضر الإنسان رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد، وجماع ما مضى أيها الإخوة الكرام من الكلام على محاسبة النفس قبل العمل وبعد العمل:
أنه يجب على العبد أن يبدأ أولاً بالفرائض فيحاسب نفسه عليها، فإن تذكر فيها نقصًا تداركه بقضاء أو إصلاح، ثم يحاسبها على أفعال المناهي المنهيات التي نهاه الله تبارك وتعالى أن يقربها فإن ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة أو بالاستغفار والحسنات الماحية، ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خُلِقَ له تداركه بالذكر وبالإقبال على الله تعالى، ثم يحاسبها على ما تكلمت به، وما مشت إليه رجلاه، وما بطشت يداه، وعلى ما سمعته أذناه، لماذا فعله؟ ولمن فعله؟ وعلى أيِّ وجه فعله؟ ينبغي أن يحاسب نفسه على ذلك كله، ويعلم العبد أنه لا بد أن يُنشر له ولكل حركة وكلمة منه يوم القيامة ديوانان، ديوان لمن فعلته؟ وكيف فعلته؟ السؤال الأول عن الإخلاص، والثاني عن المتابعة.
قال الله تعالى في سورة الحجر: فَوَرَبّكَ لَنَسْـئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93].
وقال في سورة الأعراف: فَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف:6-7]. وقال في سورة الأحزاب: ليسأل الصادقين عن صدقهم، فإذا سُئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين.
وورد في تفسير المراد من الصادقين وجهان:
الأول: أنهم هم الأنبياء والمرسلون فيسألهم الله عن إبلاغ الرسالات التي أرسلهم بها.
والثاني: أنهم المبلغون عن الرسل سيسألهم الله عن تبليغهم ما أبلغته رسلهم إياه من شريعة ربهم، العلماء والدعاة وغيرهم سيسألهم الله عز وجل.
قال ابن القيم رحمه الله: والتحقيق أن الآية تتناول هذا وتتناول هذا، تتناول الجميع.
قال قتادة رحمه الله: "كلمتان يُسئل عنها الأولون والآخرون يوم القيامة، ماذا كنتم تعملون؟ وما أجبتم المرسلين؟" أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
|