ثم أما بعد:
عباد الله: هاهي الأيام تنقضي، والأعوام تنصرم، والأعمار تنقص، والأجل يقترب، فبالأمس القريب كنا نستقبل عاماً جديداً واليوم نودعه، قدمنا فيه ما قدمنا من الأعمال والأقوال وامتلأت الصحائف بما كتبه الكرام الكاتبون.
وهانحن اليوم بخروج عام ودخول عام نتذكر والذكرى تنفع المؤمنين. هذه الحدث العظيمة التي جرى عليها التأريخ الهجري، ألا وهي هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وخروجه من بلد الله الحرام إلى طيبة الطيبة. ذلك الانتقال الذي غير مجرى التاريخ وحول شأن العالم من شأن إلى شأن.. وما أدراك ما ذاك التحول؟.. سمو بعد انحطاط، ورفعة بعد هبوط، وعزة بعد ذل، عزاً أعز الله به أمة الإسلام، وذلاً أذل الله به أمة الكفر والإلحاد.
ونحن اليوم ونحن نعيش وضعاً لا نحسد عليه بحاجة إلى الوقوف مع هذه المناسبة وأمثالها لنستلهم الدروس والعبر من هذه المناسبة ونستفيد منها في حياتنا العملية التطبيقية دروساً تعود بنا إلى عز سابق ومجد دارس قد فقدناه في حاضرنا وتخبطنا كثيراً نبحث عنه وهو بين أيدينا وأمام أعيننا.
أيها الموحدون: لقد غفلت الأمة غفلة عظيمة عندما توجهت إلى كل حدب وصوب تبحث عن العزة والمجد والرفعة والسؤدد، وأبعدت تبحث عن ذلك كله في غير نبعها الرباني الصافي ومنهلها النبوي الأصيل القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد نبهنا عليه الصلاة والسلام وبين لنا أننا إن تمسكنا بهذين الأصلين الكريمين العظيمين فلن نضل أبداً فقال صلى الله عليه وسلم: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي)) [رواه مالك].
ولما ولت هذه الأمة وجهها قبل المشرق والمغرب إلا قلة قليلة ما زالت متمسكة بالكتاب والسنة ولله الحمد تقول بهما وتدعو إليهما، أقول لما ولى أولئك وجوههم قبل المشرق والمغرب تاهوا وضلوا واستضعفوا وذلوا.
ونحن اليوم وقوفاً منا على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتمسك بالكتاب والسنة نقف وقفة تأمل مع حادثة الهجرة لنستفيد منها عبراً وعظات لعل الله أن ينفع بها هذه الأمة ويرفع بها هذه الذلة.
عباد الله: لقد مكث صلى الله عليه وسلم يدعو أهل مكة إلى التوحيد ثلاث عشرة سنة يدعوهم إليها ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً فما استجاب من القوم إلا القليل حتى حاول الخروج بدعوته وخرج عليه الصلاة والسلام فعلاً إلى الطائف في محاولة لنشر الدعوة لكن أهل الطائف خذلوه وردوه ولم يقبلوا منه بل سلطوا عليه سفهاءهم يرمونه عليه الصلاة والسلام بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين، فعاد إلى مكة حزيناً منكسر البال ثم جاء الأمر بعد بالهجرة إلى طيبة الطيبة، وأخذ معه رفيقه وصاحبه أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبو بكر قد استعد لذلك ولما علم بأن الرسول سيأخذه معه في رحلة الهجرة بكى رضي الله عنه من شدة الفرح حتى تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما كنت أعرف أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبي يبكي، عندما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون رفيقه في هجرته. وخرج الرفيقان واختبئا في الغار ثلاثة أيام حتى يهدأ الطلب والبحث عنهما وكانت قريش تحاول منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الهجرة ولكن كان أمر الله مفعولاً.
وخرج الكفار يبحثون عن الرجلين وحاولوا وبحثوا وجدّوا حتى وقفوا على رأس الغار الذي يختبئ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حتى خاف أبو بكر رضي الله عنه، ولكنه كان يخاف على رسول الله لا على نفسه حتى قال: (والله يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لرآنا)، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ((يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا، يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) ثم يعود الكفار أدراجهم ويضعوا جائزة عظيمة لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتاً. ويخرج الناس يبحثون وبالفعل يلحق به سراقة بن مالك ويقترب منه لكن قوائم فرسه تسيخ في الرمال ثم يحاول مرة أخرى ثم يحاول مرة ثالثة فلا يستطيع الوصول إليه، يقول سراقة رضي الله عنه فعلمت أنه ممنوع مني أي محفوظ بحفظ الله لا يستطيع الوصول إليه. ثم يعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بسواري كسرى إن هو عاد وكتم الأمر.
ويعود سراقة ويكمل الرسول مسيرته إلى طيبة ويصل هناك ليستقبله المسلمون بحفاوة وترحيب وفرح وحب، وليؤسس صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام ويعز الله دينه ويعلي كلمته ولو كره الكافرون ولو كره المشركون.
هذه أيها المؤمنون هي قصة تلك الرحلة العظيمة رحلة الهجرة. رحلة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام. رحلة خروج الداعية من بلده إلى أرض الله الواسعة ليمارس شعائر دينه وينشر دعوته على الناس فيعم الخير. رحلة المفارقة لقوم السوء الذين لا ينشرون الخير ولا يعينون عليه.
|