أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ونفسي ـ بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فتقوى الله هي الوصية الجامعة، والذخيرة النافعة، واستعدوا للمنايا فهي لا بدّ واقعة، واحذروا زخارف الدنيا المضلة، فمن استكثر منها فما ازداد إلا قلة، وليكن استكثارهم وازديادكم من التقوى، فهي خير زاد يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر: 18].
أيها المسلمون:
من أحب الله أحب رسوله محمدًا ، ومن أحب رسوله محمدًا أحب لغة القرآن الكريم، لغةٌ كريمة، نزل بها أفضل كتاب، ونطق بها أفضل مخلوق ، هي وعاء علوم الدين، وذخائر التراث، لا تكون معرفة القرآن والسنة إلا بها، ولا يتم فهم علومهما ومقاصدهما بدونها، تعلّمها وإتقانها من الديانة، فهي أداة علم الشريعة ومفتاح الفقه في الدين.
أيها الإخوة المسلمون:
لغة الأمة ميزان دقيق، ومعيار أساس في حفظ الهوية وتحديد الذات؛ فهي شريان الأمة، وأقنوم الحضارة، ومصدر عظيم من مصادر القوة، وإذا أضاعت أمة لسانها أضاعت تأريخها وحضارتها كما تُضيِّع حاضرها ومستقبلها.
اللغة هي أهم ملامح الشخصية الإنسانية، إن لم تكن أهمها، اللغة هي التي تربط المرء بأهله وأمته ودينه وثقافته، فهي التأريخ، وهي الجغرافيا، اللغة مظهر من مظاهر قوة الابتكار في الأمة، فإذا ضعفت قوة الابتكار توقفت اللغة، وإذا توقفت اللغة تقهقرت الأمة، وإذا تقهقرت الأمة فذلكم هو الموت والاضمحلال والاندثار.
إن شواهد التأريخ قديمها وحديثها تظهر بجلاء أنه لم تتقدم دولة، ولم تُشَد حضارة ما لم تكن العلوم والتعليم بلغة الأمة نفسها، لا بلغة أجنبية عنها.
أيها المسلمون:
وفي شواهد التأريخ أيضًا: لقد استطاعت لغة القرآن الكريم أن تحقق متطلبات المجتمع التاريخية عبر الأحقاب المختلفة، بكل المستويات، الدينية والعلمية، والاقتصادية والاجتماعية، والسياسية والعسكرية، في عصر النبوة، ثم الخلافة الراشدة، ثم في حكم بني أمية، وما وافقه من تعريب الدواوين، ونظم الإدارة للمجتمعات المختلفة، والأقاليم، والجيوش، والحياة العامة، كما استجابت اللغة لحاجات الحضارة أيام بني العباس، وما واكبها من حركة الترجمة، بل هي لا غيرها كانت لغة العلم والبحث العلمي، في الطب، والعلوم، والرياضيات، والفلك، والهندسة، وغيرها.
الدولة الإسلامية على مرّ عصورها لم تأخذ من الأمم في احتكاكها معها إلا بمقدار الحاجة الماسة، للتعبير عن بعض المعاني التي لم تكن موجودة في لغتها، ولم تفتنهم لغات هذه الأمم رغم حضارتها العريقة، كفارس والروم واليونان، بل زادهم ذلك تمسكًا وحرصًا.
والعجيب في هذا التأريخ الإسلامي العظيم، وهذا الدين الأخاذ أن أبناء الأمم الأخرى هم الذين كانوا يتسابقون إلى تعلم لغة القرآن، لغة الدين والعلم، بل هم الذين نبغوا فيها، وشاركوا على نحو مدهش في وضع قواعدها، وجمع معاجمها، انطلاقًا من الشعور الإسلامي الرائع، الذي أحل لغة القرآن أرفع المنازل؛ لأنها لغة الدين والتنزيل.
وفي كل أرجاء الأمة وأصقاعها تتردد أصداء هذا الحديث النبوي فيما يروى عنه أنه قال: ((إن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم، إنما هي اللسان، فمن تلكم العربية فهو عربي)) والحديث ضعيف في إسناده، ولكنه صحيح في معناه، كما يقرّر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
أيها الإخوة في الله:
وإذا كانت لغة القرآن، ولغة الإسلام بهذه القوة، وبهذه المقدرة، وبهذه المنزلة، فلا غرابة أن تكون مستهدفة من أعدائها، فلقد علم المشتغلون بدراسات التاريخ المعاصر، والمتابعون لمسيرة الاستعمار، وسياساته أن التهجم على اللغة، والتهوين من شأنها، والسخرية من المشتغلين بها، والتهكم بها في وسائل الإعلام، والقصص، والروايات، والمسرحيات، في سياسات مرسومة، وحملات مكثفة، ثم تلقّف ذلك مِن بعدهم وعلى طريقهم أذناب وأجراء وعملاء.
نعم، ليس من المستغرب أن تتعرض لغة شعب من الشعوب في مرحلة الغزو والاحتلال إلى الإذابة والمحو؛ لأن اللغة معلم بارز في تحديد الهوية وإثبات الذات، فكيف إذا كانت اللغة هي لغة القرآن، ولسان الإسلام؟!
وقد يكون من غير الحصيف ـ أيها الإخوة ـ أن نلوم أعداءنا فيما يقومون من أجل مصالحهم، وتحقيق أهدافهم، وسعيهم في تحطيم غيرهم، ولكنَّ الأسف والأسى أن يصدر ذلك ويتبناه فئات من بني قومنا، تعلقوا بالأجنبي، وولّوا وجوههم شطره، ثقافيًا وفكريًا، وأصبحوا ينظرون إلى ثقافة الإسلام بازدراء، وإلى لغة القرآن باحتقار، والأجنبي لم يضمن ولاءهم اللغوي فحسب، ولكنه ضمن ولاءهم الفكري والسياسي.
لماذا هانت علينا أنفسنا؟ وهانت علينا بلادنا؟ وهانت علينا لغتنا، لغة ديننا ولغة قرآننا؟
إن ما أصاب الأمة من ظروف سياسية واقتصادية وضعف في الديانة أدى إلى ركود الفكر، وضعف الثقافة حتى آل الأمر إلى هذه التبعية المشينة.
إن الأزمة أزمة عزّة لا أزمة لغة، وأزمة ناطقين لا أزمة كلمات، لم تضعف اللغة ولم تعجز، ولكن ضعف أبناؤها، وقصَّر حماتها، إن من الظلم والحيف أن يتَّهم هؤلاء الأبناء العاقون الكسالى لغتهم من غير حجة ولا برهان، ضعافٌ في أنفسهم، مهازيل في طموحاتهم، يُرهبون أنفسهم بثورة المعلومات، وترتجف قلوبهم لتقدم التقنيات.
مسكين هذا المثقف الذي ضعف وتخاذل، فشرَّق وغرَّب، يفتِّش لعله يجد له ملجأ أو مدَّخلا.
ما الذي يريده هؤلاء المساكين؟ هل يريدون أن ينسلخوا من هويتهم فيهاجروا بألسنتهم وعقولهم إلى أعدائهم ويتحولوا إلى مخلوقات تفكر بعقول غير عقولها، ورطانة بلسان غير لسانها؟! هل يتخلون عن هويتهم ودينهم وعزهم بسبب نظرة ضيقة ومنفعة آنية هي في مآلها ومصيرها ضرر ماحق، وخطر داهم، وبلاء محدق؟!
أيها المسلمون:
ويزداد الضعف ويتجلى الهوان عند هؤلاء المشككين حين يتفوّهون بقولهم: إن استخدام لغة الأمة قد يسبب غزوف الطلاب عن إتقان اللغة الأجنبية، مما يؤدي إلى ابتعادهم عن الأبحاث الجديدة، والتطور السريع.
ويحدثك آخرون عن سوق العمل، فترى مخذولين مبهورين، يفاخرون في بعض كلياتهم وأقسامهم بأنهم يدرسون جميع العلوم لديهم بلغة الأجنبي، بحجة أن سوق العمل يتطلب ذلك.
وهي حجج يعلم الله، ويعلم المؤمنون، ويعلم العقلاء أنها واهية، بل هي ـ والله ـ أوهى من بيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
ولكنها أحوال تذكِّر بعهود التسلط والاستعمار، في بعض البلدان في الماضي، وما أشبه الأجواء الثقافية لعهد العولمة الحاضر بالأجواء الثقافية بعهد الاستعمار الغابر، من حيث تسويغ الاستلاب الثقافي والديني عن طريق الهجوم الشرس على اللغة وزعزعتها في حياة الأمة، وإحلال اللغة الأجنبية بمسوّغات بالية.
وحين يحدثونك عن اللغة وسوق العمل ليتهم يحدثونك عن مصطلحات علمية، وتقنيات متقدمة، واتصال بالجديد من العلم والتقنية، ولكنه مع الأسف ليس سوى إتاحة لعمالة وافدة متوسطة التأهيل، ومتدنية الكفاءة، تتربّع على مواقع العمل في المؤسسات والشركات، والأسواق والتجارة، مهمتهم عرض البضائع وترويج السلع، وترتيب المستودعات، وقيد السجلات، وضبط المراسلات.
سوق عمل مخزي، تحولت فيه المستشفيات والفنادق وبعض أقسام الجامعات وبعض الأسواق ومعارض البضائع والتجارات واللوحات الإعلانية والتجارية، تحول كل ذلك إلى بيئات أجنبية، يتبادل فيها أبناء الأمة لغة أو لغات أجنبية، حتى تحولت قوائم الأطعمة والسلع والأسعار إلى اللغة الأجنبية، وفرضت وجودها وأنماطها على شرائح واسعة من أجيال الأمة، فاضطربت لغة التخاطب، وفسدت الألسن، وزادوا تخلفًا إلى تخلفهم، وضعفًا إلى ضعفهم، وامتلأت سوق العمل بالوافدين من غير حاجة حقيقية، ويريدون من أبناء الأمة أن يتحدثوا اللغة الأجنبية من أجل هؤلاء، زاعمين أنهم بهذا يهيئون لأبنائهم فرص العمل.
أيها المسلمون، أيها المخلصون:
إن وجود وافدين مهما كان عددهم، ومهما كانت الحاجة إليهم، بل مهما كان مستواهم العلمي والفني، لا يجوز أن يكون سبيلاً للتفريط في السيادة على أرضنا، وقد علم العقلاء والاجتماعيون، فضلاً عن العلماء والمربين أن اللغة من أهم مظاهر السيادة، وكم تمزقت بلاد حين تعددت لغاتها، بل لقد ظهرت مبادئ انشقاق وطني في بعض الشعوب، وتصدعت صفوفها، وتسببت في إثارة الفتن والنعارات من أبناء البلد الواحد مما تشاهد آثاره المدمرة ماثلة أمام العيان، والأعداء لنارها يوقدون.
إن من الغفلة الشنيعة الزعم بأن مصلحة السوق، ودواعي الاستثمار تتطلب لغة أجنبية، فكل بلاد العالم ولا سيما المتصدرة منها قائمة التقديمة لا يمكن أن تُؤثر شيئًا على لغتها مهما كانت الأسباب والدواعي والدوافع.
أما كان الأجدر بهؤلاء إن كانوا وطنيين مخلصين أن يجعلوا تحدث لغتها شرطًا في العمالة الوافدة، بدلا من إجبار أبنائنا أن يتحدثوا لغة أجنبية من أجل هؤلاء الوافدين؟! إن هذا ـ والله ـ لانتكاسة عجيبة.
وبعد أيها المؤمنون:
وفي محاسبة جادة، ومساءلة صادقة، إن كثيرًا من الشعوب الموصوفة بالنامية قد انزلقت في تعليم أو تعميم اللغة الأجنبية في أبنائها، فماذا أفادت وماذا استفادت؟ هل خرجت من قوس النامية هذا؟!
إن أعداءكم اليهود قد أحيوا لهم لغة مندثرة، لا حضارة لها ولا تاريخ، فأصبحت هي لغة العلم والأدب والحياة.
إن أي أمة تروم التقدم والقوة والعزة والاعتماد بعد الله على نفسها لا يمكن أن تمتلك زمام العلم والتقنية إلا حين تعلّم ذلك كلَّه بلغتها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل. [الشعراء: 192ـ 197].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|