.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

عيد الفطر 1421هـ: مفاهيم ينبغي أن تصحح

2058

التوحيد

الألوهية

عبد الرحمن بن محمد عثمان الغامدي

جدة

1/10/1421

القدس

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- العيد فرحة لأهل الإسلام. 2- العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه. 3- رسول الله يعلم الصحابة أنواعاً من العبادة التي يذهل عنها الناس. 4- ضمور معنى العبادة عند بعض المسلمين. 5- آثار المفهوم الخاطئ والقاصر للعبادة. 6- دعوة لتصحيح هذا المفهوم.

الخطبة الأولى

 

أما بعد:

فيا عباد الله،  اتقوا الله حق التقوى واعتصموا بالله فإنه نعم المولى.

عباد الله: نحن نفرح بهذا اليوم لأن الله جعله فسحةً لنا أهل الإسلام، فعيدنا اتباعٌ لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعثه ربه ليخرج البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الذل لغير الله إلى العز والشرف والرفعة في التذلل والتعبد لله. خلق الله الخلق حنفاء على ملة مستقيمة، وفطرة سوية فاجتالتهم الشياطين وزينت لهم اتباع الهوى واللهث خلف الشهوات، فبعث الله الرسل مبشرين للمؤمنين بالجنات، ومنذرين للكافرين من الدركات، فصححوا المفاهيم وبينوا السبيل وأوضحوا الطريق للسالكين، فكان الناس فريقين: فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير.

ولذا - عباد الله - فإن البشرية إنما تسقط بسقوط مبادئِها، وإن المبادئ لا تنهار من قلوب الناس إلا عندما تنحرف مفاهيمها. فحينما ينحسر مثلاً مفهوم العبادة في نطاق الشعائر التعبدية وحدها فإن هذا انحراف في الفهم غريب وخاطئ وخطير.

ولذا لزاماً علينا عباد الله أن نفهم معنى العبادةِ كما فهمَها سلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم من أن العبادة اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك كله من العبادة. وكذلك حب الله وحب رسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادات لله.

بهذا الفهم الواسع الشامل نفهم معنى قول الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. إن مفهوم العبادة يشمل كل نشاط في حياة الإنسان قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].

إن العبادة الصحيحة هي التي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها، رباهم عليها بسيرته العظيمة التي يرونها بين ظهرانيهم وقد تمثلت في عبوديةٍ لله عز وجل عبودية كاملة، فيتأسون بها كما قال الله: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21]. ويربيهم بتوجيهاته المباشرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة))، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر))[1] وعن أبي ذر رضي الله عنه قال:  قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله))، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: ((أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً)). قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعاً أو تصنع لأخرق))، قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: ((تكف شرك عن الناس فإنها صدقة)) [2].

وعن أبي ذر أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)) [3]. وفي حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك))[4].

وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة إلا كان له صدقة))[5].  وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجر ما أنفقت، ولزوجها أجر ما اكتسب، ولخازنه مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض))[6] وروي عنه صلى الله عليه وسلم: ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء))[7] وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها))[8]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس))[9].

كل ذلك عباد الله من التوجيهات المستفيضة التي تدل على أن مفهوم العبادة يشمل جميع مجالات النشاط الإنساني، فلك يا عبد الله في كل وقت عبادة، وفي كل مكان لك عبادة، وكل حال وكل وصف يا عبد الله لك فيه عبادة. عبادات مختلفة متنوعة، بعضها شعائر مفروضة ذات أوقات محدودة، وبعضها معاملات مفتوحة تشمل كل نشاط الإنسان: السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والعلمي والحضاري.

هذا الذي فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي) [10].

فكانوا يرون أن النوم عبادة كما يرون أن القيام عبادة. فالعبادة عندهم إيثار مرضاة الله في كل وقت وحال. ثم جاء في أعقاب الزمان من أساء فهم العبادة، وجعلها محصورة في الشعائر التعبدية فحسب.

فيرى أن له أن يصلي، ولا يحكم بشرع الله.

وله أن يصوم، ويتعامل بالربا.

وله أن يحج، ويختلط بالنساء ويمازحهن وربما يزني.

وله أن يقول: لا إله إلا الله، ويعادي أولياء الله، ويوالي أعداء الله.

عباد الله، إن هذا الفهم العقيم الذي انتشر شره وتأججت ناره، أفرز لنا شرائح منتنة من الناس، شرائح وصفهم النفاق، واسمهم في عصرنا: العلمانيون، ذابت شخصياتهم في الغرب الكافر، وتخلل قلوبهم حبه وموالاته، وأعجبوا بما هم عليه من العلم بالمخترعات والإبداع في المصنوعات، فأصبحوا يرددون ما يقولون، ويتبعون ما به يأمرون رغبة ورهبة، حتى أصبح المعروف في أعينهم منكراً والمنكر معروفاً، فأصبحوا يرون أن تحكيم شرع الله رجعية، وأن الجهاد في سبيل الله إرهابٌ يجب القضاء عليه، وأن معاداة الكافرين وموالاة المؤمنين عنصريةٌ لا مبرر لها.

عباد الله، إن حصر مفهوم العبادة في الشعائر التعبدية فقط أمرٌ خطير تسبب في أمور عظيمة من أهمها: أن الشعائر التعبدية صارت تؤدى بصورة تقليدية عديمة الأثر والفائدة حين عزلت عن بقية أمور الإسلام.

فالصلاة التي أخبر الله عز وجل عنها بقوله: إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] لم تعد ذات أثر واقعي في حياة مؤديها من الناس حيث لم تعد تنهاهم عن الفحشاء والمنكر. وما كان لها أن تحدث ذلك الأثر لولا أنها حصرت العبادة في أداء الشعائر التعبدية فحسب.

ومن ذلك تهاون الناس في بقية جوانب العبادات الأخرى حتى أصبحت عند بعضهم ليست من العبادة في شيء.

حين ترى من المسلمين من يصلي الفروض جماعة في المسجد ثم يخرج ويحلف على عتبة المسجد كاذباً، ويغش في بيعه وشرائه ويحتال في معاملاته ويأكل الربا ويقع في أعراض الناس، ثم تراه سادراً في ذلك مرتاح الضمير قد أسكت وخزات ضميره وتأنيب نفسه بما نقره من ركعات.

ومن ذلك العناية بالجانب الفردي الشخصي وإهمال الجوانب الاجتماعية، فتجد من الناس من يعتني بالآداب الفردية المتعلقة بالذات أكثر من عنايتهم بالآداب الاجتماعية المتعلقة بالآخرين، فقد يكون في ذاته نظيفاً ولكنه لا يبالي أن يلقي القمامة في طريق المسلمين، ناسياً أن إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان، وقد يكون المسلم مراعياً لأحكام الطهارة وشروطها في نفسه، ولكنه لا يبالي أن يلوث للناس طرقهم وأماكن جلوسهم ويخل بالآداب الاجتماعية التي أمر بها الإسلام. وهذا الأمر طبيعي وقوعه حين ينحصر مفهوم العبادة في الشعائر وحدها.

وإن من آثار هذا المفهوم الخاطئ للعبادة إقامة العبادة مقام العمل، والاكتفاء برسومها وشعائرها وبما أحدث فيها من بدع. فقراءة القرآن وتلاوته لفظاً أصبح بديلاً عن العمل بما فيه من آيات الجهاد والحكم بما أنزل الله واستثمار ما في الكون من نعم الله، مع أن ذلك من العبادة. فأصبح القرآن للقراءة في المآتم وافتتاح الاحتفالات والبرامج وإغلاقها وأصبح يتكسب من ورائه.

عباد الله، إن عزل كثير من الناس أنفسهم داخل الدائرة الضيقة لمفهوم العبادة من أعظم البلايا، إنهم لم يعودوا يبالون بظهور المنكرات من حولهم، وكأن الأمر لا يعنيهم، بل وصل الأمر إلى اتهام من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالتطفل وإقحام النفس في شئون الآخرين.

ومع خروج الأخلاق من دائرة العبادة وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تفككت عرى الأخلاق وضعفت الروابط الاجتماعية كالتعاون على البر والتقوى والتكافل الاجتماعي وصلة الأرحام، وتخلخلت الأسرة واهتزت القيم التي تقوم عليها، فلم يعد الشعور بالمسئولية عند رب الأسرة وربتها نابعاً من دائرة العبادة كما هو المفترض، بل إن تدبيرهما لأمر الأسرة ورعايتهما لها لا يمكن أن يخطر لأحد منهما على بال أنه من العبادة لله عز وجل. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) [11].

وحين خرجت عباد الله، حين خرجت الأخلاق وخرج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من دائرة العبادة كان ذلك سبباً جوهرياً في سقوط الأخلاق فيما بعد، فسقط في كثير من مجتمعات المسلمين الحجاب، وفشا فيهم الاختلاط، وظهر الفساد العريض نسأل الله السلامة والعافية.

وما هذه المجالس النسائية، والاختلاط في الأسواق والأماكن العامة والخاصة، والمطالبة بقيادة المرأة للسيارة، وإظهار مفاتن المرأة على الشاشات وصفحات الجرائد والمجلات واستخدامهن وسيلة لترويج أفكارهم المسمومة وسلعهم الموبوءة إلا أثر من آثار الانحراف لمفهوم العبادة.

أستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، ونعوذ به شرور النفوس ونزغات الشياطين.




[1]  أخرجه مسلم في : الزكاة ، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1006) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

[2]  أخرجه مسلم في : الإيمان ، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (84).

[3]  أخرجه الترمذي في : البر والصلة ، باب: ما جاء في صنائع المعروف (1956) ، والبخاري في الأدب المفرد (891) وصححه ابن حبان (2/286-529) ، والألباني في الصحيحة (2/112-572).

[4]  أخرجه البخاري في : الدعوات ، باب : الدعاء يرفع الوباء والوجع (6373) بنحوه.

[5]  أخرجه البخاري في : المزارعة ، باب : فضل الزرع والغرس إذا أكل منه (2320) ، ومسلم في : المساقاة ، باب: فضل الغرس والزرع (1553) بنحوه.

[6]  أخرجه البخاري في : الزكاة ، باب : من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول نفسه (1425) ، ومسلم في : الزكاة ، باب : أجر الخازن الأمين والمرأة إذا تصدقت (1024) من حديث عائشة رضي الله عنها. وهذا لفظ أبي داود في : الزكاة ، باب : المرأة تتصدق من بيت زوجها (1685).

[7]  أخرجه الترمذي في البيوع ، باب : ما جاء في التجار وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم (1209) ، والدارمي في البيوع ، باب : في التاجر الصدوق (2539) والدارقطني (291) ، والحاكم (2/6) من طريق الحسن عن أبي سعيد، قال الترمذي: "هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه" ، وحكم الحاكم بانقطاعه ، لكن له شاهد من حديث ابن عمر أخرجه ابن ماجه في التجارات ، باب: الحث على المكاسب (2139) ، والحاكم (2/6) ، قال الذهبي في الميزان (5/500) : "حديث جيد الإسناد صحيح المعنى". وأوردهما الألباني في صحيح الترغيب (1782-1783).

[8]  أخرجه أحمد (3/191) واللفظ له ، والطيالسي (2068) ، وعبد بن حميد (1216) ، والبزار (1251- كشف الأستار) وصححه المقدسي في الأحاديث المختارة (7/264-2713) ، وقال الهيثمي في المجمع (4/63): "رواه البزار ورجاله أثبات ثقات".

[9]  أخرجه البخاري في : الجنائز ، باب : الأمر باتباع الجنائز (1240) واللفظ له ، ومسلم في : السلام ، باب : من حق المسلم للمسلم رد السلام (2162).

[10]  أخرجه البخاري في : المغازي ، باب : بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع (4342) واللفظ له ، ومسلم في : الإمارة ، باب : النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها (1824) بنحوه.

[11]  أخرجه البخاري في : الجمعة ، باب : الجمعة في القرى والمدن (893) ، ومسلم في : الإمارة ، باب : فضيلة الإمام العادل (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

الخطبة الثانية

 

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.

وبعد:

عباد الله، إن ما سبق ذكره من الآثار السيئة لحصر مفهوم العبادة في النطاق الضيق غيض من فيض، ورحم الله من قال: "الواقع أنه لو كان حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر من جملة الدينونة للعباد وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن وفي منهج حياتهم كله للدنيا وللآخرة سواء" اهـ.

وهذا هو المعنى الشامل الذي وعاه سلف الأمة وطبقوه في حياتهم وعملوا به في واقع الأرض، فدانت لهم الممالك وخضعت أمامهم الطواغيت ومكن الله لهم في الأرض ورفعوا راية الإسلام خفاقة فوق بقاع شاسعة من المعمورة.

ويوم تغير ذلك المفهوم وانحصر في دائرة ضيقة فقد فترت الهمم وخارت العزائم عن القيام بأمور الإسلام كله فوقع الضعف والهبوط. ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: "إذا تبين هذا فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق وأضلهم" اهـ[1].

عباد الله، إن ما حل بالمسلمين من تأخر حضاري وعلمي واقتصادي واجتماعي وفكري وسياسي... الخ لم يكن سببه أنهم مسلمون ولم يكن سببه حتميات تاريخية، إنما سببه ضعف السلوك ثم فساد التصور وإفراغ الإسلام من محتواه:

فيوم أن كانت وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِى ٱلدّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ [الأنفال:72]. وكانت وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ [الأنفال:60]. يوم أن كان ذلك عبادة، لم يجرؤ أحد على احتلال أرض المسلمين واستلاب خيراتها، ويوم أن غلف أعداء الله الجهاد بغلاف الإرهاب سلبت فلسطين، واعتدي على المسلمين في كشمير والشيشان وغيرها كثير، ولكن:

رب وامعتصماه انطلقت    ملء أفواه الثكالى اليتـم

لامست أسماعهـم لكنها    لم تلامس نخوة المعتصم

ويوم كان طلب العلم عبادة لم يكن هناك تخلف علمي، بل كانت الأمة المسلمة هي أمة العلم التي تعلمت أمم الكفر في مدارسها وجامعاتها.

ويوم كانت فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ [الملك:15] عبادة، كانت المجتمعات الإسلامية أغنى المجتمعات في الأرض.

ويوم أن كانت ((كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) عبادة، وكان من تولى أمر المسلمين يستشعر أنه راع ومسئول عن رعيته لم يكن للفقراء في المجتمع الإسلامي قضية لأن العلاج الرباني لمشكلة الفقر كان يطبق في المجتمع الإسلامي عبادة لله.

ويوم أن كانت وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ [النساء:19] عبادة، لم تكن للمرأة قضية، لأن كل الحقوق والضمانات التي أمر الله لها كانت تؤدى إليها طاعة لله وعبادة.

ولن يصلُحَ آخرُ هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فلا بد عباد الله من الرجوع للفهم الصحيح للعبادة، إن العبادة هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]. فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ وَإِلَىٰ رَبّكَ فَٱرْغَبْ [الشرح:7، 8]. يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].

فقوموا بما أمركم الله من توحيده ودعائه وحده، والكفر بالطواغيت والمعبودات من دونه، وجاهدوا في سبيل الله، ووالوا أولياء الله وعادوا أعداءه، واشكروا الله على ما منّ به عليكم من إكمال العدة، واستكثروا من الأعمال الصالحة صلوا الأرحام، وبروا الآباء، ووقروا الكبار، وارحموا الصغار، وأدخلوا السرور على المسلمين.

وصلوا العبادة بالعبادة، واستدركوا فضل صيام الدهر بإضافة صيام ستة أيام من شوال، قال صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)) [2].

ولا تطغينكم فرحة العيد فتأتون فيه بالمنكرات من ممازحة غير المحارم من النساء أو مصافحتهن، أو الإسراف في المأكل والمشرب والملبس، وراقبوا أبناءكم وبناتكم فيما يلبسون ويقلدون، وقد انتشر في هذه المرة أنواع غريبة من الألبسة وقصات الشعر التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها، ومن ذلك القزع، وكذلك البنات اللاتي تجاوزت الواحدة منهن سن الثامنة والعاشرة والثانية عشرة وكأنها رضيعة، ملابسها فاضحة، وزينتها فاتنة، وأولياء أمرها يرون أنها لا تزال صغيرة، وقد جاء عن عائشة: (إذا بلغت البنت التاسعة فهي امرأة) [3].

وتخلصوا من المظالم قبل أن تزل الأقدام فلا يرى العبد أمامه إلا ما قدم، ووفوا الأجراء حقوقهم وأعطوا العاملين أجورهم، ولا تدخلوا الكفار جزيرة العرب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحلها لكافر، واستعملوا إخوانكم المسلمين تقوون به إخوانكم وتواسون به المسلمين.

اللهم اجعل عيدنا فوزاً برضاك، واجعلنا ممن قبلتهم فأعتقت رقابهم من النار، اللهم اجعل رمضان راحلاً بذنوبنا، قد غفرت فيه سيئاتنا، ورفعت فيه درجاتنا..



[1]  مجموع الفتاوى (10/176).

[2]  أخرجه مسلم في : الصيام ، باب : استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعاً (1164) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.

[3]  أخرجه الترمذي في : النكاح ، باب : ما جاء في إكراه اليتيمة على التزويج (1109).

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً