إن من صفات نبينا صلى الله عليه وسلم الذي أُمرنا أن نتأسى به، أنه كان يُعرف في الجاهلية بالصادق الأمين، فالأمانة من صفات المتقين كما قال عنهم عز وجل: وَٱلَّذِينَ هُمْ لاِمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رٰعُونَ [المعارج:32]. ونحن كمؤمنين مأمورون أن نؤدي الأمانة لقول الله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [النساء:58].
ومن لم يؤد الأمانة كان خائناً، والله تعالى نهانا عن الخيانة إذ يقول: يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـٰنَـٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]. وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن عدم أداء الأمانة من صفات المنافقين بقوله: ((وإذا ائتمن خان))، وللمسلم أن يعاقب من أساء إليه بنحو إساءته دون تعد وإفراط، يقول تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّـٰبِرينَ [النحل:126]. إلا أنه لا تجوز مقابلة الخيانة بمثلها لعظمها، ولأنها لا تنبغي لمسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)).
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي الأمانة؟ يقول الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا ٱلاْمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]. فالأمانة هي كل ما ائتمن الإنسان عليه وأُمر بالقيام به، فتكون الأمانة بين العبد وربه، كالصلاة والصيام والزكاة وسائر العبادات، وكذلك ترك المحرمات، وتكون الأمانة أيضاً بين العبد والمخلوقين، كالوَلايات والودائع والأموال والأسرار، فحق على كل مؤمن أن لا يغش أو يخون مؤمناً أو كافراً في حقير أو كثير.
ولقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم محذراً أمته ((لا إيمان لمن لا أمانة له))، وأداء الأمانة لا يكون بإرجاع الأشياء إلى أصحابها فحسب، بل يكون في أمور كثيرة، فمن زوج ابنته أو اخته فاسقاً لا يصلي مع المسلمين في المسجد ويتعاطى الحرام أكلاً ولباساً ومشاهدة واستماعاً، فقد ظلم مولاته وخان الأمانة التي وضعها الله تعالى عنده من دون الناس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة))، وكتم الأسرار أيضاً من الأمانة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت، فهي أمانة))، فالتفات محدثك خشية أن يسمعه أحد غيرك، يجعل حديثه معك أمانة يحرم عليك نقلها بدون إذنه، ولقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إنما المجالس بالأمانة)).
وكم من المشاكل تحدث بين المسلمين بسبب نقل الكلام الذي ائتمنك عليه صاحبك فلم تؤد الأمانة بل خنتها، وإتقان العمل الذي لا معصية فيه من الأمانة أيضاً، جاء في صحيح مسلم أن أبا ذر أتى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يجعله عاملاً له وأميراً على بعض المناطق، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم منكبه وقال له: ((يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها))، فيدخل في هذا الوعيد النبوي كل من ولي أمراً للمسلمين، سواء كان مديراً أو وزيراً أو أميراً، فالذي يقدم مصلحة نفسه على مصلحة العمل أو مصلحة المسلمين فقد خان الأمانة.
والمنصب عباد الله وإن كان جميلاً وذا سمعة وجاه، إلا أنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم خزي وندامة يوم القيامة، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة، قيل: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)).
وكم من الوظائف يُعين عليها من ليس لها بكفء إلا لقرابته أو معرفته بالمسئول أو المدير، فهذا أيضاً من تضييع الأمانة، أقول قولي وأستغفر الله. |