أما بعد: إن الإسلام لم يكتف من المسلم أن يؤدي الصلاة وحده في عزلة عن المجتمع الذي يعيش فيه، ولكنه دعاه دعوة قوية إلى أدائها في جماعة المسلمين وفي المساجد فقال تعالى: وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلوٰةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ [البقرة:43]. قال الإمام ابن كثير تفسيره: "أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد يقول: كونوا معهم ومنهم".
وشأن صلاة الجماعة في الإسلام عظيم ومكانتها عند الله عالية، لذلك شرع الله بناء المساجد لها فقال سبحانه وتعالى: فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ [النور:36]. بل إن أول عمل بدأ به الرسول حين قدم المدينة بناء المسجد لأداء الصلاة فيه، وشرع الله النداء لصلاة الجماعة من أرفع مكان بأعلى صوت، ويستحب لها الأمة، بل كان رسول الله يتفقد الغائبين ويتوعد المتخلفين، وذلك من أجل صلاة الجماعة.
وقد شهد الله سبحانه وتعالى لمن يحافظ على صلاة الجماعة في المساجد بالإيمان حيث يقول سبحانه: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَىٰ ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ [التوبة:18].
وقد أخبر الرسول على أن الذي يداوم على صلاة الجماعة وقلبه معلق بها وبالمسجد فإنه يكون في ظل الله تعالى يوم القيامة فذكر وقال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((ورجل قلبه معلق في المساجد)) وعند الإمام مالك: "ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه".
قال الإمام النووي: "ورجل قلبه معلق في المساجد:أي شديد الحب لها والملازمة للجماعة فيها، وذلك معناه دوام القعود في المسجد".
وقد جعل الله تعالى المشي إلى الجماعات من أسباب تطهير العبد من الذنوب، قال رسول الله : ((إلا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، قالوا: بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط)).
ولا يظن أحد أن كثرة الخطا إلى المسجد هي من أسباب محو الخطايا ورفع الدرجات عند الذهاب إلى المسجد فحسب، بل هي كذلك عند العودة من المسجد، قال: ((من راح إلى مسجد الجماعة فخطوة تمحوا سيئة، وخطوة تكتب له حسنة، ذاهباً وراجعاً)) [أحمد 10/103، أحمد شاكر صحيح].
بل إن الفضل أعظم يقول: ((من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم)). الله أكبر ما أعظم أجر الخارج إلى المسجد يدرك المرء المسلم يومياً بخروجه للصلوات الخمس أجر من خرج للحج محرماً خمس مرات. وإذا كان هذا الأجر العظيم على الخروج لأداء الصلاة في جماعة فحسب، فكيف يكون الأجر على أداء الصلاة في جماعة.
ومما يدل على فضل الذهاب إلى المسجد ما نبه النبي الكريم من أن الخارج إلى الصلاة ضامن على الله تعالى ثلاثة، ضامن على الله عز وجل، من دخل بيته فسلَّم، ومن خرج إلى صلاة مكتوبة، ومن خرج في سبيل الله. ضامن أي مضمون.
ألا ما أوثق هذا الضمان وأعظمه وأي ضمان يمكن أن يكون أوثق أو مثل ضمان الخالق القادر المقتدر الأحد الصمد سبحانه وتعالى؟!
والخارج إلى الصلاة في الجماعة، هو في صلاة حتى يرجع إلى بيته، قال رسول الله : ((إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد، كان في صلاة حتى يرجع، فلا يقل هكذا، هذا وشبك بين أصابعه)).
كما أنه بشَّر المشائين إلى المساجد في الظلمات بالنور التام يوم القيامة: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) [صحيح ابن ماجه]. يقول العلامة المناوي: "لما قاسوا مشقة ملازمة المشي في ظلمة الليل إلى الطاعة جوزوا بنور يضيء لهم يوم القيامة".
وأخبر أن الله يعد نزلاً مكاناً في الجنة للمحافظة على الجماعة، فقال: ((من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نُزُلَه من الجنة كلما غدا أو راح)) [متفق عليه]. وإذا كان نزل الغادي والرائح إلى المسجد يعد من قبل الله رب السموات والأرض وخالق الكون لك فكيف يكون؟ وإذا كان هذا الأجر على الذهاب والإياب من المسجد، فماذا يكون من الأجر والثواب على أداء الصلاة مع الجماعة فيه؟
ويكفي في فضل صلاة الجماعة في المسجد ما نبه الرسول من أن وافد المسجد، زائر لله عز وجل: ((من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم الزائر))، وكيف يكون تكريم الله تعالى زائره سبحانه وتعالى، وهو أكرم الأكرمين مالك السموات والأرضين، كيف؟ بل إن الله سبحانه وتعالى وهو الغني عن كل شيء يفرح بقدوم العبد إلى المسجد لأداء الصلاة فيه. قال : ((لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه ويسبغه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا يتبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته)) يقول الإمام ابن الأثير: "البش فرح الصديق بالصديق، واللطف في المسألة، والإقبال عليه، وهذا مثل ضربه لتلقيه إياه ببره وتقريبه وإكرامه.
ومما يبين فضل الصلاة في جماعة بأن من جلس في انتظارها فهو في الصلاة، وأن الملائكة تستغفر له وتدعو له بالرحمة قال رسول الله : ((أحدكم ما قعد ينتظر الصلاة في صلاة ما لم يحدث تدعو له الملائكة، اللهم اغفر له اللهم ارحمه)).
وإذا كان جلوسه في الصف الأول فالأمر أعظم من ذلك لأن النبي : ((إن الله عز وجل وملائكته يصلون على الصف الأول)).
كذلكم التأمين مع الإمام في صلاة الجماعة له فضل عظيم، قال : ((إذا قال الإمام: غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ [الفاتحة:7]. فقولوا: آمين، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)).
ومما يدل على فضل صلاة الجماعة ما بشر به نبينا من صلى أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى، فقال: ((من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق)). قال العلامة الطيبي: "يؤمنه في الدنيا أن يعمل عمل المنافق، ويوفقه لعمل أهل الإخلاص، وفي الآخرة يؤمنه مما يعذب به المنافق، ويشهد له بأنه ليس منافقاً، وذلك بأن المنافقين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى وحال هذا بخلافهم". ما أعظم البشارة ، وما أجل هاتين البراءتين، اللهم لا تمتنا حتى ننالهما آمين.
هذا قليل مما ورد في فضل صلاة الجماعة بشكل عام، أما بشكل خاص فهناك تأكيد على صلاتي العشاء والفجر، قال : ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)). وفي صلاتي العصر والفجر، قال رسول الله : ((من صلى البردين دخل الجنة))، ويكفي في صلاتي الفجر والعصر أن النبي قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي، فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)) [مسلم، 649 الترغيب].
وقال : ((ومن صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي)).
أيها الإخوة، لقد كان سلفنا الصالح يعرفون قيمة صلاة الجماعة ومدى أهميتها ووجوبها فكانوا يحافظون عليها.
لذلك هل نعلم أن النبي كان يخرج لصلاة الجماعة في مرض قومه كان يخرج محمولاً بين رجلين حتى يقعدانه لي الصف، في مرض الموت؟! فماذا أيها الأصحاء المعافون؟! ماذا أيها الشباب؟! ماذا يا مَنْ تنعمون بالقوة والنشاط؟! كيف ترضون لأنفسكم التخلف عن المسجد والجماعة، وما الذي ستفعلونه بالصلاة إذا مرضتم؟!
أين نحن من السلف الصالح؟! لقد كانوا يستعدون للصلاة قبل إقامتها، ذكر الذهبي عن عدي بن حاتم أنه قال: (ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء)، وهذا سعيد بن المسيب لم تفته صلاة الجماعة مدة أربعين سنة، بل كان يقول: (ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد)، وهذا ربيعة بن يزيد يقول: (ما أذن المؤذن لصلاة الصبح منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد إلا أن أكون مريضاً أو مسافراً)، بل إن سليمان بن مهران كان يقول لابنته وهي تبكي عند رأسه في مرض موته: (ابكي أو لا تبكي فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الجماعة ستين سنة)، بل إن الصحابي الحارث بن حسان تزوج في ليلة من الليالي فحضر صلاة الفجر مع الجماعة فقيل له أتخرج وإنما بنيت بأهلك في هذه الساعة الليلة، فيقول: (والله إن امرأة تمنعني من صلاة الفجر في جماعة لامرأة سوء).
هكذا كانوا بل حتى وهم مرضى كانوا يحملون حملاً إلى الصلاة حتى لا يتخلفوا عن الجماعة.
لقد مرض أحد الصالحين من التابعين واسمه ثابت بن عامر، مرض فسمع أذان المغرب فقال لأبنائه احملوني إلى المسجد. قالوا: أنت مريض وقد عذرك الله، قال: لا إله إلا الله اسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لا أجيب، والله لتحملوني إلى المسجد، فحملوه إلى المسجد. ولما كان في السجدة الأخيرة من صلاة المغرب قبض الله روحه. سبحان الله أين نحن من هؤلاء؟!
إننا نرى اليوم من الناس تساهلاً عظيماً في الصلاة مع الجماعة، فمن الناس من لا يُرَى في المسجد أبداً وفي جميع الصلوات، ومنهم من لا يُرَى إلا في الجمعة وقد يسكن بجوار المسجد، ويسمع النداء خمس مرات في اليوم والليلة، إنها لخسارة كبيرة أن نرى أعداداً كثيرة وجموعاً غفيرة من الناس في مجتمع المسلمين لا يبالون بصلاة الجماعة ولا يرتادون المساجد وهم يسمعون المنادي يدعوهم بأعلى صوته ويقول لهم (حي على الصلاة حي على الفلاح) فيعرضون عنه وهو يقولون بلسان حالهم لا نريد الصلاة ولا نريد الفلاح حرمان أعظم من هذا. إن المؤذن يقيم عليك الحجة في اليوم والليلة خمس مرات، والملك يكتب عليك التثاقل عن الحضور، ويسجل عليك الغياب في محفوظة تعرض عليك يوم القيامة أمام الله، وتوضع في ميزان عملك؟فماذا أنت فاعل لربك وقتها. تركت صلاة الجماعة وتهاونت بها فاقتدى بك أقربائك، واقتدى بك جيرانك، واقتدى بك أبناؤك فصرت قدوة في الشر بدلاً من أن يكون قدوة في الخير، فهل ترضى لنفسك ذلك، إذا كنت لا ترضى لنفسك ذلك فأجب، أجب داعي الله وحافظ على صلاة الجماعة: يٰقَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِىَ ٱللَّهِ وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى ٱلأرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُوْلَـئِكَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ [الأحقاف:31-32].
|