أما بعد:
أحبابنا في الله: أقبل الصيف، وما أدراك ما الصيف! حر وعرق، شدة وكرب، الناس فيه من شدة الحر يفزعون إلى ظل ظليل، أو دار باردة، قد أشعلوا المكيفات، يطلبون بذلك الراحة وتخفيف الحر الذي أرهق الأبدان.
وواقع الناس في هذه الدنيا أنهم يهربون من حر الصيف هذا إلى الدار، وذاك بالاستعداد للسفر إلى الأماكن الباردة، وغير ذلك مما يخففون به لوعة الصيف وشدته، لكن السؤال هل فكر الناس في حر جهنم؟ هل استعدوا للسلامة منها؟ هل عقلوا ما حذرهم الله به منها وأمرهم بالوقاية منها لأنفسهم وأهلهم؟ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَـئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
إن نار الآخرة وحرها شديد، فعلى العاقل أن يتخذ من الأسباب ما ينجيه منها ويبعده عنها نسأل الله السلامة من النار.
إخوة الإسلام: إن مولانا سبحانه الرحيم بعباده يحذرهم من النار، ويخوفهم من الوقوع فيها والحبيب الحريص على أمته يؤكد لهم ذلك حتى يبتعدوا عنها ويكونوا من أهل الجنان، أخرج الترمذي: (2585) بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قرأ هذه الآية: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [الأحزاب:102]. قال رسول الله : ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه)). اللهم أجرنا من النار.
ويمضي النبي محذراً أمته من النار مستعرضاً بعض صور النار لتكون أوقع في النفوس، فتدفعها إلى البعد عنها وترك الأسباب الموصلة لها، أخرج الترمذي: (2591) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((أوقد على النار ألف سنة حتى أحمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى أبيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى أسودت فهي سوداء مظلمة)).
والنبي يلفت نظر أمته إلى نار الدنيا، وهي مع عظم شدة حرها وقوته فإنها أمام نار الآخرة صغيرة حقيرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ناركم هذه التي توقدون جزء واحد من سبعين جزء من حر جهنم)). قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: ((فإنها فضلت بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها)) [الترمذي: 2589].
والحق أن العاقل لو تمعن في نار الدنيا وتفكر فيها، لهاله ما فيها من الحر، والمثل شاهد أمام الأعين، فإن الحريق الذي شب في منى العام الماضي أيقظ القلوب الغافلة، فأدركت أن النار عظيمة، لكنها لم تتفكر في نار الآخرة حتى تستعد للسلامة منها، فما أكثر العبر وأقل المعتبرين، واسمعوا إلى الحبيب وهو يصف لكم كيف يؤتى بجهنم يوم القيامة.
أخرجه مسلم: (2842) بسنده عن عبد الله قال: قال رسول الله : ((يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)).
وقد أخبر الحق سبحانه بأن لجهنم سبعة أبواب: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ، وهذه الأبواب هي: جهنم، ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، والهاوية.
ولهذا أخبر سبحانه أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِى ٱلدَّرْكِ ٱلاْسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [النساء:145]. قال ابن عمر – رضي الله عنهما -: أشد الناس عذاباً المنافقون وآل فرعون، ومن كفر من أصحاب المائدة.
والنار قعرها عظيم يبين هذا رسول الله ، أخرج مسلم: (2844) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة – أي سقطة – فقال النبي : ((تدرون ما هذا؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر رُمي به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار حتى انتهى إلى قعرها)).
ولهذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (أكثروا ذكر النار، فإن حرها شديد، وإن قعرها بعيد، وإن مقامعها حديد) [الترمذي: 4/702].
وأما شرابهم فيها فهو الحميم، أخرج الترمذي: (2582) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن الحميم ليصب على رؤوسهم، فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يمر من قدميه، وهو الصهر، ثم يعاد كما كان)).
وأما زبانية جهنم فإنهم تسعة عشر خازناً، على رأسهم مالك، والكفار وهم في النار يدعون مالكاً لما هم فيه من شدة النار وحرها وزقومها وَنَادَوْاْ يٰمَـٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّـٰكِثُونَ [الزخرف:77].
قال الأعمش رحمه الله: نبئت أن بين دعائهم ويبين إجابة مالك إياهم ألف عام، قال: فيقول: ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم، فيقولون: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ [المؤمنون:106-107]. قال: فيجيبهم: قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:108]. قال: فعند ذلك يئسوا من كل خير، وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل. [الترمذي:4/ 708].
والحر الذي يحس به الناس في هذه الدنيا إنما هو نفس من أنفاس نار الآخرة، أخرج الترمذي: (2592) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((اشتكت النار إلى ربها، وقالت: أكل بعضي بعضاً، فجعل لها نفسين: نفساً في الشتاء، ونفساً في الصيف، فأما نفسها في الشتاء فزمهرير، وأما نفسها في الصيف فسموم)).
والنار لا تزال تطلب وتطلب، إنها تطلب أهل الكفر والإلحاد، أهل الزيغ والفساد، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
إنها دار المنكرين، إنها دار الجبارين، إنها دار العصاة المارقين: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ [ق:30].
وأهل النار خلود فلا موت، وأهل الجنة خلود فلا موت، أخرج مسلم: 2849 بسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال رسول الله : ((يُجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون، وينظرون، ويقولون: نعم هذا الموت، قال: ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون، وينظرون، ويقولون: نعم هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح، قال: ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت))، قال: ثم قرأ رسول الله : وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ ٱلأمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وأشار بيده إلى الدنيا.
إخوة الإسلام: انتبهوا من غفلتكم، واستيقظوا من رقادكم، واحذروا مما حذركم الله منه ورسوله، وخافوا مما خوفكم الله ورسوله، واحذروا النار، واسلكوا من الأسباب ما يبعدكم عنها، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبّهِ سَبِيلاً [المزمل:19].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم أجرنا من النار، اللهم سلمنا من النار، اللهم اجعلنا من أهل الجنان، وتفضل علينا بما تفضلت به على عبادك الأبرار أجمعين. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|