اعلموا عباد الله أنّ من أكمل الناس خلالاً، وأفضلهم حالاً، وأفصحهم مقالاً، من اصطفاه ربّ البريّة، ليكون هاديا للبشريّة، صلوات الله وسلامه عليه، حيث امتن الله عزّ وجلّ علينا ببعثته، فقال: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]. وزكّاه ربّه بما كان عليه من مكارم الأخلاق، فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
ثم أمرنا الله عزّ وجلّ بالاقتداء به والاهتداء بهديه، والتخلق بأخلاقه فقال: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلاْخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
وكما اختار الله نبيّه للنبوة والرسالة اختار له من الأمم أفضلها، ومن الأصحاب أفضل الناس بعد النبيين، أبرّ هذه الأمة قلوبا وأعمقها علمًا وأقومها عملاً، وأقلها تكلفًا، وأحسنها حالاً، جاهدوا في الله حقّ جهاده في حياة نبيهم، وبعد وفاته، فنصر الله بهم الدين، ونصرهم به، وأظهرهم على كل الأديان والملل عربهم وعجمهم أثنى عليهم ربهم، وأحسن الثناء عليهم ورفع ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن، ووعدهم عظيم الأجر وجميل الغفران.
كان منهم الخلفاء الراشدون، والأمراء الحازمون، والعلماء الربانيّون، والقادة الفاتحون، والعبّاد الزاهدون، يشهد بذلك أفعالهم وتنطق به آثارهم، لما قاموا به من نشر الدين، وتعليمه وتبليغه في الأمصار القاصية والدانية.
ومن جملة هؤلاء العلماء والزهاد الذين حفظوا لنا كنوز السنة والآثار النبوية راوية الإسلام الملهم، وحافظ الأمة المقدَّم أبو هريرة . ذلك الاسم الذي اقترن اسمه باسم رسول ربّ العالمين، لِما له من كثرة الرواية وعلو الكعب في الحفظ والإتقان على الصحابة أجمعين. فلم يخل ديوان من دواوين الإسلام إلاّ واسمه فيه منقوش مرسوم، ولم يمض مجلس من مجالس الذكر والعلم إلاّ وكان لذكره نصيب معلوم، فدعوات المؤمنين له في كل عصر متوالية بالرضا والثناء والرحمات الغاليّة، لم يسمع به أحد إلاّ أحبّه قبل أن يراه، وما جلس إليه أحد فملّ حديثه ولقياه، جالسه أبو صالح السمّان من تابعي الكوفة الصالحين عشرين سنة، فما ملّ مجالسته بل تمنّى عند موته أن يحظى بجلسة معه، فقال: "ما كنت أتمنى من الدنيا إلاّ ثوبين أجالس فيهما أبا هريرة".
عباد الله: من المفارقات العجيبة أنّه بقدر ما شُدَّت قلوب المؤمنين إلى محبة هذا الصحابي الجليل بقدر ما اشتد عداء االكفار والمنافقين وأفراخهم من المستشرقين.
والمستغربين لهذا الرجل الأصيل، فراحوا يُشوِّهون صورته المشرقة بأثافي الأساطير والأكاذيب، ويصفونه بالغفلة والبله والميل إلى المزاح والألاعيب، بل نسبوا إليه الكذب فيما روى من أحاديث الصادق الأمين، وهالهم ما حفظه من ذلك في قلة السنين، لكن أهل الإيمان لا ترجفهم أقاويل المفترين ولا تصرفهم عن محبّة أبي هريرة تُرهات الممترين، لأنّهم بفضله ومناقبه عارفون عالمون، وبشرف الدفاع عنه مكافحون منافحون.
ولئن كان سفهاء الأحالام وأُجراء الأقلام قد سودوا الصحائف والكتب بالنيل من حافظ الإسلام الجهبذ، فإنّ كبار النفوس والعقول من رجالات الأمة لفحول قد ملؤوها مدحًا وثناءً، ونوروا سطورها ضياءً وسناءً، فما هؤلاء المحبين الموالين، إلاّ كما قال الشاعر:
هل يضر البحر أمسى زاخرًا أن رمى فيه غلامٌ بحجر
والناظر بعين الإنصاف في سيرة هذا المؤمن المحبوب، يجدها سيرة قد حازت من الفضائل كلّ مرقوب ومطلوب، فقد كان في الجاهلية يسمى بعبد شمس كما ترجم له البخاري في تأريخه، ولما جاء الإسلام غيَّر اسمه، لأنّه لا يجوز تسمية إنسان بأنّه عبد فلان أو عبد شيءٍ من الأشياء، وإنّما هو عبد الله فقط، فسمّي بعبد الرحمن، وقيل: عبد الله، والمشهور الأول، ورجّح ابن حجر احتمال صحة الاسمين.
وأبو هريرة من قبيلة دوس إحدى بطون الأزد، وهي قبيلة يمانيّة قحطانيّة مشهورة، فهو عبد الرحمن أو عبد الله بن صخر الدوسي اليماني، معروف النسب، شريف المعدن والأصل خلافًا لمن قال: إنّه مجهول النسب.
لكنه لم يشتهر باسمه وإنّما اشتهر بكنيته، فكان يدعى بأبي هريرة، وكان ذلك في الجاهلية قبل أن يسلم.
وسبب تكنيه بهذه الكنية سبب لطيف ظريف، فقد أخرج الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة قال: إنّما كنوني بأبي هريرة، لأني كنت أرعى غنمًا لأهلي فوجدتُ أولاد هرة وحشيّة فجعلتها في كمي، فلما رجعت إليهم سمعوا أصوات الهر في حجري، فقالوا: ما هذا يا عبد شمس! فأنت أبو هريرة فلزمتني بعدُ.
ويقول أبو هريرة: كان رسول الله يدعوني أبا هر، ويدعوني النّاس أبا هريرة [كم، صحيح].
وكان يفضِّل كنية النبي له، يقول: لأن تكنوني بالذكر أحبّ إليَّ من أن تكنوني بالأنثى.
وقد وقع في عدة مواضع من صحيح البخاري نداء رسول الله له بأبي هر، وقد نشأ يتيمًا وهاجر مسكينًا كما يقول عن نفسه، وتأخر قدومه إلى النبي ، وأسلم سنة سبع في غزوة خيبر، لم يشهد بدرًا ولا أحدًا ولا غزوة الأحزاب، ومات النبي في السنة الحادية عشرة للهجرة، فكانت مدة صحبته للنبيّ ثلاث سنين، ولا تناقض لأن السنين الثلاث المذكورة عند البخاري فُسِّرت بالملازمة اللصيقة والحرص الشديد على الصحبة وتلقي الحديث.
وقد نال أبو هريرة شرف دعوة النبي بالهداية لقومه، فقال لما قالوا له: يا رسول الله! إن دوسًا عصت وأبت فادع الله عليها. فقال: ((اللهم اهد دوسًا، وائت بهم)) [خ].
وأبو هريرة وإن كان مسلمًا حين قال رسول الله هذه القولة، إلاّ أنّ الدعوة الكريمة تلحقه، لأنّ من معاني الهداية الثبات على معانيها لمن هو مسلم، والدخول في الإسلام لمن لم يسلم بعد.
وقد خصّ رسول الله قومه بالشرف قرناً لهم بقريش والأنصار؛ إذ أخرج [د] بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((وأيم الله لا أقبل بعد يومي هذا من أحد هدية إلاّ أن يكون مهاجرًا قرشيًّا أو أنصاريًّا أو دوسيًّا أو ثقفياً)).
وأبو هريرة يماني كما أسلفنا يلحقه شرف اليمن وشرف أهلها، فقد أخرج البخاري بسنده إلى عقبة بن عمرو أنّه قال: أشار رسول الله بيده نحو اليمن، فقال: ((الإيمان يمانٍ هاهنا)). وفيه أيضاً عن أبي هريرة أنه سمع النبي يقول: ((الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية)).
وكلّ هذا المذكور عباد الله داخل في شرف العموم، أمّا شرف الخصوص فحدِّث عن البحر قبل أن تغوص، فقد نال أبو هريرة شرف دعوة النبي له وتوثيقه، فقد أخرج البخاريّ في التاريخ الكبير بسند رجاله ثقات أنّ زيد بن ثابت، قال: دعا النبيّ لأبي هريرة، وهذه الدعوة أخرجها مسلم عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا. قال: فقال رسول الله : ((اللهم حبب عُبيدك هذا - يعني أبا هريرة - وأمّه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين))، فما خُلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.
وهكذا كان من علامات المؤمنين إذاً: حب أبي هريرة، ببركة دعائه له، وشهادة القرآن له إذ هو معدود من جملة الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجه الله، وقد أمر النبي بالجلوس إليهم والصبر معهم كما قال تعالى: َٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28]. وهؤلاء هم أهل الصفة، والصفة موضع مظلل في شمال المسجد النبوي يأوي إليه أصحاب رسول الله ممن لا منزل له وأكثرهم من المهاجرين الفقراء وكان النبي يطعمهم ويتفقد أحوالهم؛ وفضلهم مشهور لا ينكر، وأبو هريرة منهم قد حاز شرف فقرهم وفضلهم وأجرهم، وهكذا نرى أن الفضل قد تتابع لأبي هريرة لصحبته، ولهجرته، ولدوسيته، ويمانيته، ونيله دعوة الرسول وتوثيقه له، وشهادة القرآن له. فهل يأتي اليوم من نسبه ممذوق وعرضه مفتوق، وعيشه ممحوق يطعن في أبي هريرة! هيهات والله أن ينالوا منه شيئاً، فوالله ما أبغض هؤلاء الأصحاب إلا كل منافق مرتاب وما أحبهم إلا كل مؤمن خلص قلبه وطاب.
جعلني الله وإياكم من سجي الصحب الكرام، المتقربين بحبهم إلى الملك العلام.
|