أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله حقيقة التقوى, واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى, واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى, وأكثروا من ذكر الموت والبلى, وقرب المصير إلى الله جل وعلا.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما قال: مر النبي على حائط من حيطان المدينة فسمع إنسانين يُعذبان في قبريهما فقال : ((إنها ليعذبان وما يعذبان في كبير, بلى, أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله, وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) ثم دعا رسول الله بجريدة فكسرها كسرتين ثم وضع على كل قبر كسرة, فقيل: يا رسول الله, لم فعلت ذلك؟ قال: ((لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا)).
حديث عظيم اشتمل على وعيد وتهديد, اشتمل على تخويف وعذاب شديد لمن ضيع حقوق الله, وأفسد بين عباده المؤمنين, معجزة من معجزات رسول الله , أطلعه الله جل وعلا عليها, يقول حبر الأمة وترجمان القرآن: مر رسول الله بحائط من حيطان المدينة فسمع صوت إنسانين يعذبان. سمع صوتًا لا يسمعه الناس, ولو سمعوه لماتوا وصُعقوا, سمع صوتًا لا يسمعه الناس, ولو سمعوه ما هدأت جفون ولا نامت عيون, قال : ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله بالبكاء)), سمع صوتهما وهما يعذبان وكيف يعذبان؟ وما هو مقدار هذا العذاب؟ وما هي صفته؟ وما هي كيفيته؟.
الله أعلم, فذلك أمره إلى الله علام الغيوب يقص الحق وهو خير الفاصلين [الأنعام:57]. ويحكم ولا معقب لحكمه وهو رب العالمين. كيف يعذبان وهما تحت الأرض, قد هجم عليهم الدود وأتاهم البِلَى, فذهبت الأشلام والأعضاء إن الله على كل شيء قدير [البقرة:20]. لو غيبت الإنسان البحار, ولو أخذته سفاسف الريح في الغفار, لجمعه الله في أقل من طرفة عين وهو الواحد القهار إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون [يس:82-83]. في الصحيح عن النبي : ((أن رجلاً حضره الموت فقال لأولاده ـ يوصيهم ـ: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني وارموا بنصفي في البر ونصفي في البحر؛ فلئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين, فلما مات أحرقوه ثم طحنوه ثم بعد ذلك رموا نصف الدقيق في البر ونصفه في البحر, فأوحى الله إلى البحر أن اجمع ما فيك, وإلى البر أن اجمع ما فيك. فإذا هو قائم بين يدي الله جل جلاله)).
إن الله على كل شيء قدير, فلو أكلت النار, ولو دُمر الإنسان وقطعت أشلاؤه ولو التقمته السباع فإن الله على كل شيء قدير ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة [لقمان:28]. له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين [الأعراف:54].
((إنهما ليعذبان)), يعذبان وهما مسلمان مؤمنان, فكأن الصحابة رضوان الله عليهم عجبوا, كأنهم يسألونه ما السبب؟ فقال: ((وما يعذبان في كبير)) ما يعذبان في أمر صعب عسير, ولكن في أمر سهل على الإنسان أن يتقيه ويحذره إذا وفقه الله جل جلاله, ولذلك قال: ((وما يعذبان في كبير)) في أمر يسير, وهذا يدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يكون على خوف من الله, وأن الذنب قد تراه صغيرًا, ولكنه عند الله كبير وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم [النور:15]. قد تتكلم بالكلمة اليسيرة من غضب الله جل جلاله يكتب الله بها سخطه على العبد إلى يوم يلقاه, فالأمر قد يكون يسيرًا في نظر الإنسان ولكنه عظيم عند الله جل جلاله, قال : ((بلى)), وفي رواية: ((إنه لكبير)), أي إنه ذنب عظيم, يستحق صاحبه هذا العذاب الكبير, ثم بين هذين الذنبين فقال : ((أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله)), وفي رواية: ((لا يستنزه من بوله)) , وفي رواية: ((لا يستبرؤ من بوله)) اشتملت هذه الروايات على أمور:
أولها: لا يستتره من بوله, ولا يستبرؤ من بوله بمعنى أنه يقوم مباشرة قبل التأكد من انقطاع البول. هذه العجلة تفضي إلى بقاء شيء من البول, فإذا قام قبل أن ينقى الموضع فإنه مظنة أن يخرج البول فتبطل صلاته والعياذ بالله.
((لا يستتر من بوله)) قال بعض العلماء: ((لا يستتر من بوله)) أي يبول فيكشف عورته أمام الناس عند بوله, يأتي إلى المواضع التي فيها الناس ولا يأمن من نظر الناس فيكشف عورته ويقضي حاجته دون حياء من الله والناس, فمن جلس أمام صنابير المياه التي يجتمع عندها الناس؛ لكي يستنجي فتنكشف عورته ينطبق عليه هذا, ومن جلس على طريق الناس لكي يقضي حاجته فيراه الذاهب والآتي فإنه داخل في هذا الوعيد.
((لا يستتر من بوله)) أي لا يجعل لنفسه سترًا يحول بينه وبين نظر الناس.
من السنة إذا طلب الإنسان مكانًا يقضي فيه حاجته أن يكون هذا المكان فيه ستر لعورته؛ فإن الله أمر بستر العورات, وامتن على المؤمنين والمؤمنات بل على الناس جميعًا بستر عوراتهم أنزل علينا اللباس؛ لكي يكون سترًا لنا من نظر أعين الناس وإلا لذهب الحياء من الوجوه.
إذا أراد الإنسان أن يقضي حاجته ينبغي أن يطلب الأماكن المستترة بعيدًا عن الناس فإن كان في الخلاء والصحراء طلب الحجار الكبيرة؛ لكي يستتر بها أو الحفر؛ لكي يكون فيها أو شيئًا من النشز والمرتفع من الأرض؛ لكي يجعله بينه وبين أعين الناس فإن لم يجد شيئًا من ذلك أبعد في المذهب؛ حتى لا تدرك العين عورته.
سبحان ربي العظيم إذا كان هذا الوعيد لمن يقضي بوله, فتنكشف عورته فكيف بمن يخرج بلباس تنكشف به عورته وهو كاس عار؟ إذا كان هذا الوعيد للحظات يسيرة للبول فكيف بمن لبس الشفاف من الثياب وفتن الناس بلباسه؟ ولذلك قال : ((صنفان من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)) , وصفهن بكونهن كاسيات، ولكن أخبر أنهن في الحقيقة عاريات فليستتر الرجال والنساء بستر الله, وليحمد الإنسان العافية من الله جل جلاله.
كشف العورات مذلة للمنظور وفتنة للناظر, فينبغي على من لبس الثياب أن يتقي الشفاف, وأن يتقي كل ما يبين عورته وينمي عنها؛ لأن هذا الوعيد المقصود منه أن يحفظ الإنسان عورته من كل وجه.
أما رواية ((لا يستنزه من بوله)) ففيها وجه ثالث, وهو أنه إذا بال يجلس في مكان صلب فيتطاير البول على قدميه وساقيه وعلى ثيابه, فلا يأمن أن يصلي وهو متلبس بالنجاسة في بدنه, وهذا يدل على خطر النجاسة في الثياب عند الصلاة, تحفظوا عند صلاتكم رحمكم الله من النجاسات وتوقوا منها؛ فإن النبي يقول: ((اتقوا البول فإن عامة عذاب القبر منه))، قال العلماء: السبب في ذلك أنه يصيب الثياب والبدن؛ لأن الإنسان لم يحسن طلب المكان الذي يقضي فيه حاجته. قال بعض العلماء: يستحب لمن أراد أن يبول أن يطلب الموضع الرخو الطاهر الذي إذا بال فيه لا يتطاير بوله على ثوبه وأسافل بدنه.
سبحان الله العظيم إذا كان هذا الوعيد لمن قصر في الطهارة وهي شرط الصلاة يعذب في قبره ويفتن في قبره إلى حشره فكيف بمن أضاع أركان الصلاة؟ كيف بمن ضيع واجباتها؟ كيف بمن ضيع أوقاتها؟ كيف بمن لم يصل بالكلية والعياذ بالله العظيم؟
فيا عباد الله إن وراءنا الأهوال ووراءنا الشدائد العظيمة التي يحاسب فيها الإنسان على كل صغير وكبير, وعلى كل جليل وحقير.
اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة نسألك برحمتك الواسعة أن تنير قبورنا بأنوارك الساطعة. اللهم ارحم في القبور غربتنا, اللهم ارحم في ظلمات القبور وحشتنا, اللهم ارحم في القبور ضعفنا وقلة حيلتنا يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|