.

اليوم م الموافق ‏19/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

عيد الحب: حقيقته وحكمه

1628

الإيمان

الولاء والبراء

مصطفى بن سعيد إيتيم

مكة المكرمة

غير محدد

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- كمال الدين وتمام النعمة. 2- محاسن الإسلام. 3- مكر اليهود والنصارى بالأمة الإسلامية. 4- حال المسلمين اليوم. 5- حقيقة عيد الحب وتاريخه وحكمه. 6- تحريم موالاة الكفار والاحتفال بأعيادهم. 7- ضلال عقيدة النصارى. 8- معنى الحب في الإسلام والحث عليه. 9- تلبيس أعداء الدين.

الخطبة الأولى

أما بعد: فاتقوا الله -عبادَ الله- حقَّ التقوى، فتلكم هي الجُنَّة، وراقبوه في السر والنجوى، فذلكم طريق الجَنَّة.

أيها المؤمنون:

إن الله سبحانه قد حبانا بدين عظيم، وهدانا إلى صراط مستقيم، فيه الغُنيةُ والكفاية، وبه السعادة والهداية، منه الأمن والسلام، وإليه الحبُّ والوئام، من أقبل عليه أعزَّه الله بقدر ما تمسَّك وأخذ، ومن أعرض عنه أذلَّه الله بقدر ما ترك وجحد.

إن الدين قد كمُل بالإسلام، فلا نفتقر بعده إلى رأيِ مخترِع ولا هوى مبتدِعٍ ولا تصويت مقنِّنٍ مشرِّع، وإن النعمة قد تمَّت بالإيمان، فاكتملت الفرحة وتمَّ السرور فلا نحتاج بعد ذلك إلى موسم بدعي ولا عيد مفرِّح، ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإسْلاَمَ دِيناً [المائدة: 3].

ديننا -أيها المؤمنون- خير الأديان وأفضلها، وأتمُّ الشرائع وأكملها، جمع بين مصالح الأولى والأخرى؛ خدم الروح ولم يغفل الجسد، وأمَّ الآخرة ولم يهمل الدنيا، قال تعالى: وَٱبْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا [القصص: 77].

ديننا -أيها المؤمنون- دين الوسطية؛ لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا إسرافَ ولا تقتير، لا غواية فيه ولا رهبانية، ولا غلوَّ ولا تقصير، وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143].

فبالله عليكم، كيف يرضى المسلم لنفسه أن يضيِّع هذه المكانة التي جعلها الله بين يديه، وأن يرضى بالهوان والكتاب والسنة نصبَ عينيه؟! أم كيف يرضى لنفسه الأبيّة أن يكون مقودًا بعدما كان قائدًا، وأن ينقلب مقلِّدًا بعدما كان مرشدًا؟ كيف يرضى لنفسه أن يصبح ضالاً بعدما كان دالاً، وأن يصير عبدًا منفِّذا بعدما كان سيّدًا؟ ولكنه قول النبي : ((لتتبعُنّ سَنَنَ من كان قبلكم، شبرًا بشر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم))، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!))[1].

أيها المسلمون:

ليس بخاف عليكم مكرُ اليهود والنصارى بالأمة الإسلامية، ومحاولتُهم القضاء على قيمها ومبادئها الأخلاقية، إنهم يبذلون في سبيل ذلك أعزَّ أوقاتهم وأنفسَ أموالهم، سخّروا لذلك العقول والطاقات، وسطَّروا المناهج والمخططات، ولقد -والله- أصابت سهامهم، وأثخنت رماحهم، كيف لا؟! والسنة الكونية تقرِّر أن من جدَّ وجد، ومن زرع حصد. فصرنا اليوم نرى مظاهر ما كنا نراها بالأمس القريب، صرنا نرى التفنّن في السفور والإمعان في التبرّج، صرنا نرى الجرأة على الدين والتبجّح بالمعاصي، ناهيكم عن التشكيك في ثوابت هذه الأمة، وزعزعة مبادئها وأصولها.

اذكروا معي -رحمكم الله- قبل بضع عشرة سنة كيف كانت المبادئ الأخلاقية والقيم المرضية منتشرة في المجتمع، كان الحياء والعفاف هو السائد في هذا المجتمع، كان الشاب لأن يحمل فوق ظهره جبلاً أهونُ عليه من أن يراه من يعرفه يمشي مع فتاة، وكذا شأنها هي بل أشد؛ إذا دخلا حيًا من الأحياء طردهما سكانُه، وإذا مشيا بين الناس كان شزَرُ أعينهم إليهما أشدَّ عليهما من الكلام اللاذع، ثم انظروا إلى ما صرنا إليه اليوم، واعتبروا يا أولي الألباب.

وها هي جيوش الكفر وجنود الإلحاد تَكِرّ من جديد، وتروّج لعيد ما أمكَرَه من عيد، عيدٍ سموه بغير اسمه تدليسًا وتلبيسًا، سمّوه باسم شريف، ليروج على التقي النقي العفيف، سموه عيد الحب وهو في الحقيقة عيد الخنا والرذيلة والعهر، ينشرون الرذائل في أثواب الفضائل، وهذه سنة إبليسية قديمة، فضحها الله في كتابه، وكشف أمرها لعباده، فقال عن مكر إبليس بأبينا آدم وأمنا حواء: وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّـٰصِحِينَ [الأعراف: 152].

فاحذروا أيها المسلمون، احذروا المضِلَّ الخائن الذي يأتي في لباس الناصح الأمين، إنه لو جاء في ثوبه، ما أدرك مطلوبه ولا وصل إلى إربه، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ [الأنفال:30].

فهل تعرفون حقيقة هذا العيد الفسقي البدعي الكفري؟! أتدرون قصته وتاريخه؟!

زعموا أن الرومان الوثنية كانت تحتفل في يوم 15 فبراير من كل عام، وكان هذا اليوم عندهم يوافق عطلة الربيع، وفي تلك الآونة والنصرانية في بداية دعوتها أصدر الإمبراطور كلايديس الثاني قرارا بمنع الزواج على الجنود، وكان رجل نصراني راهب يدعى فالنتاين تصدى لهذا القرار، فكان يبرم عقود الزواج خُفيةَ، فلما افتضح أمرُه حُكم عليه بالإعدام، وفي السجن وقع في حب ابنة السجّان، وكان هذا سرًّا لأنَّ شريعة النصارى تحرّم على القساوسة والرهبان الزواج وإقامة علاقات عاطفية، ولكن شفع له لديهم ثباتُه على النصرانية، حيث عرض عليه الإمبراطور أن يعفوَ عنه على أن يترك النصرانية ويعبُد آلهة الرومان، ويكون لديه من المقربين ويجعله صهراً له، إلا أنه رفض هذا العرض وآثر النصرانية، فأٌعدم يوم 14 فبراير عام 270 ميلادي ليلةَ 15 فبراير عيد الرومان، ومن ذلك الحين أطلق عليه لقب القديس. وبعدما انتشرت النصرانية في أوربا أصبح العيد يوم 14 فبراير، وسمي بعيد القديس فالنتاين، إحياءً لذكراه، لأنه فدى النصرانية بروحه، وقام برعاية المحبين زعموا.

هذه هي قصة هذا العيد، ومع ذلك وللأسف الشديد غُرِّر بكثير من الشباب والفتيات لضعف إيمانٍ من بعضهم وجهلِ وغفلة من آخرين، ونقص توجيهٍ وإرشادٍ من الدعاة الناصحين، غُرّر بهم فاغترّوا بهذا العيد، وراحوا يحتفلون به ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فمن مظاهر ذلك لبسُ الفساتين الحمراء، وانتشار الورود الحمراء، وتبادل التهاني والتحيات، والهدايا والبرقيات، وتذكر الزوجات والخليلات، بل عَدُّوا ذلك من علامات الإخلاص في الحب، وأن من لم يهنِّئ زوجته في ذلك اليوم، أو لم يهد لها هدية فليس بمخلص لها في حبها، فإلى الله المشتكى.

ألا فليعلم هؤلاء وليعلم كل مسلم أن الاحتفال بهذا العيد من أعظم البدع الكفرية، وأنه محرّم في دين الإسلام، لا خلاف في ذلك بين أهل العلم المعتبرين، إنه لو كان هذا العيد من إحداث المسلمين لكان الاحتفال به حرامًا لقوله : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))[2]، ولقوله لما جاء إلى المدينة ووجد أهلها يلعبون في يومين هما من أعياد الجاهلية: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر))[3]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "استُنبِط منه كراهة الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم، وبالغ الشيخ أبو حفص الكبير النسفي من الحنفية فقال: من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيما لليوم فقد كفر بالله تعالى"[4].

إنه -يا عباد الله- لو كان هذا العيد من ابتداع المسلمين لكان الاحتفال به حرامًا فكيف وهو من ابتداع الكافرين الضالين؟! أما كفى العلماء والدعاةَ إلى الله -يا عباد الله- أن يحاربوا البدع التي أحدثها المسلمون بعد نبيهم، حتى نشغلهم بالبدع التي أحدثها المشركون في أديانهم؟!.

فاتقو الله رحمكم الله، اتقوه وابتغوا رضاه، واجتنبوا سخطه.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


 



[1] أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام (7320)، ومسلم في كتاب العلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

 [2] أخرجه البخاري في كتاب السنة (4606)،  ومسلم في كتاب الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.

 [3] أخرجه أحمد (12006)، وأبو داود في كتاب الصلاة (1134)، والنسائي في كتاب العيدين (1556)، والضياء في المختارة (1911) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه الحافظ في الفتح (2/442).

[4]   فتح الباري (2/442).

الخطبة الثانية

الحمد لله شرع لنا دينًا قويمًا، وهدانا صراطًا مستقيمًا، والحمد لله أكرمنا بالإيمان، وفضَّل ديننا على سائر الأديان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حذرنا من اتباع الكفار وموالاتهم، وأمرنا بمخالفتهم، فقال تعالى: يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَٱلْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة: 57]، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله القائل: ((من تشبه بقوم فهو منهم))[1]. صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا أيها المسلمون:

اعلموا أن الأعياد من شعائر الأديان، فمن دان بدين احتفل بأعياده، ولم يحتفل بأعيادِ سواه، واعلموا أن للانحراف طرقا وللضلال سبلاً، أخصرها موالاة الكفار، فإن كان للموالاة دليل، فدليله تقليدهم، فإن كان للتقليد عنوان، فعنوانه الاحتفال بأعيادهم.

فكيف يرضى مسلم بعد ذلك؛ كيف يرضى لنفسه ولمن يعول ويرعى أن يحتفل بعيد فسقي بدعي كفري، عيد الحب المزعوم؟! كيف يرضى أن يحتفل بعيد القسيس فالنتاين الذي كان يسبّ الله صباحَ مساء ويقول: إنه ثالث ثلاثة، وإنه اتخذ صاحبة وولدًا، تعالى الله عما يقول الأفاكون علوًا كبيرًا.

ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل: تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ إِلاَّ اتِى ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً لَّقَدْ أَحْصَـٰهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَرْداً [مريم: 88 ـ 95].

فاحذر يا عبد الله، احذر أن تكون السماء والأرض والجبال أغيرَ منك على الله تعالى، احذر أن تكون هذه الجمادات أفضل منك إذا أنت لم تكترث لما يقوله الأفاكون المبطلون، فرُحْت تحتفل بهذا العيد أو بغيره من أعيادهم الباطلة الزائفة.

أيُّ حبٍّ هذا الذي يحتفل به أعداء الإنسانية بل أعداء أنفسِهم؟ كم أبادوا من قرى، وقهروا من شعوب؟! كم نهبوا من أموال ودمَّروا من ممتلكات؟! اضطهدوا الإنسان باسم حقوق الإنسان، وقتلوا الأنفس باسم الدفاع عن النفس، أين حبُّ من يصنع أسلحة الدمار وعتاد الفساد، ثم يجرِّبها على أضعف العباد وأفقر البلاد؟! متى عرف الحبَّ من سفك دماء الأبرياء، ويتَّم الأطفال ورمَّل النساء، وأخذ البريء بجريرة المشبوه فضلا عن المسيء؟! إنه ما عرف العدل حتى يعرف الحب! كيف يُتَصوَّر حبٌ ممَّن خرق البنود والعقود، ونقض الوعود والعهود، وتجاوز المواثيق والأعراف، متى علمتم -يا عباد الله- الوحشَ استأنس؟! وهل تلد الأفاعي إلا الأفاعي؟!

أيها المسلمون:

إنه مهما تكلم الضالون عن الحب فإن إجرامهم يفضحهم، ومهما مجَّدوه وعظَّموه فنحن أولاهم به، نحن أولى الناس بالحب؛ عَقْدُ الدين مبني عليه، وأساس الإيمان راجع إليه، لا يؤمن أحدٌ ولا يأمن حتى يحب الله، ويحب دينه وأحكامه وشريعته، ولا يؤمن أحد ولن يأمن حتى يحب رسول الله ، ويحب آله وأزواجه وصحابته، لا يؤمن أحدٌ حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير. المسلم يحب الخير وأهله، ويحب الخير للناس.

الملسم يحب والديه فيبرهما ولا يعصيهما، يأويهما ولا يرميهما، يرعاهما ولا يلقيهما في ديار العجزة كما هو حاصل في بلاد الغرب، ديار الكفر والفسوق والعصيان.

المسلم يحب أبناءه فيعولهم ولا يضيِّعهم، ويعدل بينهم ولا يظلمهم، ويرشدهم ولا يطردهم.

المسلم يحب زوجته فيحترمها ولا يحتقرها، ويوفيها حقها ولا يبخسها، ويعينها ولا يستغلها.

المسلم يحب إخوانه فينصحهم ولا يفضحهم، ويدعوهم ولا يقصيهم، ويحفظ أعراضهم ولا يغتابهم.

المسلم يحب نساء المؤمنين، يحبهن فيدفع الأذى عنهن ولا يؤذيهنّ، يحبهن فيحترمهنّ ولا يخلو بهن، يحبهم فيغض بصره عنهن ولا يسلّطه عليهن.

وأغضُّ طرفي إن بدت لي جارتي          حتـى يـواري جارتي مثواها

سلوا المرأة في ديار الغرب، سلوها عن حياتها التعيسة، وعيشها المرير، إهانةٌ وإذلال، احتقارٌ واستغلال، لا يرحمها الزوج ولا الصديق، ولا الأخ ولا الرفيق، ولا الابن ولا اللصيق، إذا لم تُطعم نفسها بنفسها لم تَطعم، وإذا لم تؤمِّن لنفسها أسباب العيش وجدت نفسها ملقاة تحت جسر أو على قارعة الطريق، حقوقٌ مهضومة، وقوانين جائرة مشؤومة، وهذه حال كلِّ من أعرض عن كتاب الله وسنة نبيه .

أيها الأحبة في الله:

إن الحب عند المسلمين معنى عظيمٌ شريف، يقول ابن القيم رحمه الله: " فبالمحبة وللمحبة وجدت الأرض والسموات، وعليها فطرت المخلوقات، ولها تحركت الأفلاك الدائرات، وبها وصلت الحركات إلى غاياتها، واتصلت بداياتها بنهاياتها، وبها ظفرت النفوس بمطالبها، وحصلت على نيل مآربها، وتخلصت من معاطبها، واتخذت إلى ربها سبيلاً، وكان لها دون غيره مأمولاً وسؤلا، وبها نالت الحياةَ الطيبة وذاقت طعم الإيمان لما رضيت بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً"[2]. انتهى كلامه رحمه الله.

ولقد ضرب قدوتنا وحبيبنا المصطفى أروع الأمثلة للحب، فهذه الصديقة بنت الصديق تحكي لنا وفاءَه الصادق المستمر لخديجة فتقول: ما غرت على امرأة للنبي ما غرت على خديجة، هلكتْ قبل أن يتزوجني بثلاث سنين، لِما كنت أسمعه يذكرها، وفي لفظ: من كثرة ذكر رسول الله إياها، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها ـ أي صديقاتها ـ منها ما يسعهن[3]، هذا هو الحب الراسخ الذي يدل على صدقه العمل الصالح.

ومن حرصه على هذه المعاني العظيمة دلَّ أمَّته إلى ما يحقِّق لهم الحبَّ فيما بينهم، وأعظم من ذلك أنه جعل دخول الجنة معلقا على تحقيق هذه الخصلة الكريمة، فقال : ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم))[4]، وقال مبينا سببا آخر لتحقيق الحب: ((تهادوا تحابوا))[5]، وقال : ((إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه))[6] في أحاديث كثيرة تبيِّن حرصه الشديد على إفشاء الحب في المجتمع، والحث على الأسباب المعينة عليه، والتحذير من كل ما يضعفه أو يذهبه.

ثم ترى هؤلاء الأفاكين المبطلين، وحلفاءهم من ضعفة النفوس والمنافقين، وأذنابهم من المخدوعين المغرورين، يستغلون هذا الاسم بدهاء، ويستخدمونه بمكر، ويطلقونه كذبًا وزورًا على العلاقات الغرامية، والأحلام الوهمية التي سرعان ما تتبخر في أرض الواقع، وتخفق في أرض التجربة.

إننا ـ والله ـ في زمان انقلبت فيه الموازين واختلت فيه المقاييس والتبست الحقائق، وسميت فيه الأشياء بغير أسمائها؛ فسمي الفسوق والخنا والفجور والزنا حبًا، وسميت العفة والحياء والحشمة والوفاء مرضًا، وسميت العلاقة الزوجية الكريمة والحياة الأسرية النبيلة عبئا وقيدًا، وسمي قطع الطريق وقتل الأبرياء جهادًا، وسمي الجهاد الحق، الجهاد في سبيل الله ونصرة دينه وإعلاء كلمته، سمي إرهابًا، وسمي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اعتداءً وتدخلا في الشؤون الخاصة، وسميت التقاليد البالية والعادات الدنية تراثًا وثقافة، وسمي التمسك بالدين وإحياء السنة رجعية وتخلفًا، وسمي تقليد الكفار ومشابهة الفجار رقيًا وتقدمًا، وسمي الرقص والغناء والمجون والبغاء فنًا، إنها ـ والله ـ لمن أشراط الساعة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فيا عبد الله، لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ [آل عمران: 196، 197]، لا يغرنك ما هم عليه، فإنها دنيا زائلة، وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ [الأعلى: 17]، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـٰهَا [النازعات: 46]، واحذر هذه الأعياد البدعية الكفرية، وحذر الناس منها، اعتزَّ بدينك، وتميَّز عن الضالين من غيرك، اربأ بنفسك أن تسير على آثارهم، أو تتأثر بأفكارهم، واسأل الله دائما الهداية والتثبيت.

ويا أمة الله، لا يستخفنَّك الذين لا يوقنون، ولا يضلنك الذين لا يؤمنون، اعتزي بدينك، وافخري بأعيادك، وحافظي على شخصيتك وهويتك، وإياك ثم إياك من تقليد الكفار ومشابهتهم؛ فإنه طريق الدمار وسبيل النار. نسأل الله السلامة والعافية.



[1]  أخرجه أحمد (2/50، 92)، وأبو داود في كتاب اللباس (4031) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الحافظ في الفتح (6/98): "في الإسناد عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان مختلف في توثيقه، وله شاهد مرسل بإسناد حسن أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتمامه"، وحسنه الألباني في تعليقه على المشكاة (4347).

[2]  من مقدمة روضة المحبين ونزهة المشتاقين.

[3]  أخرجه البخاري في المناقب (3816)، ومسلم في الفضائل (2435).

[4]  أخرجه مسلم في الإيمان (54) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[5]  أخرجه البخاري في الأدب المفرد (594)، والبيهقي في الكبرى (6/169) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسن إسناده الحافظ في التلخيص (3/70)، والألباني في الإرواء (1601).

[6]  أخرجه أحمد (17171)، والبخاري في الأدب المفرد (542)، وأبو داود في الأدب (5124)، والترمذي في الزهد (2392) من حديث المقدام رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب، وفي الباب عن أبي ذر وأنس"، وصححه ابن حبان (2514)، وهو في السلسلة الصحيحة (417).

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً