أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى، واعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً، أقيموا سنة نبيكم واقرءوا حديثه، واجتهدوا ما استطعتم في أن تمتثلوا ذلك، فإن في ذلكم الخير العظيم المؤكد لكم في الدنيا والآخرة.
أيها المؤمنون: يقول الله جل وعلا: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآيتنا وأنفسهم كانوا يظلمون [الأعراف:175-177].
ويقول الله جل جلاله: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون [الأعراف:96].
ويقول الله جل وعلا: أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم [الأعراف:100].
ويقول جل جلاله: وعاداً وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين [العنكبوت:38]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في محكم التنزيل التي يبين الله جل وعلا بها أن من أخذ بآياته وهي آياته المتلوة: كتاب الله جل جلاله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإن الله جل وعلا وعد بالعيشة الهنيئة المستمرة في هذه الدنيا وبالسعادة التامة في الآخرة، فإن العبد إذا كان من المؤمنين المتقين وأوتي الآيات فاستجاب لذلك ولم يصد عنها بل أخذها بقوة وحزم على نفسه في الامتثال لها، فإنه بذلك يكون من الذين وعدهم الله جل وعلا بما وعد به أولياءه الصالحين، وأما إذا آتاه الله جل وعلا الآيات فسمعها وسمع بلاغ النبي صلى الله عليه وسلم ثم لم يرفع بذلك رأسه وآثر شهوته وأخلد إلى الأرض واتبع هواه فإنه متوعد بسلب النعم عليه وبأن يكون قلبه قاسياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ثم بعد ذلك يبدل في أرضه بعد الأمن خوفاً، وبعد النعمة ضيقاً وضنكاً، ويبدل بعد الصحة مرضا ويبدل بعد الاطمئنان سوءًا في نفسه وفي من حوله.
ولهذا حث الله جل جلاله الأمة بأكملها، حث أفرادها، حث جماعاتها، حث حكامها، حث المحكومين، حث الجميع على أن يكونوا من أهل الإيمان والتقوى، وإذا كانوا كذلك فإنه تحل لهم مشاكلهم، وإنهم إذا كانوا كذلك فإن الله يفتح لهم أبواب الخيرات ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض لو كانوا مؤمنين حقاً لكانوا من أهل تلك الصفة، فإذا كان الإيمان متبعضاً وكانت التقوى متبعضة نتج من ذلك أن من كان على شيء من الإيمان فإنه يؤتى من البركات من السماء ومن بركات الأرض بقدر ما امتثل من الإيمان في الحالة العامة للناس غير حالتي الابتلاء والعقوبة.
أيها المؤمن: لاشك أن الإيمان يزيد وينقص، لا شك أن الإيمان في الأفراد يتبعض، فمن الناس من إيمانه عظيم، ومن الناس من إيمانه متوسط، ومن الناس من إيمانه ضعيف، وكذلكم التقوى فإن من الناس من هو متقٍ لله جل وعلا معظم لله مراقب لله ومنهم من هو متوسط في ذلك تغلبه نفسه وشيطانه، وتارة يرجع إلى ربه منيباً إليه تائباً إليه، ومنهم من تقواه ضعيفة، غلبة الشيطان عليه أكثر من يقظته، وهكذا حال الأقوام وحال المجتمعات على ذلك النحو، والله جل وعلا وعد من كمل الإيمان بأن يبدله من بعد خوفه أمنا قال جل وعلا: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم [النور:55].
أيها المؤمن: إن ذلك الاستخلاف من أساسياته أن يكون المسلمون مؤمنين في بلادهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً خير الإيمان: ((والذي نفسي بيده ليتمنّ الله هذا الأمر حتى تسير الظعينة [يعني المرأة في هودجها] تسير من كذا إلى مكة لا تخشى إلا الله)) من شدة الأمن الذي كان من أسباب إتمام الإيمان وإتمام التقوى.
تأمل قول الله جل وعلا: وعاداً وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين إنهم قد زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن سبيل الله، عن الصراط المستقيم، عن الحق وكانوا مستبصرين كانوا أهل بصيرة، لم يكونوا أهل جهل وأهل عدم علم بالحق، بل كانوا مستبصرين قد تبين لهم ما جاءت به الرسل، قد تبين لهم ما في كتب الله، لكن آثروا طاعة الشيطان على طاعة الله فزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين، وتأمل قول الله جل وعلا في الذي آتاه الله جل وعلا آياته فانسلخ منها قال بعد ذلك ربنا جل وعلا: ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون [الأعراف:176].
إنه ليس مثلاً لواحد من الناس بل هو مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، وينتج من ذلك أنه مثل أيضاً لتبعض صفات أولئك، مثل لمن كان فيه خصلة من ذلك، فإن الله جل جلاله يرضى عن العباد إذا أخذوا بشرعه كاملاً، ويرضى عنهم إذا جاهدوا أنفسهم بذلك، لهذا جعلهم خير أمةٍ أخرجت للناس بقوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [آل عمران:110]. وقال جل وعلا: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون [آل عمران:104].
إن الله جل جلاله جعل من سنته في الأمم أنهم إذا أطاعوه بارك لهم في أنفسهم، بارك لهم في أولادهم، وفي الأثر الإلهي: ((إنني أنا الله لا إله إلا أنا، إذا أُطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإنني أنا الله لا إله إلا أنا، إذا عُصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، وإن لعنتي لتبلغ السابع من الولد))من جراء فعل الآباء.
أيها المؤمنون: إن علينا أن ننظر إلى واقع المسلمين اليوم وواقعنا بخاصة وواقع الناس المسلمين بعامة، وننظر بعين المتأكد غير الشاك أن ما أصاب الناس من خلل في أنفسهم، من خلل في أمنهم، من خلل في أموالهم، من خلل في اقتصادهم، من خلل في أحوالهم إنما هو بسبب إعراضهم عن بعض ما أنزل الله جل جلاله، إن لم يكن ذلك من الابتلاء الذي ابتلى الله به عباده.
ولكن الله بين لنا في كتابه أنه يعطي المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات الاستخلاف في الأرض ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً وإن أعلى ما تكون به طاعة الله في المجتمعات أن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذه سمة أهل الإيمان لأنه قال: وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً [النور:55]. فسمة المجتمع المسلم الذي وعده الله بإحلال الخيرات عليه وبدفع النقم عنه أنه يعبد الله وحده لا شريك له، يعبده ولا يشرك به، يعبده ويأمر بعبادته، ويأمر بذلك، وينهى عن ضده من الشرك بالله.
فما في بعض المجتمعات من الشرك بالله ومن منابذة أهل التوحيد ومن إعلان السماح للشرك بالله إن ذلك من أسباب حصول الويلات، ومن أسباب حصول التفرق والاختلاف ومن أسباب حلول الخوف وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً.
إن من أسباب حلول الخيرات أن يسعى الناس في الامتثال للكتاب والسنة ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون [المائدة:66].
أيها المؤمن: إن صلاح المجتمعات، نعم يكون بصلاح الدول ويكون بامتثال الدول بأمر الله جل وعلا، لكن كما تكونوا يول عليكم، فإن بناء المجتمعات يكون من بناء خلاياها، وإن خلايا المجتمع إنما هي الأسر، إنما هي البيوت، فلو أصلح الناس بيوتهم، كل في شأنه، لو أصلحنا بيوتنا وسعينا بالنصيحة الشرعية الموافقة للكتاب والسنة فيما بيننا شيئاً فشيئاً لعم الخير ولقلّ الشر، وليس وعد الله جل وعلا فيما ذكرنا في الآيات يكون لمجتمع ليس فيه مخالفة وليس فيه معصية، وإنما هو لمجتمع الخيرُ فيه غالب، لأن الله جل جلاله وصف الإنسان بأنه ظلوم جهول فلابد أن تبقى هذه الصفة ولابد أن يبقى العصيان ليغفر الله جل وعلا للمستغفرين ولكي يتوب الله على التائبين وتظهر آثار اسمي الله: الغفور والرحيم لعباده.
لكن وعد الله يكون للمجتمع الذي خيره غالب على شره، وصلاح ذلك نبدأه نحن، وإن من سمة بعض الناس أن يلقي باللائمة على من تولى الأمر، على الدول والحكومات، وينسى أن أولئك لم يجبروا الناس على شر وإنما الناس الذين أقبلوا على الشر فيما رغبوا به فيه، نعم اللوم على الطائفتين، ولكن الإجبار لم يحصل، وصلاح البيوت ممكن، وجهاد الشيطان وعد الله أهله بالخير العظيم، فإذا أخطأ غيرنا فهل يسوغ شرعاً أو عقلاً أن نلقي باللائمة على غيرنا، على ذلك الغير وننسى أخطاءنا إننا نرى أن في البيوت من الأخطاء ما نعلمه من تفريط في الواجبات، المساجد إذا رأيتها رأيت المصلين فيها من أبناء البلد قليلاً وأكثرهم من غيرهم، إذا نظرت إلى أحوال الناس في امتثال أمر الله وجدت أن الغفلة سيطرت على القلوب وتحكمت إلا فيما شاء الله حتى يرى المرء نفسه إذا أذنب كأنه لم يذنب، وإذا فرط في واجب كأنه لم يفرط في واجب، والله مطلع على العباد، والعبد إذا فعل غير الخير فعل الشر ولم يحس بفعله للشر وبفعله لغير ما يرضي الله فإنه متوعد بأن يسلب عنه ما أعطي إياه من الخيرات وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم:7]. فإن الناس في أسرهم وفي قبائلهم وفي مجتمعاتهم إذا أصلحوا شيئاً فشيئاً فإن الخير يعم ونري الله جل وعلا من أنفسنا خيراً في الصلاح والإصلاح نصلح فيما بيننا، ونصلح فيما قد يظهر من الأخطاء في مجتمعاتنا، بالطرق الشرعية المرعية أما الرضى بغير ما يرضي الله فإن ذلك سبب لسلب الخيرات.
والله جل جلاله ضرب لنا مثلاً عظيماً في الذي أوتي الآيات فانسلخ منها وجعله مثلاً للقوم لا للأفراد ثم قال: فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون [الأعراف:176-177]. إن علينا أن نشعر أيها المؤمنون بمهمة الصلاح والإصلاح، وما من أسرة إلا وفيهم قدوة يقتدى به فإذا كانت القدوة غير صالحة أو كانت القدوة قدوة في غير تمام الخير أو في غير الخير من الشر، فأنى يرام الإصلاح، كذلك الأسر بعضها يقتدي ببعض، وحفظ النعمة التي بأيدينا ينبغي أن نتوجه بالتضرع إلى الله أولاً، في حفظها، وفي ثباتها، ثم أن نسعى جاهدين في طاعة الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته.
ثم تأمل أن من أعظم أسباب الفرقة والاختلاف التي ينتج عنها دخول المبادئ الهدامة ودخول الشهوات ودخول الشبهات تفريط بعض الناس بل تفريط الناس فيما أنزل الله جل وعلا وهم يعلمون ذلك قال جل وعلا: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذ ُكّروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء [المائدة:14].
نسوا حظاً مما ذكروا به فعاقبهم الله بماذا؟ عاقبهم الله بما وصف في قوله: فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة لأنهم فرطوا ولم يأخذوا بكتابهم ولم يطيعوا رسولهم، وتتابعت عليهم الأزمنة دون صلاح وإصلاح، ودون توبة وإنابة فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، وجعل لهم بعد الأمن خوفاً، فتفرقوا في البلاد شذر مذر، نسأل الله العفو والعافية.
أيها المؤمنون: إن من الناس من يحلو له أن يلقي باللائمة دائماً في أخطاء الناس وفيما يحصل من الشر من المجتمعات الإسلامية يلقي باللائمة دائماً على الحكومات والدول وعلى من ولي الأمور، وهذا ليس بصحيح مطلقاًً، فإن عليهم من اللوم وإن عليهم من الواجب ما عليهم، وقد فرطوا وعصوا في كثير ولكن الناس هم الذين قبلوا ذلك وأقبلوا عليه، فالإصلاح عند المصلحين يكون بالتوجه في إصلاح الناس في الدعوة، حتى يرفضوا الشر ويقبلوا الخير ثم يتوجهوا إلى من بيده الأمر في نصيحة شرعية صحيحة يقتفي فيها أثر السلف الصالح في ذلك، لأنه لن يصلح الله آخر هذه الأمة إلا بالذي أصلح الله به أولها.
أسأل الكريم أن يجعلنا من المنيبين حقاً ومن الصادقين مع ربهم جل وعلا، وأن يغفر لنا ذنوبنا وإعراضنا وأن يعفو عمن يذنب منا.
اللهم اغفر للمذنبين منا، اللهم اغفر لنا جميعاً، فإنا ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لنا مغفرة من عندك إنك أنت الغفور الرحيم.
واسمعوا قول الله جل وعلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
|