أما بعد:
فقال الله تعالى: وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون [يوسف:45-46].
نستعرض اليوم هذا المشهد من مشاهد تلك القصة القرآنية العظيمة الشريفة، قصة يوسف عليه السلام، ونستجلي ما فيه من الدروس والعبر، وهو مشهد سبقه آخر، تجلى في الذي قبله؛ الموقف السلبي الذي وقفته حاشية الملك، فحاولت أن تصرفه عن الاهتمام بتلك الرؤيا التي رآها وطلب منهم تفسيرها أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.
انظروا كيف جرهم موقفهم السلبي إلى الوقوع في التناقض، إلى ادعاء العلم وادعاء الجهل في آن واحد، ادعوا العلم أولاً فحكموا على المسألة بأنها أضغاث أحلام ثم ادعوا الجهل بتأويل الرؤى وهذا تناقض، وهكذا يكون حال الحاشية عندما تكون فاقدة للأهلية مفتقرة للنية الصحيحة والمقصد السليم، وفي هذا المشهد والذي قبله نلحظ أن المسألة من المسائل الهامة المتعلقة بالأمة بالرعية بالمصالح العامة وليست مجرد رؤيا عابرة بل كانت تلك الرؤيا لمحة من الضوء لتنبه المسؤول الأول عن تلك الأمة إلى خطورة الحال وإلى خطورة الاستمرار عليه فالبقرات السمان ستأكلهن البقرات العجاف، والسنبلات الخضر ستبتلعهن السنبلات اليابسات إذا لم يتم تدارك الحال، ولابد أن صاحب الرؤيا شعر بأن فيها علماً يجب استكشافه لذلك قال: أفتوني بينوا لي علماً استفيد منه ثم تأملوا قول ذلك الذي نجا من السجينين اللذين كانا مع يوسف في السجن، وادكر بعد أمة، تذكر صاحبه يوسف، بعد زمن طويل بمناسبة هذه الرؤيا التي رآها الملك، ماذا قال ليوسف عندما أقبل إليه في السجن يطلب منه تأويل تلك الرؤيا: يوسف أيها الصديق أفتنا، يوسف أيها الصديق أفتنا إذاً، فالمسائل الهامة المتعلقة بالأمة بالرعية بالمصالح العامة ومن باب أولى ما كان متعلقاً منها بالدين لا يتكلم فيها كل أحد، كما لا يتصرف فيها كل أحد، لا يتكلم فيها المجهولون، فمن كان مجهول الحال، مجهول المقاصد، مجهول العقائد، مجهول الولاء، لا نعرف ولاءه لمن، لله أم لغيره، لا يصلح من كان هذا حاله أن يكون مصدراً لا للعلم ولا للعمل، لا يصلح أن نأخذ عنه أمر ديننا، ولا أي مصلحة من مصالحنا العامة، لا يتكلم في مثل هذا المقام إلا من كان معروفاً كما كان يوسف معروفاً لذلك السائل أنه يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم، سليل الأنبياء والمصلحين، وهل نسي ذلك السائل قول يوسف عندما كان معه في السجن واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب [يوسف:38]. إذاً فقد كان معروفاً لديه، كان معروفاً لديه، وهذا هو أول شرط، لا نأخذ ديننا ولا مصالحنا عن المجهولين.
الشرط الثاني: أن يكون محلاً للصدق، أن يكون أمينا على الدين والدنيا، أن يكون صادقاً في مقاصده، وأهدافه، صادقاً في أقواله، صادقاً في أفعاله، أتسلّم مالك لأحد لا تعرف أمانته ولا أهليته ليستصلحه لك؟! فكيف تسلم دينك لمن لا تعرف أمانته وصدقه، الصديق هذا هو الوصف الثاني من أوصاف يوسف الذي نوّه به ذلك السائل، والصديق في اللغة مبالغة من الصدق.
والشرط الثالث: أن يكون من أهل العلم، الذين هم أهل الذكر، والذين هم أولو الأمر، فحيثما جاء في القرآن أولو الأمر فالمقصود بهم أولو العلم أهل الذكر، أن يكون من أهل العلم، فإنهم الذين يتكلمون في الملمات، ويفتون في أمور الأمة، إنهم الذين يتكلمون باسم الدين، ويوقعون عن رب العالمين.
يوسف أيها الصديق أفتنا لا تطلب الفتوى إلا من أهلها، أي بيِّن لنا مما آتاك الله من العلم، أوَينسى ذلك السائل قول يوسف له ولرفيقه الآخر الذي صلب بعد ذلك، قوله لهما عندما كانا في السجن: لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي [يوسف:37].؟؟!
أفتنا بيِّن لنا من ذلك العلم الذي علمك ربك، بين لنا من ذلك العلم الذي علمك ربك، إذاً لا يحل أن يتكلم في الفتوى ولا في أمور العلم ولا في أمور الأمة، ولا ينطق باسم الدين، لا يجوز أن يتكلم في شيء من هذا المقام إلا من تحققت فيه هذه الشروط الثلاثة، لا نأخذ ديننا ولا ما يهمنا من مصالحنا العامة إلا من العلماء المعروفين الصادقين، الذين تعرف الأمة كلهم صدقهم وأمانتهم وعلمهم وشجاعتهم، وأنهم يقولون الحق لا يخافون في الله لومة لائم.
أما المجاهيل، أما الذين فسدت نيتهم، وضاعت أمانتهم، وأخرسهم النفاق عن قول الحق، وأنطقهم حب التزلف والتقرب إلى السلاطين والحكام، أنطقهم بالباطل فهؤلاء لا يصلحون مصدراً لا للعلم ولا للعمل، حتى ولو كانوا علماء، فإنهم إن كانوا علماء فهم أشباه أحبار اليهود، فأحبار اليهود علماء، سماهم القرآن علماء بني إسرائيل، لكنهم لم يكونوا أمناء، وأما إن كانوا جهالاً فحشفا وسوء كيلة، فقد ضموا آفة الجهل إلى الآفتين السالفتين، ضياع الأمانة، وفساد النية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً [الإسراء:36].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|