جاء في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي دخل عليها فزعاً يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه – وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها-، فقالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)).
إذا كثر الخبث، فلا ينكر المنكر، ولا يأمر بالمعروف، ويسري داء المنكرات في المجتمع سير الهشيم بلا أي تحنّه، ولا ألسنة توهنه، عند ذلك ترى الحال التي تستوجب العقوبة والهلاك، فلا تدري أيصبحها ذلك أم يمسيها.
إن قوماً جاءتهم اللعنة على لسان نبيين من أنبياء الله تعالى، لما أن صارت حالهم إلى تلك الحال، بل إنهم أنكروا المنكر في أول أمره، ولكنهم ألفوه فما عاد بعضهم ينكره على بعض.
روى الترمذي – وحسنه – وأبو داود من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي قال: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض))، ثم قال: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون.
ثم قال: ((كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم)).
وذلك الوعد الصادق بإجابة الدعاء، وفتح أبواب السماء له، لا يتحقق إذا عُطّلت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما جاء عند أحمد والترمذي من حديث حذيفة أن النبي قال: ((لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)).
فيا لله، أي حرمان يعيش فيه ذلك المجتمع، وأي شيء يبقى له حين تحجب عنه أبواب الإجابة.
أيها الأحبة في الله:
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمان للمجتمع من تلك العقوبات الإلهية، وصمام أمان من انحدار المجتمع في مهاوي الردى واللحوق بركب الحياة البهيمية.
وخير مثال لبيان ذلك ما جاء في صحيح البخاري من حديث النعمان بن بشير أن النبي قال: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)).
فتأملوا هذه المثل العظيم، لتدركوا أن أهل الباطل عندما يدكوا بمعاول باطلهم سفينة النجاة التي يسير فيها المجتمع إذا لم يؤخذ بأيدهم وتكسر معاولهم، فإن الغرق يهدد المجتمع بأكمله.
إذاً: فالنجاة من ذلك بفضل الله تعالى أولاً ثم بتحقيق تلك الشعيرة، وكما قال سبحانه: فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون.
وقال سبحانه: فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجيبا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.
أيها الأحبة في الله:
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أوجب واجبات الشرع، بل قد عدّه بعض العلماء من أركان الإسلام، وقد فرضه الله تعالى على الأمة فقال سبحانه وتعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وروى الإمام مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
وروى أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي قال: ((ما من نبي بعثه الله تعالى في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.)).
وبتحقيق تلك الشعيرة تتحقق الخيرية الموعودة بكتاب الله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.
وفشوها في المجتمع دليل إيمانه ومعدنه النقي والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم.
وإن ضعف هذه الشعيرة في مجتمع، لا يقف عند حدود هذا الضعف، بل المصيبة في ذلك مضاعفة، حيث ينتج عن ذلك لا محالة قوة شديدة في الدعوة إلى المنكر وإبرازه وإحداث الحصانة له، بل يصل الأمر إلى الإكراه عليه، وينتج عنه أيضاً حرب للمعروف وإيذاء لأهله. وهكذا بقدر ما يكون الضعف يكون ما يقابله حتى تصبغ بالمجتمع حال النفاق والمنافقين كما أخبر الله تعالى بقوله: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون.
أيها الأحبة في الله:
وإن النفوس الضعيفة عندما تنقطع عليها لذائذها المحرمة بتحقيق تلك الشعيرة في المجتمع تسعى جهدها لتهوين تلك الشعيرة، بإلقاء الشبهات والآراء السفيهة حولها، فتجدهم في حين يدعون أن ذلك ينافي الحرية الشخصية التي يتمتع بها كل إنسان، ويزيد الطين بلة عندما يستدل لرأيه هذا بقوله تعالى: لا إكراه في الدين وما علم أن هذه الآية في الكافر أن لا يُكره على دخول الإسلام، بل وليس كل كافر، فقد رجح كثير من المفسرين أن هذا الحكم خاص بأهل الكتاب ومن شابههم، فتؤخذ منهم الجزية ويبقون على دينهم، هذا وقد ذهب بعض أهل العلم أن هذه الآية منسوخة بآية القتال.
ثم إن ذلك الكافر ليس له أن يفعل في مجتمع المسلمين ما يشاء مما يقرّه مجتمعه، فهل يريد ذلك بمثل هذه الاستدلال أن يسقط تلك الشعيرة، فأين تلك الآيات والأحاديث المتوافرة بشأنها وعظم وجوبها.
ثم أين تلك الحرية المزعومة حين تردّ الأمور إلى اختيار نفس ضعيفة، همها السعي وراء لذائذها، وتلك أحوال الأمم التي تدعي الحرية المطلقة لكل فرد من أفرادها كيف استحالت إلى مجتمعات بهيمية بل أسفل من ذلك، وفي كل يوم ينطق حالها بتلك الفضائح المخزية، وتلك الآراء التي تضحك العقول، وما تلك المؤتمرات التي يعقدون عن السامع ببعيد.
وتأتي حجة أخرى باعثها التقاعس عن تلك الشعيرة أو المحاربة لها، وذلك أن المرء عليه بنفسه وصلاحها، ولا يلتفت إلى مخالفات الآخرين فإن ذلك لا يضربه فالضرر على أصحابها فقط، ثم يستدل بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم.
ولو تأمل الآية بتمامها لما نطق بالاحتجاج بها على رأيه هذا، فالله تعالى يقول: إذا اهتديتم فأين الاهتداء إذا عطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد تصدى الصديق لهذه الشبهة فقال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه)) [رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
ويأتي آخر ويوهن من قدر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصدع بالحق بحجة أن ذلك موجب للفتنة والبلاء، وقد يُتسلط بسبب ذلك على الصالحين.
فتضعف هيبتهم في قلوب الناس، ولا يؤخذ منهم قول ولا رأي.
فسبحان الله، أي دعوة صادقة قامت من غير ابتلاء، ومصاعب يلاقيها أصحابها، هل سلم من ذلك الأنبياء حتى يسلم منه غيرهم؟!
ولكنه خلودٌ إلى بعض المتاع، ولو مست أي مصلحة من مصالحه لأقام الدنيا وأقعدها ولم يبال أتكلم به فلا، أو ترصد له فلان.
وفي أمثال هؤلاء يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضيع، ودينه يترك، وسنة رسول الله يُرغب عنها وهو بارد القلب! ساكت اللسان ! شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق.
وهل بليّه الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين.
وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله: بذل وتبذّل، وجدّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه.
وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون، وهم لا يشعرون وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل).
أيها الأحبة في الله:
وإن من عظيم نعم الله تعالى علينا أن نرى بيننا شباباً حملوا على عاتقهم تحقيق هذه الشعيرة، فتراهم في جهود تتوالى، قل أن تغمض جفونهم، أو تستريح أبدانهم، فكم من خير نشروه، وكم من منكر في مهده قتلوه، وكم من حرمات كادت أن تنتهك حالوا دون انتهاكسها، وقطعوا على الشيطان طريقة فيها.
وحُق لهم أن يهدى لهم كلام الإمام أحمد في رسالة له إلى مسدد بن مسرْهد حيث يقول: (الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم، والتقى، يدعون من ضل إلى الهدى، وينهون عن الفساد والردى، ويحيون بكتاب الله الموتى، وبسنة رسول الله أهل الجهالة والعمى، فكم من قتيل لإبليس أحيوه، وكم من ضال هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وأعمال المفسدين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا أعنّة الفتنة) أهـ.
أيها الأحبة في الله:
وإن من نافلة القول أن يُتحدث عن عظيم الثغر الذي يسدّه أولئك المرابطون، فإن ذلك أجلى من الشمس في ضحاها، وليس يخفى إلا على من انطفئت بصيرته فانقلبت عند الموازين.
أيها المسلمون:
وإن هذه الطائفة لما قطعت على أهل الباطل باطلهم، فلا عجب أن يسعى أهل الباطل بنفث سمومهم عليها فيلصقون الأكاذيب، ويهولون الأخطاء، وكأنهم يريدونها طائفة معصومة عن كل خطأ، فسحبان الله.
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
فلا تحلو المجالس لكثير إلا بالنيل من أمثال هؤلاء، فهذا يروي قصة، وهذا يزيد، وهذا ينقص، وما دروا أنهم خرموا حرمة عظّم الله قدرها في كتابه، وكان حقيقة استهزائهم لا على أشخاص لذواتهم، ولكن لما حملوه على عاتقهم، وهو أمر من أمور الدين عظيم، فليخش أولئك من قول الله تعالى: قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين.
ثم إن ذلك وعشرات أمثاله، لا يضير أولئك المحتسبين شيئاً، بل تلك سبيل قديمة، وسنة تتوالى، قد أدركها عمير بن حبيب بن حماسة الصحابي الجليل في زمن من أفضل الأزمان حين قال لأولاده وصيةٌ لهم (إذا أراد أحدكم أن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر فليوطن نفسه على الصبر والأذى وليوقن بالثواب من الله، فإنه من يثق بالثواب من الله لا يجد مس الأذى) [أخرج الإمام أحمد في الزهد].
وهذا الإمام أحمد يخبر عمر بن صالح بمثل ذلك. قال عمر بن صالح: قال لي أبو عبد الله – يعني الإمام أحمد -: يا أبا حفص يأتي على الناس زمان المؤمن بينهم مثل الجيفة، ويكون المنافق يشار إليه بالأصابع، فقلت: وكيف يشار إلى المنافق بالأصابع؟
قال: صيروا أمر الله عز وجل فضولاً.
قال: المؤن إذا رأى أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر لم يصبر حتى يأمر وينهى، يعني: قالوا هذا فضول.
قال: والمنافق كل شيء يراه قال بيده على أنفه، فيقال: نعم، الرجل ليس بينه وبين الفضول عمل).
أيها الأحبة في الله:
وإن من أعظم التعاون على البر والتقوى التعاون على تحقيق هذه الشعيرة.
ومن طرق التعاون معهم في ذلك:
- الدعاء لهم.
- الذب عن أعراضهم.
- تبليغهم بالمنكرات.
- زيارتهم لتبادل الآراء.
- مشاركتهم في بعض أعمالهم في حدود الممكن من ذلك. |