أما بعد:
معاشر المسلمين: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، اتقوا الله تعالى وراقبوه وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
أيها الأخوة المؤمنون:
لقد تغير في هذه الأزمان كل شيء، وشمل هذا التغير جميع نواحي الحياة.
لقد تغيرت المفاهيم، وطاشت الموازين. وغاب وازع الدين. ولم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من الدين إلا رسمه، وصار أمر الدين وهمُّ الإسلام آخر اهتمامات المسلمين، إن كان له في نفوسهم همّ، أواصر الدين وروابط الإسلام توشك أن تنقطع، إن لم تكن انقطعت، وأصبحت الدهماء تسير وراء سراب الدنيا وتتسابق عليه.
ولكن السراب وإن زان لمعانه، وأعجب الناظرين بريقه وجماله فهو سراب،كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.وليته لما لم يجده شيئاً قنع ونظر في نفسه وحاله. ولكنه انطلق خلف سراب آخر وهكذا دواليك.
لقد تغير في الناس حتى دينهم والتزامهم، نعم تغير دينهم، فما كانوا يرون به بأساً بالأمس هومن الجائزات اليوم، وما كان خطيئة وإثماً بالأمس أصبح حسنة وطاعة اليوم، وهي الفتنة التي قال الله عنها فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
قيل لأحد علماء السلف، ما الفتنة في هذه الآية؟
قال: أن يصبح ما كنت تراه حراماً حلالاً أو ما كنت تراه حلالاً حراماً، يعني بدون دليل شرعي.
ولقد صدق الإمام الناسك أعني أنس بن مالك حين قال كما في الصحيح: ((وإنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله من الموبقات)). لمن يقول هذا الكلام أيها الأخوة إنه يقول: للتابعين وهم من القرون المفضلة.
ولقد أدرك أنس بن مالك تغير الأمة ولاحظ بدء قصورها، فرأى حين رجع إلى المدينة بعد أن مكث في الشام دهراً قليلاً.
وجد الناس لا يسوون صفوفهم، فقال: لقد تغيرت علي صفوف الناس في صلاتهم يعني على عهد النبي .
لقد عرف أنس بن مالك أن هذه هي بداية ميلان الجادة وانحراف الطريق، فماذا يقول يا ترى لو أدرك زماننا؟ ورأى أحوالنا؟
1/ ليت الناس ما غيروا إلا صفوفهم لكان الأمر سهل والخطب أخف.
ولست أقول هلك الناس، ولست بالمهلك.
ففي الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا. وكيف أهلك الناس؟ وقد قال النبي : ((من قال هلك الناس فهو أهلكهم)) على الوجهين ونؤمن بقول الرسول : ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) [رواه البخاري ومسلم].
ولكن لا يخفى على أي مؤمن صادق ما آل إليه أمر الناس وحال المسلمين اليوم من الغرابة، فالموافق المتابع فيه لما عليه الرعيل الأول قليل، والمخالف هو الكثير، وقد اندرست رسوم كثير من الشريعة أو كادت وانمحت بعض مظاهر الدين أو زالت، وإلى الله المشتكى وإليه الملجأ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقد حفظ الله بمنه وكرمه هذه البلاد المباركة، وفق الله القائمين عليها لكل ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.
وكأن رسول الله ينطق بيننا ويعيش بين أظهرنا، حين أخبرنا عن زماننا هذا. فقال كما في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة : ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء)).
وفي رواية الإمام أحمد: ((قيل من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)).
وروى الإمام أحمد وابن المبارك في الزهد بإسناد فيه ضعف، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي قال: ((طوبى للغرباء، قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: أناس صالحون في أنس سوءٍ كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)) وفي رواية: ((من يبغضهم أكثر ممن يحبهم)).
أيها الأخوة الأعزاء:
إن للصابر في هذا الزمان أجر خمسين صحابياً، وأن كان لا يدرك فضلهم لقوله عليه السلام: ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) [أخرجه الشيخان في الصحيح].
فقد يدرك المسلم أجر الصحابي ولكن لا يدرك فضله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر)) [رواه الترمذي والحديث حسن بشواهده].
وعن ابن مسعود عن النبي قال: ((إن من ورائكم زمان صبر، للمتمسك فيه أجر خمسين شهيد منكم)) [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير بسند صحيح].
ولقد أحسن القائل:
وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبض على جمر فتنجوا من البلا
أيها المسلمون:
لقد ساد الصحابة والتابعون يوم أن كانوا أسوداً للإسلام وحماة للدين وسياجاً واقياً قوياً للعقيدة وذللنا يوم أن اتخذنا العزة بالدنيا والدرهم، وهُنا على الله وعلى الناس يوم أن اتخذنا الدنيا وطناً وسكناً، ووالينا لأجلها وعادينا لأجلها، فلأجلها نرضى ولأجلها نغضب.
فها نحن لنا في كل موضع من جسدنا ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، أو وكزة بعصا. فها نحن نسمع بين حين وآخر نواحِ الثكالى وبكاء اليتامى ولا مجيب.
أتسبى المسلمات بكل أرضٍ وعيش المسلمين إذن يطيبُ
وكم سمعنا من أصوات: وامعتصماه، فإذا الصوت هو الصوت الأول الذين سمعه المعتصم فالمصدر هو المصدر، لكن السامع غير السامع، والحال غير الحال.
رب وامعتصماه انطلقت ملأ أفـواه الصبايا اليتيم
لامسـت أسماعنـا لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
أيها الأخوة إنه لا عزة للأمة الإسلامية ولا مكانة لها ما دامت لا تضحي لدينها، ولا تثأر لعقيدتها.
ولن تنال العزة والقوة والتمكين في يوم من الأيام، بالمال والجاه، أو الانهزامية، والخذلان.
وتأمل معي هذه القصة التي يرويها الحاكم في مستدركه. خرج عمر بن الخطاب إلى الشام (وذلك حينما ذهب ليتسلم مفاتيح بيت المقدس وكان خليفة المسلمين آنذاك) قال الراوي: ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة، فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أأنت تفعل هذا؟ تخلع نعليك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟
ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك (أي نظروا إليك وأنت على هذه الحال) فقال عمر: أوّه، لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد ، إنا كنا أذلّ قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله.
وهذا ربعي بن عامر يرسله سعد بن أبي وقاص قِبَل القادسية رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة.
وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب مرقعة صفيقة وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبه حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسادات، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك. فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني.
فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له. فأقبل متوِكأً على رمحه فوق النمارق فتخرق عامتها فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
أيها المسلمون:
لقد ضرب لنا جيلنا الأول من الصحابة والتابعين أروع ما عرفه التاريخ من التضحيات والإقدام والشجاعة حتى خافت الفرس والروم آنذاك من هذا السيل الجارف والقوة الكاسرة.
لقد كانت المبادئ عندهم والغايات التي يسعون لتحقيقها هي رفعة الدين، ونصرة الدعوة وحماية العقيدة فبذلوا لتحقيقها كل غاية ووسيلة صغرت أم كبرت.
كان هذا الهم وهذه المبادئ لا يختص به الرجال فقط بل حتى النساء والصبيان.
فهذا الزبير بن العوام كان جالساً يوماً عند الكعبة مسنداً ظهره إليها، وإذا بمنادٍ ينادي لقد قتل محمد، لقد قتل محمد، فقام الزبير فزعاً مضموماً وسل سيفه، وانطلق يبحث عن مصدر الصوت، وكان عمره آنذاك (اثنى عشرة سنة) نعم أيها الأخوة عمره (اثنا عشرة سنة). فبينما هو كذلك إذا به يقابل النبي فانكب عليه، فقال: يا رسول الله لقد سمعت عنك كذا وكذا، ووالله لقد خرجت بسيف لأقابل قريش أجمع أقتل أو يقتلوني.
نعم أيها الأخوة، عمره اثنا عشرة سنة وهذه اهتماماته وهذه بطولته، يريد أن يقاتل قريشاً أجمع وحده ثأراً للنبي .
فما هي اهتمامات شبابنا اليوم، ولست أقول الذين أعمارهم اثنا عشرة، ولكن الذين أعمارهم في العقد الثاني والثالث.
أخرج ابن عساكر والحاكم والبغوي بمعناه: عن سعد بن أبي وقاص قال: رد رسول الله عمير بن أبي وقاص عن مخرجه إلى بدر، واستصغره، فبكى عمير فأجازه النبي قال سعد: فعقدت عليه (أي ربطت) حمالة سيفه، قال سعد: فقتل ببدر وهو ابن ست عشر سنة.
واسمع معي هذه البطولة التي يقوم بها غلامان صغيران.
أخرج الشيخان عن عبد الرحمن بن عوف قال: إني لواقف يوم بدر في الصف، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما. فقال: يا عماه أتعرف أبا جهل ؟ فقلت: نعم، وما حاجتك إليه؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا؟ فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي أيضاً مثلها، فلم أنشب (أي لم ألبث) أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول بين الناس، فقلت: ألا تريان هذا صاحبكم الذي تسألاني عنه؟ فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى النبي فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ قال كل منهما: أنا قتلته، قال: هل مسحتما سيفيكما، قالا: لا، قال: فنظر النبي في السيفين فقال كلاهما قتله.
ولم تكن الشجاعة والإقدام والتضحية في أطفالهم ورجالهم فسحب بل كانت الشجاعة حتى في نسائهم، جيل متكامل، جيل يمثل الأمة المؤمنة الفاضلة التي يحلم بها الفلاسفة وعلماء الاجتماع منذ زمن بعيد.
نعم إنها تكامل الشخصيات وعلو الهمة، وسمة النظرة، وقوة اليقين، وصدق الإيمان، فله درُّهم.
فهذه صفية تدافع عن حصن المسلمين وذلك حينما كان النبي خارج في غزوة الخندق فمر رجل يهودي فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله: تقول صفية: وليس بيننا وبين أحد يدفع عنا، فلما أحست صفية أنه يريد أن يتأكد هل بالحصن رجالٌ أم لا؟ حتى يغير على النساء، فلما دخل الحصن أخذت عمود فسطاط فقتلته ثم ألقته من أعلى الحصن فلما رأى ذلك اليهود، قالوا: ما كان لمحمد أن يخرج ويثرك النساء بلا رجال.
وهذه أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية: دافعت عن رسول الله ، وكانت تسقي الناس يوم أحد فلما رأت رسول الله قد أحيط به، وانهزم عنه الناس وضعت سقاءها، وأخذت سيفاً فجعلت تقاتل أشد القتال وحتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً وظل على عاتقها من هذه الجراح جُرح أجوف له غور أصابها به ابن قَمِئَة فأماته الله في نار جهنم.
وفي بعض الروايات، لما كانت تدافع عن النبي وكثرت عليها الجراح وهي تدافع، والنبي يقول: ((من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة)).
سليني يا أم عمارة فقالت: ادع الله أن نرافقك في الجنة. تريد نفسها وزوجها وابناها حبيب وعبد الله فقال: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة.
هؤلاء النساء الصحابة وهذه بطولاتهم، فمال نساءنا اليوم لا يعرفن تاريخهن ولا يعشن أمجاد الأفذاذ من الصحابيات. ولست أعني أبداً أن نزاحم الرجل أو أن تشارك في المعارك، ولكن لتكن أمرة معتزة بدينها، وكيانها وبعزتها وبحجابها ولا تقلد الكافرات ولا تعجب في السافرات.
بارك الله لي ولكم. .
|