أما بعد:
فلقد قال الله تبارك وتعالى في مبدأ آيات الصيام مبينًا أكبر وأعظم حكمه وأهدافه: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.
ولئن كانت للصيام فوائد وحكم بدنية واجتماعية إلا أن أكبر وأعظم حكمه على الإطلاق تقوى الله عز وجل.
وتقوى الله تبارك وتعالى هي وصيته للأولين والآخرين. قال الله تبارك وتعالى في سورة النساء في الآية الحادية والثلاثين بعد المائة في وصيته للأولين والآخرين بتقواه: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله.
فما هي التقوى؟ التقوى: هي أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه, وتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه منه بفعل الطاعات واجتناب المعاصي, قال الله تبارك وتعالى في سورة المدثر: هو أهل التقوى وأهل المغفرة, هو أهل أن يُجل ويُخشى ويُعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه, وقال في سورة آل عمران: ويحذركم الله نفسه, وقال في سورة الحشر: يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد, وقال: واتقوا الله الذي إليه تُحشرون, هكذا قال في سورة المائدة: واتقوا الله الذي إليه تحشرون مرجعكم ومآبكم إليه سبحانه, فاتقوه.
وأحيانًا تضاف التقوى إلى العقاب ومكانه وزمانه: أمّا مكان العقاب فهو النار, وأما زمانه فهو يوم القيامة, ففي تقوى العقاب ومكانه يقول الله تبارك وتعالى: واتقوا النار التي أعُدت للكافرين, ويقول في موضع آخر: فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة, وفي زمان العقاب الذي هو يوم القيامة يقول في آخر آية نزلت من القرآن على الصحيح ـ وهي آخر عهد الأرض بالسماء في الآيات والقرآن المنزّل ما هي؟ ـ واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
فالتقوى الكاملة هي أن يتقي العبد المحرمات والشبهات, وربما دخل فيها فعل المندوبات وترك المكروهات, وهذه أعلى درجاتها, أعلى درجات التقوى أن تجمع فيها بين فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات, وأن تقبل على المستحبات والمندوبات, لا تترك شيئًا مستحبًا, وأن تترك المكروهات.
لكن كثيراً من الناس يتساهلون تساهلاً شديدًا في أمور ينظرون إليها على أنها من المكروهات, يسألون عن الأشياء التي تعِنُ لهم وتعرض لهم فإن قيل: إنه مكروه تساهلوا في شأنه وفي أمره, وقالوا: المكروه لا يوجب عقابًا, بل يوجب الحرمان من الثواب, ما هذا الزهد في طاعة الله تبارك وتعالى وفي ثنائه ومغفرته ورحمته وإحسانه, يقبل الناس على الأشياء لأنها لا توجب عقوبة فقط, توجب الحرمان من الثواب, ويقولون ليس هذا الأمر محرمًا إنما هو مكروه فحسب, ليس هذا من تقوى الله عز وجل, بل إن الفقهاء أحيانًا يعبرون عن المحرمات بلفظ أكرهه, وبلفظ مكروه, فالكراهة ليست بالأمر الذي يُستهان به يا عباد الله, ولماذا تفعلون ما يكرهه ربكم وخالقكم وموجدكم, وفي حق البشر الذين تجلونهم وتعظمونهم لا تفعلون إلا ما يدخل أعظم المسرات على قلوبهم؟ لماذا؟! لماذا تجعلون الله أهون الناظرين إليكم؟!
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "يُنادى يوم القيامة أين المتقون؟ فيقومون في كنف الرحمن لا يحتجب منهم ولا يستتر, قالوا له: من المتقون؟ قال: قومٌ اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله بالعبادة".
وقال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ: "ليس تقوى الله بصيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك, ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله, فمن رزق بعد ذلك خيرًا فهو خير إلى خير".
ليس تقوى الله أن يصوم العبد نهاره ويقوم ليله، ويخلط فيما بين ذلك, يُقبل على المعاصي والمحرمات ثم هو قبلها وبعدها يصوم ويقوم, إنما تقوى الله تبارك وتعالى ترك ما حرم الله وأداء ما افترض.
وقال طلق بن حبيب: "التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجوا ثواب الله, وأن تترك ما حرم الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
وقال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: "لا زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام", لم يرتكبوا مثلنا المحرمات ويستبيحونها ويبررون لها بالمبررات, ويطلبون الفتاوى التي تؤيد ارتكابهم لها, ويبحثون عنها بحثًا, فإن لم يجدوها برروا ذلك بأن الله غفور رحيم، ونسوا أنه كذلك شديد العقاب.
ثم يا عباد الله من كلام السلف الصالح في حق التقوى كذلك ما قاله ميمون بن مهران: "المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه".
وروى الترمذي بسند حسن عن عطية السعدي أن رسول الله قال: ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس)), لا يبلغ أن يكون من المتقين حتى يترك الأشياء التي لا بأس فيها ولا حرج عليها خوفًا مما به البأس, يترك الشبهات, ويترك ما قد يتسبب له في ارتكاب محرم أو تستشرف نفسه بعده لارتكاب منهي, وقال النبي ـ فيما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه وهو حديث صحيح متفق عليه ـ: ((فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه)), وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: "اتقوا الله حق تقاته, أن يطاع فلا يعصى, ويذكر فلا يُنسى, وأن يشكر فلا يُكفر", وشكر الله تبارك وتعالى يدخل فيه القيام بجميع الطاعات, وذكره فلا يُنسى بأن يذكر المرء نفسه وقلبه أوامر الله تبارك وتعالى فيمتثلها في حركاته وسكناته وكلماته, لا تغيب عنه أوامر الله حتى وهو يضحك, حتى وهو في حال مع أهله, حتى وهو في نومه, في يقظته, يرغم نفسه أوامر الله فيمتثلها, والنواهي فيجتنبها.
وقال ابن المعتمد:
خَــلّ الذنــوب صغــيرها وكبــيـرها
واصنع كماشي فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبـال مـن الحــصى
لا تحقرن ذنبًا تستصغره؛ إن الجبال من الحصى, ذنب على ذنب تصير كبيرة, تحيط بالعبد. وتلمّ به فيصدق عليه قوله تعالى في سورة البقرة: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
ثم على المرء أن يعلم ما الذي يتقيه لكي يكون متقيًا؛ ولذلك روى معروف الكرخي عن بكر بن خُنيس أنه قال: كيف يكون متقيًا من لم يدر ما يتقيه, وقال معروف: إذا كنت لا تُحسن تتقي أكلت الربا, وإذا كنت لا تُحسن تتقي لقيتك امرأة فلم تغض بصرك, أو كما قال معروف.
وتقوى الله عز وجل كما عرفنا هي وصيته لخلقه جميعًا, ووصية رسوله لأمته قال لهم يوم النحر في حجة الوداع: ((عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة)) وقال له أبو ذر ـ كما هو في حديث طويل عند ابن حبان ـ: أوصني يا رسول الله, قال: ((عليك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله)), وروى أحمد أن أبا سعيد الخدري قال كذلك: أوصني يا رسول الله, فقال: ((عليك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء, وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام)) ـ وفي رواية ـ ((عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير)).
وقال له يزيد بن سلمة ـ كما عند الترمذي ـ: يا رسول الله, إني سمعت منك حديثًا كثيرًا أخاف أن ينسينيه أوله آخره, فحدثني بكلمة تكون جماعًا, قال: ((اتق الله فيما تعلم)).
ولم يزل السلف الصالح يتواصون بتقوى الله عز وجل, فلقد كان في خطبة أبي بكر رضي الله عنه ـ بعد أن ولي على المسلمين ـ كان يحمد الله ويثني عليه ثم يقول: "أيها الناس أوصيكم ونفسي بتقوى الله, وأن تثنوا على الله بما هو أهله, وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة ـ لا تكونوا راغبين فحسب, لا تقولوا غفورٌ رحيم, لا تنسوا أن عنده نارًا وجحيمًا ونكالاً وعذابًا أليمًا ـ وأن تجمعوا الإلحاح بالمسألة، فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين, ولما حضرته الوفاة دعا عمر ليوصيه فقال له أول ما قال: "اتق الله يا عمر".
وكتب عمر بن الخطاب إلى ابنه عبد الله: "عليك بتقوى الله فإن من اتقاه وقاه, ومن أقرضه جزاه, ومن شكره زاده", وقال علي بن أبي طالب لرجل استعمله على سرية: "عليك بتقوى الله الذي لابد لك من لقائه, ولا منتهى لك دونه, وهو يملك الدنيا والآخرة".
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أخ له: "عليك بتقوى الله التي لا يُقبل غيرها, ولا يُرحم إلا أهلها, ولا يُثاب إلا عليها, فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل, جعلنا الله وإياك من المتقين".
وقيل ليونس بن عبيد: أوصنا, فقال: "عليكم بتقوى الله والإحسان؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون", وقيل لأحد التابعين عند موته: أوصنا, فقال: "عليكم بخاتمة سورة النحل إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون, وقال شعبة: كنت إذا أردت الخروج قلت للحاكم ـ أي ابن عتيبه ـ: ألك حاجة؟ فكان يقول له: أوصيك بما أوصى به النبي معاذ بن جبل: ((اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. |