أما بعد:
فقد سبقت الإشارة في الجمعة الماضية إلى أن كل فساد حَلّ بأمة من الأمة فإنما هو بأسباب أمراض القلوب وعللها، وما زال الأمر أيها الأخوة الكرام يحتاج إلى مزيد من البيان فيما يتعلق بأمراض القلوب وعلاجها، فهو أمر خطير.
سبقت الإشارة إلى أن الناس قد اهتموا بما ليس يعادله في الخطورة على أنفسهم ولا على مجتمعاتهم. اهتموا بأمراض البدن وأهملوا أمراض القلوب والأرواح، وهي الأمراض الحقيقية. ولقد جاء في كتاب الله العزيز ما يفيد أن كل فساد إنما هو بسبب أمراض القلوب. ونسب الكتاب العزيز المرض إلى القلوب، وأفاد أنها تمرض بالأمراض المعنوية التي سبق الحديث عنها.
ومما جاء في الكتاب العزيز حول نسبة المرض إلى القلوب قوله تعالى في سورة البقرة: في قلوبهم مرض وهو مرض الشك كما قال مجاهد وقتادة رحمه الله، وقال تعالى في سورة الحج: ليجعل ما يلقي الشيطان فتنةً للذين في قلوبهم مرض وقال في سورة الأحزاب: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً فأمرهم بألا يلين في كلامهم حتى لا يطمع من في قلبه مرض الشهوة، ومع ذلك فلا يخشنّ في القول بحيث يلحق بالفحش بل يقلن قولاً معروفاً.
والمرض الذي يصيب القلب. أي المرض المعنوي هو مرض الجهل والشك والريب والشبهات مرض الغي والشهوات، ولقد نزه الله تبارك وتعالى رسوله عن الجهل وعن الغي. عن المرضين الخطيرين اللذين يصيبان القلب فقال في سورة النجم: والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى ما ضل، وما غوى، ما جهل، وما كان من أهل الغي والغواية، وصف رسول الله خلفاءه بضد الضلال والغواية، فقال فيما أخرجه أبو داود والترمذي بسند حسن صحيح وغيرهما عن العرباض بن سارية عن النبي قال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)) فوصفهم بأنهم راشدون أي ليسوا غاويين، مهديون أي ليسوا ضالين ولا جاهلين.
وإذا انتقلنا إلى البحث في أسباب ومشخصات أمراض القلوب والأبدان، ووجدنا أن القلب يتأذى بما يتأذى به البدن، وتحسب قوته وتضمن سلامته بما يضمن للبدن سلامته وقوته.
أما البدن فإنه تُضمن له السلامة إذا اتبعت ثلاثة أصول: حفظ القوة، الحمية من المؤذي الضار، استفراغ المواد الفاسدة.
ونظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة، ولقد جاء كتاب الله العزيز الذي أنزله الله تبارك وتعالى شفاءً ورحمة بما يفيد هذه الأصول الثلاثة: أما فيما يتعلق بحفظ القوة. فإن الله تبارك وتعالى رخص للمسافر والمريض أن يفطر في رمضان لأن الصيام يضعف قوة المسافر ويضعف الصيام أيضاً المريض ويزيده ضعفاً إلى ضعف، وأمر المسافر إن يقضي إذا انتهى من سفره وعاد إلى بلده وأمر المريض أن يقضي إذا صح وبرأ.
قال الله تعالى حول هذا الأصل الأول. أصل حفظ القوة في سورة البقرة: ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر حفظ القوة لابد أن يحفظ على المريض وعلى المسافر قوته، والمريض إذا حفظت عليه قوته أدى ذلك إلى سلوكه طريق الشفاء والسلامة.
وأما الأصل الثاني: وهو حمية البدن من ورود المؤذي الضار عليه ففي ذلك يقول الله تبارك وتعالى مرشداً من مرض من عباده إلى العدول عن الماء الذي قد يؤذي المريض في الوضوء وفي الغسل أرشدهم إلى العدول عنه إلى التيمم لحماية البدن من ورود المؤذي الضار على ظاهر البدن، فقال في سورة المائدة: وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج.
وأما إرشاده إلى استفراغ المواد الفاسدة: ففي سورة الحج إرشاد لمن كان له مرض أو أذى من رأسه أن يحلق شعره لاستفراغ المواد المؤذية والأبخرة الضارة من الرأس، قال تعالى في سورة البقرة: فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فدية في مقابل ماذا؟ في مقابل أن يحلق رأسه حيث يُسمع بذلك للمحرم حتى يتمكن من الفراغ من أداء نسكه.
قال ابن القيم – رحمه الله تبارك وتعالى – وذاكرت بعض رؤساء الطب بمصر في هذا أي في الأصول الثلاثة حفظ القوة، الحمية من المؤذى الضار، استفراغ المواد الفاسدة. فقال: والله لو سافرت إلى الغرب في معرفة هذه الفائدة لكان سفراً قليلاً أو كما قال.
والحديث عن مرض القلب وحقيقته فلماذا تكلمنا عن مرض الأبدان؟ فعلنا ذلك لتأكيد أن القلب يتأذى بما يتأذى به البدن، ويصلح بما يصلح به البدن. فأما القلب فإنه إذا حفظت قوته سلم وبرأ وشفي من كل مرض وعلة، وقوة القلب تتحقق بالإيمان وأوراد الطاعات، بالإيمان وما يزيده من تلاوة كتاب الله عز وجل وأحاديث رسوله ، خاصة تلك التي تتعرض لترقيق القلوب بالحديث عن قدر الدنيا بالضئيل بالنسبة لما في الجنة وبالحديث عن هوانها على الله تبارك وتعالى بقدر ما يهون جدي ميت أسكّ على بني آدم فلا يشترونه بدرهمين ولا حتى بردهم كما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
قوة القلب تكون بالإيمان وبأوراد الطاعات وحميته من المؤذي الضار، تكون باجتناب المعاصي والآثام وأنواع المخالفات. واستفراغ المواد الفاسدة منه تكون بالتوبة النصوح واستغفار غافر الخطيئات هذا ما يضمن للقب سلامته، فإنه قد يذهب إدراكه، بالكلية وقد ينقص إدراكه وقد يرى الشيء بخلاف ما هو عليه فيحب الباطل الضار يبغض الحق النافع بسبب ذهاب الإدراك أو نقصه أو ضعفه بالضبط كما يحصل للبدن قد يذهب إدراكه بالكيلة إذا أصيب بالعمى أو الصمم أو الشلل، وقد ينقص الإدراك إذا ضعفت آلاته بالرغم من استقامة الإدراك، وقد يرى الشيء بخلاف الشيء بخلاف ما هو عليه كما يرى الحلو مراً إذا ذاقه، وكما يرى الخبيث طيباً والطيب خبيثاًً، وهذه الأمراض في القلوب أو الأبدان ترجع إلى الكمية أو الكيفية، أما الكمية فإذا نقصت المادة أو زادت أدى هذا الاختلال إلى المرض، وأما الكيفية فإذا حصل زيادة في حرارة أو رطوبة أو يبوسة أو نقص حصل المرض وهذا، الشأن ينطبق على كل من القلب ومن البدن.
أيها الأخوة الكرام فإذا تكلمنا عن الأدوية اللازمة لصلاح القلب وشفائه وجدناها تنقسم إلى طبيعية وشرعية.
أما الطبيعية فهي التي تصلح لشفاء الهم والغم والحزن والغيظ من أمراض القلوب التي تؤلم القلوب في الحال، وهذا يكون بمعالج المرض بضده، فالهم والغم يعالج بالفرج والسرور، ولكن بحق.
فإذا كان العلاج بغير حق أعقب أمراضاً أصعب فمن كان مهموماً بسبب فقره وضيق ذات يده وعدم قدرته على الإنفاق على أهله وعياله يعالج بأن يُعطى المال الذي يذهب همه وغمه، ويمكنه من الاستعانة على أرزاقه ومعايشه وهذا علاج بحق.
أما إذا عالج همه وغمه بالسرقة فيكون قد عالج مرضه بغير حق، ويعقب نفسه أمراضاً أصعب.
ومرض العشق يعالج بالتزوج، يتزوج الذي أصيب بهذا المرض، أما إذا عالجه بالفجور بالمعشوق أعقب أمراضاً أصعب وأخطر هذا فيما يتعلق بالأمراض التي تداوى بأدوية طبيعية.
أما التي تداوى بأدوية شرعية فهي أمراض الشك والجهل والغي والشهوات. وهي تحدث في القلب ألماً عظيماً وإن كان صاحبه لا يشعر به إلا أنها أشد خطراً عليه وأشد تأثيراً على قلبه الذي إذا فسد ونكتت فيه النكت السوداء أدى ذلك إلى شقائه الدائم وعذابه السرمدي.
ودواء هذه الأمراض موكول إلى الرسل وأتباعهم عليهم صلوات الله وسلامه، تداوى هذه الأمراض بالأدوية الشرعية بالعلم والهدى فإن صاحبت هذه الأمراض إذا عالجها بالعلم والهدى اشتفى قلبه وصحّ وبرأ، وإذا عالجها بأدوية غير نافعة، ازداد مرضاً على مرض، وازداد جهلاً علا جهل. وهو يحسب أنه يُشفى من هذه الأمراض كما قال القائل:
إذا دلّ من داء به ظن أنه نجى وبه الداء الذي هو قاتله
قد يخيل إليه إذا دلّ أي صح وبرأ قد حصلت له العافية والشفاء من الجهل، ولكن الحقيقة أن به الداء الذي هو قاتله أمراض الجهل والشك والشبهات والشهوات تعالج بالأدوية النبوية. والأدوية الإيمانية.
الله تبارك وتعالى في سورة يونس كما سبقت الآية في الخطبة الماضية: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين فجعل كلامه موعظة للناس عامة، وهدى ورحمة للمؤمنين خاصة، وشفاءً تاماً لما في الصدور، فمن لم يعالج قلبه هذه الأدوية زاد مرضه وضعفت قوته ترامى إلى التلف ما لم يتدارك ذلك بأن يقوي قوته ويزيل مرضه.
أسأل الله العظيم أن يهدينا بهدايته التي تنشرح لها الصدور، وأن يغفر لنا ما سلف من المعاصي والذنوب، إنه هو الرحيم الغفور.
|