اللهم إنا نسألك القبول في الصيام والقيام, اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها, وخير أيامنا يوم لقياك, اللهم إنا نسألك الرشد في الأمر كله, اللهم إنا نسألك الخير العميم في شهر القرآن, اللهم إنا فقراء إليك فلا تردنا خائبين.
أما بعد: إخوة الإيمان فقد عزم شهر رمضان على الرحيل, ولم يبقى منه إلا القليل, لقد عزم شهر الصيام على الرحيل, فمن كان قد أحسن فيه فعليه بالتمام؛ فإن الأعمال بالخواتيم كما صح ذلك عن نبينا , ومن كان قد فرط فيه فليختمه بالحسنى؛ فالعمل بالختام, فتزودوا منه ما بقي من الليالي, واستودعوه عملاً صالحًا يشهد لكم به عند الملك العلام.
سلام من الرحمن كـل أوان على خير شهر قد مضى وزمان
سلام على شهر الصيام فإنه أمان من الرحمـن أي أمــان
فإن فنيت أيامـك الغر بغتة فما الحزن من قلبي عليك بفـان
كيف لا تجري للمؤمن على فراقه دموع وهو لا يدري هل بقي في عمره لديه رجوع, كم مات أناس قبل أن يدركوا شهر رمضان.
تذكرت أيام مضت وليالي خلت فجـرت من ذكـرهن دموع
ألا لهـا مـن الدهـر عودة وهل لي إلى يوم الوصال رجوع
أين حرقة المجتهدين في نهاره؟ أين قلق المتهجدين في أسحاره, إذا كان هذا حال من ربح فيه, فكيف حال من خسر في أيامه ولياليه؟ ماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه وقد عظمت فيه مصيبته وجلّ عزاؤه؟ ماذا ينفعه البكاء وقد ضيع الليالي في اللهو واللعب؟ ماذا ينفعه البكاء وقد كان يتسكع في الأسواق, وكان يجلس مع الأصحاب بعيدًا عن ذكر الله تعالى, والتراويح تصلى, والناس يتلون كتاب الله تعالى, ماذا ينفعه البكاء؟ لا ينفعه البكاء؛ لأن اليوم الذي مضى لا يعود يقول سبحانه وتعالى عن النادمين يوم القيامة أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير.
كم نُصح المسكين فما قبل النصح, كم دعي إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح, كم شاهد المتواصلين فيه وهو متباعد, كم مرة به زمر السائرون وهو قاعد, حتى إذا ضاق به الوقت وحاق به المقت ندم على التفريط حين لا ينفع الندم, وطلب الاستدراك في وقت العدم, ومتى رأيت العقل يؤثر الفاني على الباقي فأعلم أنه قد مسخ, يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "متى رأيت القلب قد ترحل عنه حب الله والاستعداد للقائه, وحل به حب المخلوق والرضى بالحياة الدنيا والطمأنينة بها, فاعلم أنه قد خسف به إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمئنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون, ومتى جفّت العين من البكاء من خشية الله تعالى فاعلم أن قحطها من قسوة القلب, وأبعد القلوب من الله القلب القاسي, ومتى رأيت لذة تهرب من الأنس به سبحانه وتعالى إلى الأنس بالخلق, ومن الخلوة مع الله إلى الخلوة مع الأغيار فاعلم أنك لا تصلح له, ومتى رأيته يستفيد غيرك وأنت لا تطلب من الله عز وجل القرب منه ويستدني سواك لا تقرب فاعلم أنه الحجاب والعذاب من ركب ظهر الأماني والتفريط والتواني نزل به دار الحسرة والندامة.
أيها المسلمون هذا شهر رمضان قد قرب رحيله عنكم, فمن كان منكم محسنًا فليحمد الله على ذلك؛ فهذا من فضل الله وتوفيقه ولا يغترن إنسان من طول قيامه وبصيامه وبتلاوته القرآن, فإن الله عز وجل هدانا صراطًا مستقيمًا, هو الهادي إلى سواء الصراط.
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فلا يتسربنّ الغرور إلى إنسان صام رمضان, وختم فيه القرآن, بل عليه أن يحمد الله تعالى كثيرًا وليتذكر الساعات التي ضيعها بغير ذكر الله تعالى.
أيها المسلمون: من فعل خيرًا في هذا الشهر فليحمد الله, من تصدق أو صام أو قرأ القرآن لينتظر عظيم الثواب من الملك الوهاب إن شاء الله, ومن كان مسيئًا فيه فلا نقل له إن باب التوبة قد قفل, فليتب إلى الله تعالى توبة نصوحة فإن الله تعالى يتوب على من تاب, وإنما الأعمال بالخواتيم, فليحسن الختام, لعل الختام يغطي على الابتداء, فإن الله عز وجل إذا رأى من عبده خيرًا في نهاية عمله ختم له بالخير إن شاء الله تعالى.
وبمناسبة التوبة فإن التوبة مطلوبة في كل زمان والله عز وجل يقول: ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون, وإن في طريق التوبة عوائق لابد أن أذكرها هنا في هذا المقام سريعًا.
أولى هذه العوائق هو نسيان الموت, أن ينسى الإنسان نهاية أجله فيظن أنه باقٍ في هذه الحياة الدنيا فيفرط في شهر رمضان هذا, ويفرط كذلك في شهر رمضان الآتي, يظن أنه سيعيش أبدًا, ونسى المسكين أن أجله عند الله مكتوب, وأنه إذا جاء أجله لا يستأخر ساعة ولا يستقدم, وكذلك لابد من تحطيم أصنام الهوى قال تعالى: أرأيت من اتخذ إلهه هواه, فالربا هوى, والغناء هوى, واللغو هوى, والغيبة هوى, فلابد من تحطيم هذه الأصنام, تقرب إلى الله عز وجل بأن تكسر قنينات الخمر, تقرب إلى الله بأن تكسر آلات اللهو والغناء, تقرب إلى الله تعالى بأن تحطم كل أصنام الهوى, فإن فعلت ذلك كنت من الحنفاء السالكين سبيل الأنبياء.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يحطم أصنام الهوى؛ فإنها عائقة عن التوبة.
كذلك لابد أن ننظر إلى شؤم الذنب, كيف ضيع علينا الأوقات؟ كيف ضيع علينا النفحات الطيبة؟ فصرفنا عن الصالحين, وقربنا من الطالحين؟ كيف أبعدنا عن قراءة القرآن وعن العلم والتعلم فلينظر الإنسان إلى شؤم المعصية, وعن إبعاده عن طاعة الله تعالى, ففي ذلك خير, وليغير الأصحاب, فإن عدم تغير الأصحاب عائق من عوائق التوبة, قال : ((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)).
وكذلك فليغير أماكن المعصية, كيف يرجى ممن تاب من مصاحبة النساء أن تقبل التوبة وهو يذهب إلى أماكن اختلاط النساء, كيف يرجى ممن يترك معصية من المعاصي وهو يصاحب أهل هذه المعصية أن يتقبل الله سبحانه وتعالى منه التوبة.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "من علامات اتهام التوبة جمود العين واستمرار الغفلة, وأن لا يستحدث العبد بعد التوبة عملاً صالحًا لم يكن قبل الخطيئة".
فإن عدم استحداث العمل الصالح يدل على أن هذه توبة الكذابين؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال: إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات, فعليك يا من أسأت في هذا الشهر المبارك أن تتوب إلى الله توبة نصوحًا.
أيها المسلم يا من بنيت حياتك على الاستقامة في هذا الشهر المبارك دم على ذلك في بقية حياتك ولا تهدم ما بنيت بعودك إلى المعاصي, يا من أعتقه مولاه من النار ـ نسأل الله أن نكون من أولئك ـ إياك أن تعود إليها بفعل المعاصي والأوزار, فتكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة …. يا من اعتاد حضور المساجد وعمارة بيوت الله بالطاعة وأداء صلاة الجمعة والجماعة واصل هذه الخطوة المباركة, ولا تقلل صلتك بالمساجد فتشارك المنافقين الذين قال الله عنهم: ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى, ولا تهجر المساجد وتنقطع نهائيًا فيختم الله على قلبك قال : ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)) رواه مسلم.
إلى من تعود القرآن في هذا الشهر: داوم على تلاوته ولا تقطع صلتك به فإنه حبل الله المتين, وهو روح من الله, وهو شفيعك عند ربك وحجتك يوم القيامة فلا تعرض عنه بعد رمضان فإنه لا غنى عنه بحال من الأحوال.
يا من كان يتصدق في هذا الشهر خصص من مالك كل يوم شيئًا تتصدق به على الفقراء, وعلى الأيتام فإن الله سبحانه وتعالى يرضى من عباده الصدقة.
وهكذا أخوتي في الإسلام انقضى شهر رمضان فإن عمل المؤمن لا ينقضي حتى الموت, قال سبحانه وتعالى: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين, وقال عيسى عليه السلام عن ربه: وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيًا, وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
ولقد شرع الله عز وجل في نهاية هذا الشهر المبارك عبادات لتعلموا أن الحياة الدنيا جعلها الله عز وجل ليبلونا أينا أحسن عملاً الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً, فما تنقضي عبادة إلا ويتبعها عبادة أخرى.
الله عز وجل شرع لنا في نهاية الشهر المبارك عبادات تزيدنا من الله قربة, فشرع لنا صدقة الفطر وهي فريضة شرعها الله عز وجل على الكبير والصغير, والذكر والأنثى, والحر والعبد, وهي زكاة البدن طهرة للصائم من اللهو والإثم, وشكر لله على إتمام الصيام والأعمال الصالحة.
هذا الشهر شهر إحسان للفقراء ويجب أن يخرجها المسلم عن نفسه وعمن تلزمه نفقته من زوجه وأولاده وسائر من ينفق عليهم, ولا يجب إخراجها عن الجنين الذي في البطن, ويخرجها في البلد الذي وفاه فيه تمام الشهر وهو فيه, ووقت إخراجها من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد, ويجوز تعجيلها قبل العيد بيوم أو يومين والمستحب إخراجها بعد صلاة الفجر يوم العيد وقبل صلاة العيد, ولا يجوز تأخيرها بعد العيد ولا يجوز البدل عنها, أي القيمة على الراجح من أقوال العلماء فإن النبي قال: ((صاع من طعام)), وإن الذهب والورق كانا يتداولان في عهده , ومع ذلك لم يشر إليهما عليه الصلاة والسلام.
وأما التحدث أن الناس في هذا الزمان يحتاجون إلى النقود ولا يحتاجون إلى الطعام فهي حجة واهية, وذلك لمشاهدة حال الفقراء واحتياجهم إلى الطعام, فهم يأخذون الطعام للإدخار ويأكلونه على مدار السنة ولكن الناس غافلون عن الفقراء والمساكين كذلك شرع الله لنا صلاة العيد والتكبير في السير إلى صلاة العيد حتى لا تغفل عنه سبحانه, وذلك منه فضل ومنَّة, فنسأل الله تعالى أن يتولانا برحمته وفضله إنه ولي ذلك والقادر عليه.
|