.

اليوم م الموافق ‏03/‏جمادى الثانية/‏1446هـ

 
 

 

التضحية والفداء

1552

العلم والدعوة والجهاد

القتال والجهاد

عبد الله عزام

بيشاور

سبع الليل

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- التضحيات وقود الدعوات. 2- صور من تضحية النبي . 3- صور من تضحية الكفار في سبيل مبادئهم. 4- صور من تضحية الحركات الإسلامية. 5- حديث عن جهاد الشعب الأفغاني. 6- دعوة للتجمع تحت شعار خدمة الجهاد وترك الخلافات وما تجر إليه من غيبة وفرقة. 7- دعوة للوحدة الإسلامية وذم التحزب والفرقة.

الخطبة الأولى

يا من رضيتم بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبياً ورسولا، اعلموا أن الله قد أنزل في محكم التنزيل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب [البقرة:214].

ثمن الدعوات باهظ بقول الحق العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، ثمن حمل المبادئ ونقلها من عالم الأفكار والنظريات إلى عالم التطبيق والواقعيات يحتاج إلى كثير من التضحيات، حتى يكون واقعياً حيا في عالم الأرض.

ثمن الدعوات:

لن تنتصر دعوة أبداً إلا بالتضحيات، أرضية كانت أم سماوية، بشرية كانت أم ربانية، الدماء، الأشلاء، الأجساد، الأرواح، الشهداء، هي وقود المعركة، وقود معركة المبادئ، وقود معركة الأفكار. فهذه الآية تنبيه إلى قضية هامة في هذا الميدان؛ أنه لا جنة لمن لم يرد أن يضحي ويقدم أم حسبتم؟! هل تظنون أنكم تدخلون الجنة قبل أن يمسّكم ما مسّ الذين من قبلكم، ثم يشير رب العزة إلى قضية هامة؛ أنكم لستم أعز من أحب خلقه إليه، لستم أحسن من صفوة عباده.

الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس [الحج:75].

وما دبّ على الثرى أحد أفضل من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كما قال الله عز وجل: مسّتهم البأساء الحرب والضراء الشدة والفقرة وغير ذلك وزلزلوا وانظر إلى النفس البشرية وإلى قلوبها عندما تزلزل، ترجف ارتجافاً شديداً كأنها أصابتها هزة أرضية لا تتمالك نفسها من السقوط وزلزلوا والزلزال جعل أصبر الخلق على الأرض، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول ويجأر إلى الله عز وجل متى نصر الله؟.

الصابر، المخبت، الخاشع، أمين الله على الأرض، الذي يتلقى الوحي من أمين السماء صباح مساء، ويثبّته القرآن آناء الليل وأطراف النهار، يزلزل – حتى يستبعد النصر – فيجأر إلى الله بدعواته، ويخلو إلى الله عز وجل بمناجاته يقول: متى نصر الله؟.

حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا [يوسف:110].

يصل الأمر إلى حافة اليأس برسل الله عز وجل، استيأسوا ولم يصلوا إلى اليأس لأنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون [يوسف:87].

وظنوا أنهم قد كُذبوا. أغلقت الأرض دونهم، وأقفرت الدنيا في وجوههم، ولم تعد الأرض تجود بواحد يدخل في دعواتهم، استيئسوا. حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى [يوسف:110-111].

تضحيته صلى الله عليه وسلم:

ليس القرآن للتسلية، ولا للتمتع في أوقات الفراغ، وإنما هو منهاج للدعاة على طريق هذا الدين وإلى يوم القيامة في اقتفاء أثر سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم سيد الخلق أجمعين ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر))، ومع ذلك؛ هو كما يقول – في الحديث الصحيح – ((لقد أوذيت في الله، وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة، وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال من الطعام))[1]. هذا الحديث حسن صحيح رواه الترمذي وأحمد وغيره.

وعندما جاءت قريش تساوم أبا طالب أن يكف ابن أخيه عن إذايتهم، وأرسل عقيلاً وراءه يذكره أن قومه راجعوه حتى يكف عن أذيتهم، يقول صلى الله عليه وسلم: ((والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بُعثت به من أن يشعل أحدهم من هذه الشمس شعلة من النار)).

وفي رواية أخرى – وإن كان فيها شيء من الضعف ((والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه))[2].

ليس تبليغ الدعوات بأمر سهل ورحلة ممتعة لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك [التوبة:42].

إنما هي طريق طويل شاق، كله أشواك، وكله تضحيات، وقد تخرج من هذه الدنيا ولا تنال ثمرة واحدة نتيجة عملك.

عبد الرحمن بن عوف يبكي:

وضع أمام عبد الرحمن بن عوف طعام طيب فبكى وقام، وقال: لقد خرج أصحابنا من الدنيا ولم يروا هذا، لقد كان مصعب بن عمير خير منا وما رأى مثل هذا.

ويقول أنس: (لقد قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أكل شاة مصلية أبداً)[3]- شاة مشوية (وما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتالين أبداً)، وتقول عائشة: (والله ما شبعنا التمر إلا بعد فتح خيبر)[4].

تظنون المبادئ لعبة أو لهوا أو متاعاً، يبلغها إنسان بخطبة منمقة مرصعة بالألفاظ الجميلة، أو يكتب كتاباً يطبع من المطابع ويودع في المكتبات، لم يكن هذا أبداً طريق أصحاب الدعوات!! إن الدعوات تحسب دائماً في حسابها أن الجيل الأول الذين يبلغون؛ هؤلاء يُكبّرون عليهم أربعاً في عداد الشهداء.

ومن كلمات سيد: "إن الجيل الأول كله إنما يذهب وقوداً للتبليغ، وزادا لإيصال الكلمات التي لا تحيا إلا بالقلوب وبالدماء.

إن كلماتنا ستبقى ميتة، عرائس من الشموع لا حراك فيها جامدة، حتى إذا متنا من أجلها انتفضت حية وعاشت بين الأحياء".

كل كلمة عاشت كانت قد اقتاتت قلب إنسان حي فعاشت بين الأحياء، والأحياء لا يتبنون الأموات، لا يقبلون إلا أحياء، والميت يدفن تحت الأرض وإن كان أعز أهل الأرض.

طريق الدعوات:

يا أيها الإخوة!!

طريق الدعوات محفوف بالمكاره، مليء بالمخاطر، سجون، وقتل، وتشريد، ونفي. فمن أراد أن حمل مبدأ أو يبلغ دعوة، فليضع في حسابه هذه، ومن أرادها نزهة ممتعة، وكلمة طيبة، ومهرجاناً حافلاً، وخطبة ناصعة في كلماتها، فليراجع سجل الرسل والدعاة من أتباعهم، منذ أن جاء هذا الدين، بل منذ أن بعث الرسل – صلوات الله وسلامه عليهم – وإلى يومنا هذا.

كم ضحى الشيوعيون – أنفسهم – من أجل أن يقوموا بثورتهم الحمراء؟ كم سُجن ونفي (لينين)، (ترتسكي)..؟

كم نحن الآن نعجب من الديمقراطية الغربية؟ كيف أن القانون الغربي يخضع له كل الناس أجمعون!!، وتستطيع أن تحاكم رئيس الجمهورية أمام المحكمة، وتحقه وتأخذ منه، والقانون والقاضي لا يخضع لأحد. وحسبك مثالاً (نكسون) رئيس أكبر دولة في الأرض، عندما أراد الحزب الآخر أن يرفع عليه دعوى؛ - أنه كان يتجسس عليهم أثناء الانتخابات قبل سنوات – استقال (نكسون) واختفى وراء مسرح التاريخ خوفاً من أن يقع تحت طائلة القانون.

أتظنون أن هذا جاء عبثاً؟ أتظنون أن هذا جاء مصادفة؟ لم يصلوا إليه إلا على دماء وجماجم المفكرين، لقد قتل ثلاثمائة ألف على يد محاكم التفتيش، أحرق منهم ثلاثون ألفاً أحياء، وهم يريدون أن يخرجوا الإنسان الغربي من قبضة الكنيسة الجبارة، ويحرروه من قيدها القوي المتين.

لقد قتل (برونو)، وسجن (كوبرنيكس)، وعذب (جاليلو) من أجل أنهم كانوا يصرحون بمبادئهم، وعندما وقف (برونو) أمام المحكمة الكنسية حكمت عليه بالقتل لأنه يقول بكروية الأرض، فبعد أن حكمت عليه المحكمة قال: (ALTHOW IT’S ROUND) (ومع ذلك فهي كروية)، وقتل.

لقد قاوم المفكرون ثلاثة قرون متتالية – مفكرو الغرب – (منتسكيو) وغيرهم (جون لوك) (جان جاك روسو) (جون ليل) العقد الاجتماعي، هؤلاء قدموا الكثير ليخرجوا أممهم من عبودية رجال الدين المخرفين، الذين كانوا يسوقون الناس إلى نارهم، وإلى جحيمهم بسوط الكنيسة القوي.

ومن هنا، وبسبب ما لاقوه من عنت وعناء في معركتهم مع الكنيسة وهم يحاولون أن يحرروا الإنسان الغربي، بسبب هذا أنكروا إله الكنيسة، ليسقطوا الكنيسة وإمبراطور الكنيسة الذي يسمى (البابا)!!.

أكبر ثورتين:

لم يكن ما تنعم به الشعوب الغربية الآن من الديمقراطية، لم يكن مصادفة، ولا نتاج يوم، إنما كان نتاج دماء أناس ضحوا، وفي سبيل ماذا؟! في سبيل أفكارهم، لا يطمعون في جنة، ولا يخافون من نار، بل لشدة ما عانوه كانت شعاراتهم يوم أن انتصروا في أكبر ثورتين في الغرب – وقد اتفق الغرب على أن أكبر ثورتين كانتا الثورة الفرنسية سنة ألف وسبعمائة وتسع وثمانين، والثورة البلشفية التي كانت سنة ألف وتسعمائة وسبعة عشر – كان شعار الثورة الفرنسية (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس) يعني: أنهُوا الأديان والملوك في الأرض، لأنهم خدروا الإنسان، وحطموا إنسانيته، فابقروا بطن آخر قسيس واشنقوا بها آخر ملك، وكان شعر الثورة البلشفية الهاربة من جحيم الكنيسة، ومن سلطة القياصرة "لا إله والحياة مادة"، لم يكونوا ينكرون وجود الله، لم يكن (دارون) ولا (ماركس) – كما اطلعت – ينكرون وجود الله، ولكنهم أنكروه من أجل أن يسقطوا الكنيسة التي تضرب بسوطه، هروباً من الكنيسة، هربوا من رب الكنيسة، فنشأ الإلحاد في الغرب، وانتشر في العالم.

أريد أن أقول لكم: لا يمكن لمبدأ أن ينتصر بدون تضحيات، وبدون دماء. إن الشيوعيين في العالم العربي، كان يحكم عليهم القاضي في أيامنا في (1954م) عندنا في الأردن، يقول له: حكمت عليك المحكمة خمسة وعشرين عاماً، فيقول: تحيا روسيا، ويحيا لينين، في داخل المحكمة، وهل تظنون أنكم تبقون بدولتكم الضعيفة عشر سنوات أو خمسة عشر عاما؟ هؤلاء أصحاب مبادئ لا يرجون الله، ولا يرجون من الله، ولا يعرفون الله، دنياهم وأخراهم هي دنياهم، هذه الأيام التي يعيشونها، ومع ذلك يضحون من أجل مبادئهم.

نماذج على طريق الدعوة:

لقد قامت الدعوة الإسلامية نماذج فدذة، وضحت على الطريق الكثير والكثير عبر التاريخ، وكانت دماؤهم شعلة للأجيال من بعدهم.

هؤلاء أناروا لنا شعلة لنحملها على طريق المبادئ والدعوات، كانت دماؤهم منارات للأجيال التي تريد أن تهتدي.

لقد حدثتني (حميدة قطب) قالت لي: في الثامن والعشرين من آب سنة ألف وتسعمائة وست وستين: ناداني مدير السجن الحربي (حمزة البسيوني)، وأطلعني على قرار الإعدام (لسيد) و(هواش) و(عبد الفتاح إسماعيل)، ثم قال لي: معنا فرصة أخيرة لإنقاذ الأستاذ؛ هي أن يعتذر فيخرج بعفو صحي، ويخفف عنه الإعدام، ويخرج بعد ستة أشهر بعفو صحي، وقتله خسارة للعالم أجمع، هيّا اذهبي وراوديه لعله يعتذر.

قالت: فذهبت إليه – هي تحدثني فماً لأذن – قلت له: إنهم يقولون إذا اعتذرت سيخففون حكم الإعدام، فقال: "عن أي شيء أعتذر يا حميدة، عن العمل مع رب العالمين؟! والله لو عملت مع جهة أخرى غير الله لاعتذرت، لكنني لن أعتذر عن العمل مع الله. واطمئني يا حميدة إن كان العمر قد انتهى سينفذ حكم الإعدام، وإن لم يكن العمر قد انتهى لن ينفذ حكم الإعدام، ولن يغني الاعتذار شيئاً في تقديم الأجل أو تأخيره".

أي نفوس هذه التي صنعها الإيمان!! أية قوة هذه!! وأي ثبات!! وحبل المشنقة يلوح أمام ناظريه، يطمئن الأحياء على قدر الله وبقدره.

يقول (البشير الإبراهيمي): كنت ذات مرة عند الملك فاروق، فسمعتهم يتهامسون حول قتل البنا، فذهبت إليه وقلت له: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين [القصص:20].

فقال: هذا أنت – يعني أهذا تفكيرك – أهذا أنت – ثلاثاً- إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً [الطلاق:3].

أي يوميّ من الموت أفر             يوم لا قـدر، أم يوم قـدر

يوم لا قـدر لا أرهبـه                 ومن المقدور لا ينجو الحذر

نماذج أفغانية:

ونحن الآن مع شعب قد قدّم نماذج من البطولة، ما لم تحوه صفحات تاريخ القرون الخمسة الأخيرة. إن التضحيات التي قدمها الشعب الأفغاني مجتمعة لا يوازيها جهاد وقتال الشعوب الإسلامية كلها في القرون الأخيرة.

ما رأيت صبراً يصبر على صبرهم، ما رأيت شعباً أعز من نفوسهم، ما رأيت شعباً مسلماً أبياً مؤمناً مثل هؤلاء، لا يطأطئون رؤوسهم إلا لرب الأرض والسماء، لا يملكون قوت يومهم، ويخطب ابنتهم عربيّ غني فيأنفون أن يزوجوا بناتهم خوفاً من أن يعيّروا أنهم زوجوا بناتهم في أيام الفقر للأغنياء. بيوتهم هدمت، نساؤهم رُملت.

امرأة – عجوز من قندهار – يحدثونني عنها في الأسبوع الماضي؛ أنها جاءت إلى المجاهدين وقالت: إن ابني يتآمر عليكم مع الدولة، وقد ذهب إلى قندهار ليدل على معاقلكم وأماكنكم، فالحقوا به وأمسكوه، فأمسكوا به، وجاءوا به ثم أرسلوا إلى أمه العجوز التي جُبل قلبها حناناً على فلذات أكبادها، فقالوا: هذا ابنك ماذا نصنع به؟ قالت: قيدوا رجليه ويديه، إيتوني بسكين حاد، فآتوها، آتوها سكيناً!! ثم قالت له: أتذكر يوم أن شتمت رسول الله أمامي، فها أنا أنتقم لرسول الله منك أيها الكافر، ثم ذبحته بيدها، لم أسمع، لم أسمع في التاريخ أن امرأة ذبحت ابنها من أجل مبدئها، لقد سمعنا عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم قتلوا آباءهم، لكننا لم نسمع أن امرأة قتلت ابنها بيدها، بل ذبحته بالسكين، لم أسمع بهذا إلا في أفغانستان.

وفي (وردك) في (ميدان) وقبل شهر يهجم الروس – أو في أيام عيد الأضحى – يهجم الروس هجوماً عنيفاً – والروس في هذه الأيام يشددون ضرباتهم – ويريدون أن ينتقموا من الأحياء، يبيدوا خضراءهم، ولا يبقوا شيخاً فانياً ولا امرأة. وقبل أيام جاءت ثلاثون امرأة من قرية من القرى الأفغانية لم يُبقِ الروس غير هذه النساء الثلاثين، لقد أبادوا جميع أهل القرية.

وفي قرية – في لوجر – ذبحوا ثلاثة وأربعين من الشيوخ والعلماء والنساء والأطفال، ثم سكبوا عليهم البترول، وأحرقوهم في أيام عيد الأضحى أو قبلها بقليل، فاختبأ شاب – غلام – في الثانية عشرة تحت السرير، ودخل الروس، وبدأوا يفتشون البيت، فعثروا على مصحف، فرماه الروسي بشدة إهانة للمصحف الشريف، وإذا بالطفل ينتفض من تحت السرير، ويخرج أمام الروسي ويحتضن المصحف بين يديه، قال له: هذا كتاب ربنا، وهذا عزنا، وشعارنا، قال: ألقه، قال: لو قطعتني إرباً إرباً والله ما أفلته من يدي، وأمام هذا الاحترام لهذا الدين يحترم الروسي هذا الغلام، ويذبح كل من في البيت ويترك هذا الغلام حياً.

نحن لا ننشغل إلا بالسلبيات، ولا نعدد إلا السيئات، أما المكارم والعظائم، أما هذه الأمور التي فاقت المعجزات فهي في طي النسيان.

في حدثينا اليومي لا نتحدث إلا عن خلافات بيشاور، ولا نتحدث إلا عن خلاف فلان وفلان، وفلان أخذ كذا، وفلان كذب في كذا، ادخلوا الساحة وانظروا ماذا يصنع المجاهدون؟ ثم بعد ذلك احكموا هل تستطيعون أن تعيشوا عيشهم شهراً واحداً؟ هل تستطيعون أن تحتملوا احتمالهم بضعة أو عشرة أيام؟ إنكم لا تستطيعون، كم من أسرة لم يبق فيها إلا طفل صغير، قتلت الأم، وقتل الأب، وذبحت الفتاة، وغاب كثير منهم تحت الردم والتراب من قصف الطائرات، هذه الأمور التي لا تُنقل للعالم الإسلامي، وإنما يُنقل خلاف اثنين أو ثلاثة يعيشون في بيشاور، وتترك هذه الصفحات المشرقات التي تصنع التاريخ من جديد، وتحول خط التاريخ البشري بالدماء وبالأرواح وبالأشلاء.

نقطة الالتقاء:

أنا أنصحكم، أنصحكم إن أردتم أن تساهموا بسهم بسيط في هذا الجهاد؛ الذي هو فرضٌ علينا أن نكون في داخله، فرض عين على كل مسلم في الأرض الآن أن يقف بجانب الأفغانيين، وفرض عين على كل مسلم في الأرض الآن أن يحمل السلاح ويقف أمام الجبابرة في الأرض، إن لم تحمله هنا فاحمله هناك، وإن لم تقاتل هنا فقاتل هناك، ولا عذر لأحد، كما قال أبو طلحة : (ما سمع الله عذراً لأحد).

أنصحكم إن أردتم أن تخدموا الجهاد:

أولاً: أن لا تنقلوا تمزقاتكم وخلافاتكم في العالم العربي إلى الساحة الأفغانية، كفاهم ما هم فيه من مصائب ومشاكل وخلافات، والأرض غير الأرض، والبيئة غير البيئة، وأظن أنكم بقلوبكم جميعاً تحبون أن تخدموا الجهاد الأفغاني، فلنرفع هذا الشعار، ولنلتقِ عليه جميعاً، شعارنا: "خدمة الجهاد". أما خلافياتنا البسيطة، خلاف في الفرعيات الفقهية، أو في طريقة العمل من هنا أو من هناك، هذه الأمور يجب أن تتناسوها في هذه الساحة التي تعملون فيها، نحرك  إصبعنا أو لا نحرك، نرفع أيدينا أو لا نرفع، نجهر بالتأمين أو لا نجهر، فلان من القيادة الإسلاميين طيب أو غير طيب، فلان من العالم العربي إمام أو فرد، دعوا هذا جانباً، دعوا هذا جانباً، وكفى الساحة ما فيها من آلام ومشكلات. ونلتقِ جميعاً، لنتعاون على ما اتفقنا عليه، وكلنا يتفق أنه جاء لخدمة الجهاد، لنتعاون على خدمة الجهاد، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، لا توسوسوا، ولا توصوصوا، ولا تومئوا، ولا تشيروا ولا تتهامسوا، ولا تتناجوا: إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا [المجادلة:10].

كل من وصل إلى هذه الساحة – إن لم يكن الكل فأكثر من تسعة أعشارهم – جاءوا بدافع طيب، وجاءوا يريدون الجهاد، وبعضهم ما جاء لأنه انقطعت به السبل، كانت الدنيا مفتوحة أمامه، وهو في بلده أو في بلاد المهجر مكرم معزز محترم، يعيش في وظيفته أو دراسته، ترك هذا كله وجاء يخدم الجهاد، هذا أضعه على رأسي وعيني وأتغاضى عن الهفوات.

وما جمع رسول الله هذه الجموع التي ضحت من أجل هذا الدين إلا بميزان الحسنات والسيئات، ((وما يدريك يا عمر إنه شهد بدراً، ولعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اصنعوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم))[5]، عمر بعد اكتشاف رسالة حاطب بن أبي بلتعة يهيج من مكانه صائحاً: دعني أضرب عنقه، فقد نافق، قال: ((وما يدريك إنه شهد بدراً))، لقد انتقى خير عمل لهذا الصحابي حتى يطفئ أوار الغضب في قلب عمر، وفي قلوب الصحابة، وفي رواية أبي داود: ((لا تذكروا لي أصحابي فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر))[6].

لقد تفرق الصحابة وكلٌ معه من السنة ما يختلف به عن الآخر، وكل يحمل رواية من روايات القرآن، وحرفاً من أحرفه، ومع ذلك كان الجميع يشتركون في اليرموك، وفي فتح هذه البلاد التي نحن على ساحتها، كلهم:- أصحاب حذيفة، وأهل الشام والأوزاعي، وأهل الكوفة والبصرة، كلهم بقراءاتهم المختلفة، وبأئمتهم المختلفين، وبما معهم من السنة. جيش واحد، وقيادة واحدة، التقوا على أن يقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا. لنرفع شعار "أننا جئنا لنخدم الجهاد"، كل منا بعد جلوسه في بيشاور أسبوعاً أو أسبوعين يصبح منظراً سياسياً، وعالماً اجتماعياً يحكم على هذا، ويخرج فتوى بهذا، وينبذ  هذا، ويحذر من هذا، ولم يطلق حتى الآن سهماً في سبيل الله، أو طلقة واحدة في سبيل الله عز وجل، ولا يدري أن هذا الذي يراه أمامه قد مضى عليه بضعة عشر عاماً على طريق الآلام والدموع والدمار.

لنلتقِ على شعار "نريد خدمة الجهاد"، ولنلتقِ على شعار آخر "ترك الخلافيات"، والتعاون على المبدأ الأساسي، وترك الفرعيات الفقهيات؛ فكلنا – بل إن لم يكن كلنا – فمعظمنا جاء لخدمة هذا الدين، وخرج مهاجراً إلى الله عز وجل: ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله  ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله.

حتى ولو لم تَمُتْ في المعركة، ما دمت خرجت للهجرة في سبيل الله، ومُتّ في بيشاور فأنت وقع أجرك على رب العالمين، فلتكن ميتتك وأنت تجاهد، لا وأنت تأكل لحوم البشر، إن لحوم الناس مسمومة كما يقول ابن عساكر: (إن لحوم العلماء والناس مسمومة، وعادة الله في هتك أستار من أكلَها معلومة، ومن أطلق لسانه على المسلمين بالثلب أصابه الله قبل الموت بموت القلب)، لا تلقَ اللهَ ولسانُك يقطر دماً مما امتصصت من دماء الناس، لا تلقَ اللهَ ولحوم إخوانك بين ثناياك، كما قال في رواية، جاء في الأثر: ((والله إني لأرى لحمه بين ثناياكما)) عندما قالوا إن هذا العبد نؤوم، قال: ((لقد ائتدمتما لحم صاحبكما، وإني والله أرى لحمه بين ثناياكما)).

إذن الشعار الأول: ترك الخلافيات، لا نريد أن ننقل تمزقاتنا من العالم العربي ونزيد تمزقات الساحة الأفغانية.

ثانياً: نلتقي على خدمة الجهاد، وكلٌ يشتغل في الميدان الذي هو فيه، وكلٌ ميسرٌ لما خلق له، وكما أنكم لا تحاسبون حكام بلادكم فليس حكام بلادنا أفضل من قادة الجهاد، كما أننا لا نحاسب أولئك لا نريد أن نفرض عليهم نظرياتنا وسياساتنا وغير ذلك.

النقطة الثالثة: نريد أن نعدد الحسنات، ونترك الولوغ في السيئات، نريد أن ننقل الإيجابيات التي تشرح الصدور وتبعث الأمل في القلوب، وما أكثرها، وما أكثر الإيجابيات، وما أقل السلبيات، فلا تشتغلوا بتعداد عيوب المسلمين ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يفضِ الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فمن تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته))[7]. إياكم أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً فيتبع عوراتكم، ويهتك استاركم، ويفضحكم ولو في جوف بيوتكم.

ثلاث نقاط نلتقي عليها، ونتعاون عليها:

الأولى: لنتناسَ تمزقاتنا وخلافياتنا في عالمنا العربي، ولندعها فوق تلك الساحة، وكفى الساحة ما فيها من مصائب وآلام.

النقطة الثانية: جئنا للتعاون على الجهاد، فلنتعاون على ما اتفقنا عليه – وهو الجهاد – وليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.

النقطة الثالثة: نشر الإيجابيات والحسنات، والسكوت عن العيوب والسيئات؛ لا تصدوا عن سبيل الله وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم.

((وإن الكلمة لتخرج من فم الرجل لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في النار))[8].

كم من شاب جاء متحمساً للجهاد ثم صده كلامكم عن سبيل الله؟! كم من الشباب وصلوا إلى هذه الأرض ثم رجعوا يائسين لكثرة ما زرعتم في قلوبهم من السيئات التي حفظتموها وجمعتموها ولا تنسون منها شيئاً؟! أنتم بفعلكم هذا، وظنكم أنكم تصلحون، تصدون عن سبيل الله وتضلون، وأنتم لا تعلمون، اشتغلوا بما ينفعكم ((وإذا أراد الله بقوم خيراً ألهمهم العمل))، ((وما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل))[9].

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.


 



[1] أنظر صحيح الجامع الصغير 1525.

[2] الرواية الأولى حسنها الألباني وهي شاهد للرواية الثانية.

[3] أخرجه البخاري في صحيحه.

[4] رواه مسلم.

[5] قطعة من حديث صحيح رواه البخاري.

[6] رواه أبو داود والحديث يضعف (راجع الأحاديث الضعيفة للألباني).

[7] صحيح الجامع الصغير 7984 بلفظ (يدخل الإيمان قلبه).

[8] جزء من حديث رواه البخاري لكن بلفظ (إن العبد ليتكلم بالكلمة..).

[9] صحيح الجامع الصغير 5633.

الخطبة الثانية

الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه: قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً [الكهف:103-104].

نرجو الله عز وجل أن لا نكون من هؤلاء الذي ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

لكم كل حلوة؟

كثير من الشباب المتحمس يثير قضية الخلافات، وأنه لابد من الاتحاد، وهو قادم من العالم العربي، ونسي ما يجري في ساحته؛ حتى في الساحة الإسلامية، حتى في ساحة الدعوات الإسلامية، حتى في ساحة العمل الإسلامي.

يريد من مئات القبائل في أفغانستان! ومن نصف مليون يحملون السلاح أن يتوحدوا تحت قائد واحد! وكل الأيدي العالمية تعبث، وكلها تريد أن تمزق، وتريد أن تسقط الراية! وتوقف هذا السيل الذي لو وصل إليهم لأغرق من أغرق، وطهر من طهر، ينسون ساحاتهم العربية الإسلامية؛ في بقعة من الأرض قد لا يكون فيها مائة داعية تجد أكثر من عشرين طريقة للعمل الإسلامي، كل أناس يتبعون إمامهم، كل خمسة يتجمعون حول شيخ ويصبح شيخ طريقة، وقائد دعوة، وإمام هداية، هؤلاء من جماعة فلان، وهذا من جماعة فلان، وجماعة فلان عيوبهم كذا.

وفي المسجد الواحد كم تثور الخلافات بين أتباع فلان وأتباع فلان وجماعة فلان وحزب فلان، ينسون هذا ويريدون بكلمة واحدة؛ أن يوحدوا شعباً مختلف الطباع، مختلف العادات، قبائل شتى، وتقاليد مختلفة، يريدهم أن يتجمعوا، وأين؟ في أرض المهجر حيث مُزقت الأنساب، وضاع الائتلاف، والناس يبحثون عن لقمة طعام يسدون بها رمقهم، كما قال حذيفة بن اليمان عندما سئل عن قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرين فأولئك هم الظالمون، فأولئك هم الفاسقون [المائدة:44-45-47].

قال: هي فينا، قالوا: هي في أهل الكتاب، إن الآيات تتكلم عن أهل الكتاب، قال: لكم كل حلوة، ولهم كل مرة؟! لكم كل حلوة أنتم إن لم تحكموا بالكتاب فلن تكفروا، أما اليهود والنصارى فهم كفار لأنهم لا يحكمون بالكتاب! ونحن لنا كل حلوة وللأفغان كل مرة!.

ويرى كما في الحديث الصحيح: ((يرى أحدكم القذى الصغير في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه))[1]، جذع شجرة في عينه – هو لا يتكلم عنه – عيوب تسد الشرق والغرب، وتُنجّس البحر، كلها تلفها بين جنبيك، أنت ساكت عنها، وتتبع صغائر الناس وسقطاتهم ولممهم.

إذا شئت أن تحيا سليمـاً من الأذى   وحظك موفورٌ وعرضك صيّنُ

لسـانك لا تذكـر بـه عورة امرئٍ         فكلـك عـورات وللناس ألسن

وعينـُك إن أبـدت إليـك معايبـاً        لقوم فقل يا عيـن للنـاس أعين

فصاحب بمعروف وسامح من اعتدى  وفارق ولكن بالتي هي أحسـن

 



[1] رواه في صحيح الجامع الصغير بلفظ (يبصر أحدكم القـذي في عين أخيه وينسى الجذع في عينه) رقم 8013.

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً