.

اليوم م الموافق ‏04/‏ربيع الأول/‏1446هـ

 
 

 

تفسير سورة العلق 2

1516

العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير, قضايا دعوية

محمود بن عمر مشوح

الميادين

8/8/1395

أبو بكر الصديق

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- الطغيان يصد الناس عن حقيقة الدين. 2- الرجعى يوم القيامة والحساب. 3- أبو جهل ينهى الرسول عن الصلاة ويؤذيه. 4- تساوي البشر في العبودية لله. 5- ما جاء في القرآن من تهديد لأبي جهل. 6- المؤمن يخوض معاركه بقوة الله القوي. 7- قوة الله يوم بدر. 8- حال المسلمين وذلتهم على كثرة عددهم وقلة عدوهم. 9- اقتراب النصر لا يكون إلا مع عبودية الله وكثرة السجود بين يديه.

الخطبة الأولى

أما بعد:

قال الله جل وعلا: إن إلى ربك الرجعى, هذه الآية جاءت بعد إشارة بليغة عما يصد الناس عادة عن الهدى, ويردهم عن سبيل التقوى, كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى, الإنسان يتجاوز حده وينسى مقداره ويظن في نفسه غير الحق حين يشعر بنازع الاستغناء عن أية معونة خارج ذاته تسنده وتعينه وتسدده, ونسيان الإنسان لقدره مصيبة من المصائب الكبيرة, فلقد كان الشاعر يقول:

وإذا النفوس تجاوزت أقدارها         حد البعوض تغيرت سجراؤها

لمجرد أن يجاوز الإنسان قدره, ولو جناح بعوضة تتغير السجراء يعني تتغير الطبيعة, فالإنسان الذي يطغى ويبغي ما هو حصيلة ذلك؟ شعوره بأنه غير صائر إلى يوم يحاسب فيه عما قدمت يداه, لو أن الإنسان علم أن بعد هذه الدار دارًا يقف فيها الإنسان بين يدي حكم عدل وبين يديه كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها, وأنه مسؤول ومشدد عليه في المسألة لبقيت حقيقة البشرية ماثلة أمام عينيه, فالآية: إن إلى ربك الرجعى مجرد تذكر لهذه الحقيقة الضخمة التي يراها الإنسان دائمًا وأبدًا, حين يودع الأب والأخ والولد والصديق والقريب والبعيد, يودعهم إلى دار لا عودة منها إلى هذه الدنيا, ولكن الإنسان ربما يشعر وهو يسير خلف جنازة بهذا الشعور الذي يستولي على الإنسان في أوقات الشدائد شعور النقلة والرحلة من هذه الدار, لكنه ينسى هذا لمجرد أن يهال التراب على الميت, كلا إن إلى ربك الرجعى, مهما طال الأمد فالموقف غدًا بين يدي الله تبارك وتعالى واعتقاد بعض الناس من الملاحدة والكفار أنه لا مرجع ولا مآل ولا آخرة ولا قيامة ولا حشر ولا نشر ولا حساب لوثة تصيب العقل الإنساني فتخرجه عن حد السلامة والاستقامة, لكن الإنسان الذي يستقيم طبعه يدرك دون ريب من مجرى الحوادث الدنيوية, من سياق الأحداث اليومية أن بعد هذه الدار دارًا, وعنك من كل هذا, وخذ المسألة مسألة حساب:

قال المنجم والطبيب كلاهما لا              تحشـر الأجسـاد قلـت إليكما

إن صح قولكما فلـست بنـادم         أو صـح قولي فالخسار عليكما

 

 احسب المسألة حسبة مادية, إن قلت ليس بعد هذه الدار دارًا ثم كان بعد ذلك دار, وكان حساب, وكان ثواب وعقاب فمن الخاسر؟ ويحك ألست أنت الذي أنكرت بغير سند من حجة ولا برهان, وبغير سند من قضية العقل السليم, وإن قلتُ بعد هذه الدار دار, وثمة حساب وثواب وعقاب ثم لم يكن شيء بعد ذلك, فأية خسارة تكون عليك, الأمر لديك سواء مخرج القضية عند الشاعر مخرج الطرفة والنكتة, لكن دلالتها عميقة, هذه الآية تنزلت على رسول الله ليخاطب بها قومًا ضل معظهم عن هذه الدار, وطغت أكثريتهم الساحقة وتجاوزت أقدارها فقال لهم بهذا الجزم والحسم والقطع إن إلى ربك الرجعى, صيغة إخبار مؤكد غاية التأكيد؛ لأنها قضية لا تحتمل نقاشًا ولا أخذًا ولا ردًا, ثم قال الله جل وعلا بعد ذلك أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى.

تلاحظون أن هذه الآيات صياغتها معجزة في البساطة, أرأيت الذي ينهى يخبر الله جل وعلا عن واقعة, روت بعض كتب الحديث وكتب السيرة اجمالاً أن أبا جهل ـ فرعون هذه الأمة لعنه الله ـ لقي النبي ذات يوم وهو يصلي فانتهره ونهاه عن الصلاة فأغلظ له النبي في المقال, فقال أبو جهل للنبي عليه السلام: يا محمد, لم تتوعدني وأنا أكثر أهل هذا الوادي ناديًا, فأنزل الله جل وعلا هؤلاء الآيات, هؤلاء الآيات معانيها عميقة بالرغم من بساطة التعبير, ولبساطة التعبير تشترك حتى الصياغة, حتى أسلوب الأداء يشترك في تأدية المعنى المراد لاحظوا, افتحوا أذهانكم واقرؤوا أرأيت الذين ينهى هنا انتهت الآية وجاءت الآية الأخرى عبدًا إذا صلى, ماذا نستنتج من قطع الكلام بقوله ينهى, انتهى الكلام عند ينهى, انتهت الآية هنا, ثم جاءت الآية الأخرى عبدًا إذا صلى لاحظوا أننا ندرك جميعًا حينما نقول نهى فلان فلانًا عن أي شيء يكون النهي, النهي يكون عادة عن الفعل المنكر والقبيح, أما عن المعروف من الأفعال, عن الخير, عن البر, عن التقوى, ففي العادة لا يكون ثمة نهي, وقفت الآية عند قوله "ينهى" ليأخذ الفكر استراحة, يسحب فيها النفس ثم يهجم بعد ذلك, ما هو هذا الشيء المنهي عنه, ينهى عبدًا إذا صلى يا سبحان الله! هل إذا قام انسانٌ ببر وبمعروف وخير يستحق أن ينهى وأن يقرع وأن يرد, لا ما هكذا عهد البشر ولا هكذا يتصرف العقلاء, فصياغة الآية بهذا الشكل ماذا أدت؟ أدت تشنيع الصورة وتغليظ الأمر الذي قام به أبو جهل, ويقوم به من هم على شاكلة أبي جهل, حين يكون ثمة نهي, فمن المعقول أن يكون النهي عن المنكر وعن القبيح, أما عن الطيب من الأفعال, وعن البر والتقوى, فالنهي هنا شيء يدعو إلى الدهشة, ويدعو إلى الاستغراب, بل يدعو إلى الإنكار أيضًا, الصياغة تؤدي معنى آخر, الله جل وعلا يقول: أرأيت الذين ينهى عبدًا, لماذا لم يقل ينهى رسولاً أو ينهى محمدًا, ثمة لطيفة, هذه اللطيفة هي أن الناهي عبد والمنهي عبد وفكرة الإسلام الأساسية تحرير الإرادة الإنسانية؛ بحيث يشعر كل مخلوق من بني البشر أنه مساو لكل مخلوق من بني البشر لا سادة ولا عبيد, ومن هنا حسرت الأوامر والنواهي, بالآمر الناهي وهو الله جل وعلا, والعبد مهما يكن شأنه, ومهما يعلو مقامه, فليس له أن يأمر وليس له أن ينهى, إلا أن يكون أمره ونهيه تبعًا لأمر الله جل وعلا, ونهيه حتى النبي عليه الصلاة والسلام إنما يطاع لأن الله جل وعلا أمر بطاعة رسوله , فالطاعة ليست لشخص النبي , ولكنها امتثال لأمر الله جل وعلا, وإلا ففي الحقيقة أن العباد كلهم متساوون, والنبي يقول: ((أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة)), ومن مقتضيات الاخوة بين العباد عدم استعلاء بعضهم على بعض, لماذا يفعل الإسلام هذا, ويأتي بقضية يطرحها في المجتمع الإنساني, قبل ألف وأربعمائه سنة يوم كانت الدنيا تعرف الآلهة من الفراعين, وتعرف السادة من المتحكمين في رقاب العباد, وتعرف وتعرف من التفرقات التي ما أنزل الله بها من سلطان قال ذلك ربنا, وجاءت هذه القضية لهذا الحسم, وبهذا التشديد لكي يبقى الناس شاعرين بمعاني الاخوة والمساواة فيما بينهم؛ لأن الاخوة والمساواة هما الدعامة التي لا سبيل إلى انهاض أية دعوة وأية رسالة بدونها تصوروا مجتمعًا ينقسم إلى فئات, وينقسم إلى طوائف وينقسم إلى طبقات, وينقسم إلى سادة وعبيد, هل يمكن أن تشيع الاخوة والمحبة والتضامن بين أفراد هذا المجتمع؟ لا.

إن هذا المجتمع بالصورة التي قلنا عنها الآن مجتمع متعادٍ, متنافر, متخالف, يفتقر إلى أقل المقومات التي ترشحه لأداء رسالة كبرى في هذا الوجود, الإسلام حريص على أن يشعر الجميع أن لهم ربًا واحدًا, وأنهم تحت هذه الربوبية عبيد يتكافئون لا ريب, أما حين تنتكس الأحوال, ويتعبد الناس بعضهم بعضًا, فثمة شذوذ ينبغي أن يصحح في الحال.

الإسلام في الحقيقة حريص على هذه الناحية, غاية الحرص حتى الرسول بما له من جلال وكمال وبما يحتل في قلوب المسلمين من منزلة, لم يكن يسمح لأحد من أصحابه أن يذيب شخصيته في شخصيته مع بعد الفارق بين المستويين, تصوروا إنسانًا مثل محمد بمكانه من الله, ومكانه من عباد الله, يرفض أن يسير أحد خلفه, كان يفضل أن يسير بين أصحابه, ويفضل أن يسير في الساقة خلف الأصحاب, هو في مقام يرفض أن يقوم له أحد من الناس ويقول: ((من أحب أن يمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار)), كان يحرص على تنمية الشخصية الإنسانية لأن الشخصية الإنسانية النامية هي عماد الحركة الإسلامية لا غير, أما الإمعات والتافهون والأذناب فهم عبء على الإنسانية وعبء على هذا الإسلام, لاحظوا مدى الحرص, شهد الفضل بن الربيع وزير الخليفة هارون الرشيد في عز الأمة فعاتبه الخليفة هارون الرشيد قال له يا أبا يوسف لم رددت شهادة الوزير؟, قال: يا أمير المؤمنين, سمعته يقول لك: أنا عبدك, فإن كان صادقًا في هذا الكلام فلا شهادة للعبد, وإن كان كاذبًا فلا شهادة للكاذب, ورد شهادة الوزير.

هذا التصرف مبني على ماذا؟ مبني على حرص أبي يوسف ومن على شاكلة أبي يوسف بالحفاظ على معالم الشخصية الإنسانية أن لا تزول, هنا حينما نقرأ أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى يعظم الله جل وعلا من شأن هذه الواقعة, كيف يجيز عبد لنفسه أن ينهى عبدًا مثله, أليس في هذا اعتداء على اختصاصات الرب جل وعلا, الله فقط هو الذي يأمر, وهو الذي ينهى, أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى يكون هذا الخطاب حينما يفرض إلى أبي جهل صاحب الواقعة ويكون تأويل الكلام: أرأيت أيها الكافر وأنت تنهى هذا العبد عن طاعة الله أرأيت إن كان هذا العبد على هدى وعلى تقوى, أرأيت لو كان هذا العبد يأمر بطاعة الله والصلاح والإصلاح, أنت بعدُ مصرٌ على أن تظل تنهاه, هنا تعظيم المسألة, وفيها أيضًا لفت نظر إلى أن الإنسان حين يأمر وينهى عليه أن يتذكر شيئًا شديد اللصوق بإنسانيته حينما ننهى عن الشيء لمجرد أن نريد ذلك دون أن نفقه ودون أن نتبين ودون أن نعرف فذلك عدوان, أنا لا أستطيع أن أتهجم عليك وأنهاك دون أن أعرف الأمور على حقيقتها, فأبو جهل يهجم على النبي بالنهي عن العبادة, وعن البر والتقوى دون أن يعرف حقيقة الدعوى التي يدعو إليها هذا النبي الكريم, فكف نفسك وانظر في جملة ما جاء به رسول الله , إن رأيت منكرًا فانهاه عنه, وإن رأيت معروفًا فخذ به, ويحك فذلك هو كمال الإنسانية من هذا الباب, تهجم كثير من الصعاليك والذين لا يعقلون والجهلة والسخفاء والمغرورون على هذا الإسلام دون أن يقرؤوه, دون أن يعرفوه, دون أن يكلفوا أنفسهم, مشقة النظر فيه, نحن نسمع من أبنائنا الذين تربوا في حجورنا والذين يحملون أسماء إسلامية عداءً مريرًا لهذه الإسلام وصدًا عنيفًا عن سبيل هذا الدين, ولو سألت أحدهم هل يحسن أن يقيم الصلاة لوقف حائرًا مبهوتًا, ويحك انظر في هذا الدين, تعرف على مناهجه, تعرف على شرائعه فإن رأيت أمرًا منكرًا فانهى عنه, وإلا فما شأنك؟ ألست بهذا تحطم إنسانيتك وتسيئ إلى معنى البشرية فيك أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى.

الله الذي خلق هذا الخلق ناظر ومطلع على طاعة الطائع ومعصية العاصي, وأمر الآمر بالمعروف, وأمر الآمر بالشر والمنكر, مطلع على كل هذا ومحصيه, وسوف يجازى كل إنسان وفقًا لناموس العدل الذي لا يحيد عنه شعرة ثم يقول الله جل وعلا: كلا لئن لم ينته ـ يعني أبو جهل عن عناده واستكباره ـ لنسفعًا بالناصية,الناصية مقدم شعر الرأس, وكلمة سفع في لغة العرب تدل على معنيين, تدل على اللفح البسيط بالنار الذي يترك شيئًا من السواد, كما تدل على الجذب والشد بقوة, وكلا المعنين مراد في هذه الآية, كلا لئن لم ينته, كلا لئن لم ينته أبو جهل عن مراغمته للنبي عليه السلام لنجرنه من ناصيته, والجر من الناصية يرمز إلى منتهى الإذلال؛ لأن أعلى ما في الإنسان ناصيته, فحين يجر من أعلاه ليمرغ بالتراب يذل غاية الإذلال فإن كان الأمر أمر جرٍ وجذب وتمريغ بالتراب فقد ذاق أبو جهل ذلك في بدر حينما جندل بسيوف المؤمنين وسحب برجله وألقي في القليب, قليب بدر, وإن كان المراد بالسفع بالنار فذلك ملاقيه لا محالة؛ لأن أبا جهل وأمثاله مصيرهم إلى النار, كلا لئن لم ينته عن عتوه واستكباره لنسفعًا بالناصية ناصية كاذبة فيما تقول وتدعي, خاطئة فيما تأتي من العمل.

هنا عندنا فرق بين قول القائل خاطئ ومخطئ, المخطىء لا عقاب عليه, قال عليه الصلاة والسلام: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)) ولكن الخاطئ يقال للذي يتعمد الخطيئة وهو مسؤول ومحاسب عن عمله ومن هنا جاء البناء في الآية ناصية كاذبة خاطئة أي أنها خاضت الباطل خوضًا, ووصلت إلى هذا الخطأ الذي ستحاسب عليه وتعذب من جرائه.

كلا لئن لم ينته لنسفعًا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه, قلنا لكم قبل قليل: إن أبا جهل قال لرسول الله : بم تهددني يا محمد, وأنا أكثر أهل هذا الوادي ناديًا فليدع ناديه سندع الزبانية النادي هو منتدى القوم, المكان الذي يجتمعون فيه, ولا يسمى المكان ناديًا إلا إذا كان القوم مجتمعين فيه, أما إذا كان خاليًا من البشر فلا يسمى ناديًا فالنادي هو مجتمع القوم.

كلا لا تطعه واسجد واقترب سنقول كلمتين حول هؤلاء الآيات, الله جل وعلا يحرض أبا جهل, فليدع ناديه سندع الزبانية هذا تهديد لأبي جهل لكن بالنسبة لنا نحن المسلمين ماذا يعني؟ يعني أمرًا في غاية الخطورة, يعني أن علينا نحن معاشر المسلمين أن لا ننسى لحظة واحدة أن المعارك التي نخوضها مع أعداء الله لا نخوضها بجهدنا وحولنا وقوتنا, هنالك الله, هنالك قوة الله التي لا تغالب, والتي رمز الله إليها هنا في كلمة الزبانية, وهم الملائكة الغلاظ الشداد الذين يدعُّون المشركين دعًا عنيفًا إلى نار جهنم, حينما نتصور أنا نلقى أعداء الله بالجهد البشري وحده نلغي تجربة الإسلام بالكامل, ماذا كان قوام جيش المسلمين في بدر, ثلاث مئة, كم كان عدد المشركين؟ ألف أو يزيد, ماذا كان سلاح المسلمين في بدر؟ سيوف ملفوفة بالخرق, ماذا كان ركوبهم؟ فرسان؟ كانوا حفاة, وكانوا عراة, وكانت أجسامهم فرائس لسوء التغذية, كان تسلحهم أهزل ما يتصور الإنسان, ولقوا جيشًا معدًا, مدربًا سمينًا دهنيًا, ومع ذلك لم تدم المعركة إلا ضحوة من نهار, فإذا المشركون يعطون أقفيتهم للمسلمين, وإذا المسلمون يقتلون المشركين كيف يشاؤون بقوة, بقوة الساعد أم بقوة السيف الملفوف بالخرق؟ لا, بقوة الله العلي القدير, الله جل وعلا حين عرف منك أيها المسلم استقامة مطلقة على الطريق وصدقًا كاملاً للرغبة فيما عنده والتوجه إليه فأنت تضرب بيد الله وتمشي برجل الله, والله جل وعلا يقول: وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى, النبي ـ ليقل من قال إنها خرافة ـ حين اشتد القتال في بدر حمل كفًا من الحصى واستقبل به المشركين وحصبهم في وجوهم وقالت: ((شاهت الوجوه)) فما بقيت عين مشرك إلا ودخل فيها من هذا التراب.

الله جل وعلا أنزل رعبه على المشركين, وأمر ملائكته بتثبيت المؤمنين, وكان ما كان من نصر مؤزر, كل معارك الإسلام كانت بهذا الشكل اقرأوا إن شئتم فتوح العراق تجدون أن جيش المسلمين كان يساوي واحدًا إلى عشرة بالنسبة إلى جيوش الكافرين, ثلاثون ألفًا, أو سبع وعشرون ألفًا فقط هم الذين دوخوا العراق, ودخوا فارس, وشردوا كسرى, وأنهوا كل هذه الخرافة وحققوا قول النبي : ((إن مات كسرى فلا كسرى بعده)) بأي وقوة كان ذلك؟ بقوتهم؟ لا, ولهذا كان عمر رضي الله عنه يكتب دائمًا إلى قادة الجيوش كلامًا يردده باستمرار يحذرهم فيها من الذنوب ويأمرهم بالطاعة, ويقول لهم ـ بصريح العبارة ـ: "إننا لا نقاتل الناس بقوتنا نحن, ولكنا نقاتل الناس بهذا الدين, فمهما استمسكنا بعرى هذه الدين أعزنا الله, وإذا نحن تخلينا عن هذا الدين أذلنا الله".

أقول هذا الكلام وأنا أشعر بحلقي بغصة, وأشعر أن قلبي يكاد يعتصر بين جنبي, أقول هذا الكلام وبين عيني أمتي وقومي وعشيرتي تعد ثمانمائة مليون من المسلمين, تدمرهم وتحطهم شراذم اليهود, فلا يجدون مفرًا في هذه الأيام الصعاب, أيام الذل, وأيام الخضوع إلا أن يدعوا إلى السلام, أي سلام يا مجرمون, سلام يقوم بينا وبين اليهود! كيف يكون ذلك؟ كيف يستقيم أن يجتمع الماء والنار؟! أيها المنكح الثريا سهيلاً ويحك كيف يلتقيان؟ هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقل بيماني.

أي سلام, أي سلام يكون بيننا وبين هؤلاء القوم وقد انتهكوا المحرمات وداسوا المقدسات ودمروا مساجد المسلمين ولم يخفوا في يوم من الأيام أجماعهم أمن أجل أن تحفظوا مراكزكم؟ أمن أجل أن تبقوا على كراسي مهتز مهترئ قد نخرها دود العفن, تفعلون هذا يا مسلمون؟ لا, أمن قلة؟ لا والله اليهود مليونان ونصف مليون, وأنتم ثمانمائة مليون, ولكنكم فشلتم وتنازعتم وغرتكم الأماني, وضللتم الطريق, كنتم ذات يوم تريدون من الشرق أن ينصركم على إسرائيل, وكنتم قبلها تطرقون أبواب الغرب, وتبين لكم أن السم الزعاف في الشرق والغرب على حد سواء, وقلتم نحن عرب, والقضية عربية, وتذرعتم بعالم عربي مستطيل مستعرض يعد اليوم مئة وأربعين مليونًا من البشر, فذهبت الخلافات بكل هذه القوة ولكنكم لو أدركتم لقلتم ولعلمتم أن قضية العدوان على ديارنا قضية الإسلام, وقضية المسلمين, وأن المعركة فيها ينبغي أن تخاض تحت راية الله, وأن أية راية أخرى فستقود إلى الدمار وستقود إلى الهزيمة, ومن يعش يرى.

ثم يقول الله جل وعلا: كلا لا تطعه واسجد واقترب, هذا الخطاب لمن؟ لمحمد حينما تكون داعيًا إلى الإسلام وتجد في وجهك الصد والعناد والحرب والشراسة في العدوان فماذا تفعل؟ هل تستخذى؟ هل تذل؟ هل تحاول أن تجد لقاءً بينك وبين أعداء الله؟ هل تمد الجسور بينك وبين هؤلاء الخصوم؟ لا, هنا قضية قاطعة كلا يعني ما ينبغي لك يا محمد أن تطيع أبا جهل, ومن على شاكلته, ولكن اسجد واقترب, اثبت في المواقع التي وضعك الله فيها, أدم طاعة الله, نفذ ما طلبه الله منك, تقترب من الله وتقترب من نصره.

في قوله جل وعلا: اسجد واقترب دلالتان الأولى هذه الدلالة التي قلناها قبل قليل, وهي أن الخطة المثلى للنصر الكامل على أعداء الله هي المزيد من التمسك بأوامر الله جل وعلا وعدم المهادنة مع أعداء الله تبارك وتعالى.

والدلالة الأخرى: أن وسيلة القرب من الله جل وعلا هي إدامة الصلاة وإطالة السجود بين يدي المولى جل وعلا.

جاء أحد الأصحاب إلى النبي ذات يوم فقال يا رسول الله, ادعو الله أن يجعلني رفيقك في الجنة, تعجب النبي رفيق الرسول عليه السلام يا رجل, أين أنت وأين هذه المنزلة؟ قال له النبي : ((أوَ غير ذلك)) يعني هل تريد أن أدعو لك بغير هذه الدعوة قال: لا شيء غير ذلك, ادعو الله أن يجعلني رفيقك في الجنة قال له لابد؟ قال: لابد قال: (( أعني على نفسك بكثرة السجود)) المنزلة عالية, منزلة النبيين والمرسلين منزلة خير البشر محمد , رجل من الأصحاب يطلب نفس المنزلة أن يكون رفيق الرسول عليه السلام في هذه المنزلة ما هي الوسيلة؟ كثرة التقرب إلى الله تبارك وتعالى بإدامة السجود, هذه الدلالة عسى أن تنفعنا جميعًا في إكثارنا من الصلوات والعبادات لاسيما أيها الأخوة وقد أظلتنا شهور مباركة نحن الآن في شعبان وعما قليل يأتي رمضان, مواسم رحمة وخير وبركة, الشقي فيها والمحروم من حرم الخير في هذه الأيام.

الخطبة الثانية

لم ترد.

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً