اللهم إنا نسألك العافية في ديننا ودنيانا وأهلينا وأموالنا, اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا, اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا, ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا, اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض رب كل شيء ومليكه لا إله إلا أنت نعوذ بك من شر أنفسنا ونعوذ بك من شر الشيطان وشركه أما بعد:
تحدثنا في الخطبة الماضية عن العفة والاستعفاف وذكرنا فضلهما وما ذكر الله عز وجل فيهما من الآيات في كتابه الكريم وما ذكر النبي من الأحاديث الشريفة في الاستعفاف والعفة, ونتكلم في هذه الخطبة عن النماذج الرائعة التي وجدت في القرآن أو في سيرة سلفنا الصلاح والذين تمثلت فيهم العفة واقترن بهم الاستعفاف.
أولى هذه النماذج: نموذج رائع في القرآن الكريم عن شاب امتلأ شبابًا وفتوة ويعمل خادمًا لعزيز مصر, هذا الشاب غلقت الأبواب دونه وجاءت امرأة جميلة ذات منصب تغريه وتطلب منه أن يقع في الفاحشة, هذا النموذج مُسطّر في سورة يوسف, يقول الله عز وجل: وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك ـ وعلى قراءة قالت هئت لك, أي تهيأت لك ـ قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين هذا النموذج الرائع يضربه الله تعالى لنا حتى نتعظ ونعتبر وحتى يعلم الناس أجمعين أن العفة لا تكون هكذا بمجرد الخاطرة وإنما لابد لها من همة وإرادة, هذه القصة التي يضربها الله عز وجل في سورة يوسف نقف فيها وقفات:
الوقفة الأولى: أن الاستعانة بالله واللجوء إليه والاستعاذة به والفرار إليه هو من أقوى الأسباب التي تنال بها العفة؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدًا ولكن الله يزكي من يشاء من الذي يحفظك من الفتنة؟ من الذي يحفظك من الزنا؟ من الذي يغض بصرك حقٌا؟ من الذي يجعلك تغض بصرك؟ هو الله عز وجل رب العالمين, ولذلك فلا يغتر إنسان بنفسه, لا يغتر إنسان بثقته بل ينبغي عليه أن يتهم نفسه دومًا بقلة الهمة وبضعف الإرادة وأن يستعين بالله عز وجل لكي يصرفه عن السوء والفحشاء.
فهذا النبي الكريم يوسف عليه السلام لما طلبت منه امرأة العزيز وهمت به وهم بها إلتجأ إلى من؟ ما قال: قال معاذ الله أي استعيذ بالله منكِ ومن شرك, قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون.
وربي هنا إما هو العزيز الذي أحسن إليه, وإما هو الله عز وجل وهذا هو الراجح؛ لأنه قال: معاذ الله فذكر نعمة الله عليه بعده فقال: إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون.
والوقفة الثانية: عدم الاغترار بالنفس والركون إليها وأن الإنسان لا يعتمد على الثقة الزائدة بها, لما جاءت النسوة إلى امرأة العزيز ولُمنها على فعلتها قالت: ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين ماذا فعل يوسف عليه السلام؟ التجأ إلى الله رب العالمين قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه أن أسجن وأن أحبس أن تقيد حريتي هذا أحب إلي من أن أقع في الفاحشة رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين إذا لم تصرف ربي أنت عني كيدهن سأصغي إليهن وستذهب قوتي وستخور عزيمتي وسأستمع إلى ما تقول فأسألك ربي أن تصرف عني كيدهن, فماذا كان الجواب؟ فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم وهكذا فإن الإنسان إذا ألمّت به فتنة ينبغي أن يلجأ إلى الله عز وجل, ولا ينبغي أن يخوض هذه الفتنة بغير استعانة بالله.
انظر ماذا يقول ربنا في الذين اتقوا إذا جاءهم الشيطان وسول لهم سوء الأعمال, قال سبحانه وتعالى: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليمإن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون الذين اتقوا إذا مرّ عليهم طيف أو خاطرة من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون, وكيف يكون التذكر؟ يكون بالاستعاذة من الشيطان وبالإستعانة بالله عز وجل.
الموقف الرابع: أن التساهل من المسلمين في دخول الرجال والخدم في البيوت من أكثر أسباب وقوع الكثير من الحوادث التي تسببت في انتهاك الأعراض, قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ وهو يذكر لنا هذا العزيز الذي كان بالفعل ديوثًا, يقول الحافظ ابن كثير: كان زوجها ـ أي العزيز ـ لين العريكة وكان سهلاً أو أنه عذرها لأنها رأت أنها لا صبر له عنها, ولذلك تجرأت المرأة على أن تطلب هذا الطلب علانية بين النساء , تطلب من يوسف عليه السلام أن يفعل فيها الفاحشة, ولذلك فإن الإنسان ينبغي عليه ألا يدخل الخدم على النساء, ليتقي الله عز وجل هذا الذي يركب ابنته مع السائق فيوصل السائق ابنته إلى الجامعة أو إلى المدرسة, ما هذا؟ أين الغيرة؟ أما تغار على عرضك أيها المسلم, لا ينبغي للمسلم أن يفعل هذا, لا ينبغي للرجل أن يترك خادمه يباشر النساء أو أن يدخل عليهن, يقول : ((إياكم والدخول على النساء)) قال رجل: يا رسول الله, أرأيت الحمو؟ ـ أي قريب الزوج أيدخل على المرأة ـ قال: ((الحمو الموت)), أي: إذا أدخلت الحمو إلى بيتك كأنك أدخلت الموت على أهلك.
الموقف الخامس: في هذه القصة أن الصحبة السيئة من أسباب الوقوع في الفواحش, ألا ترى أن امرأة العزيز لما انتشرت هذه الفضيحة بين النساء ماذا فعلت النساء اللاتي كن حولها؟ شجعنها على ذلك وذهبن إلى يوسف يطلبن منه أن يرضخ لكلامها فقال يوسف عليه السلام: إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين وقال يوسف: ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن أي في اشتراكهن في هذه الجريمة.
هذا نموذج في القرآن للعفة والاستعفاف.
نموذج آخر في سيرة سلفنا الصالح: هذه القصة لرجل صالح عفيف يهاجر مع امرأة أيامًا متتالية لا أحد معهما ويضرب مثالاً عاليًا للعفة والاستعفاف, تلك هي أم سلمة رضي الله تعالى عنها تقول:
لمّا فرق قومي بيني وبين ابني, وهاجر زوجي إلى المدينة مكثت أيامًا أبكي أخرج إلى خارج داري ثم أعود إليه, فقام رجل من بني المغيرة رآني على حالي فرق لي, وقام إلى قومي وقال: ألا تخرجوا هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وابنها, قالت: فتركوني أهاجر إلى المدينة وأعطتني بنو أسد ـ قوم زوجها ـ ابني, فأخذت ابني فوضعته على حجري وركبت بعيري وسرت وليس معي أحد إلا الله, حتى إذا أتيت إلى التنعيم ـ موضع قريب من مكة تجاه المدينة ـ لقيني عثمان بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار, فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟ فقلت: أريد المدينة, فقال: أو ما معك أحد؟ فقلت: لا, قال: مالك من مترك؟ مالك من مترك ـ أي كيف أتركك تسافرين وحدك ـ فأخذ بخطام بعيرها فسار معها, قالت أم سلمة: فما رأيت قط رجل أكرم في العرب من عثمان بن طلحة, كان إذا جئت إلى مستراح أوقف بعيري وتأخر عني فإذا نزلت عن بعيري أخذ ببعيري وتأخر بالبعير فربطه في الشجرة واضطجع تحت الشجرة, فإذا حان موعد الرحيل جاءني بالبعير فترك البعير وتأخر عنّي, فإذا ركبت البعير جاء وأخذ البعير وسار بي على ذلك أيامًا متتالية حتى قرب من المدينة فرأى قرية عمرو بن أبي عوف فقال: يا ابنة أبي أمية, زوجك في هذه القرية, فقالت: فدخلت القرية فوجدت أبا سلمة, قالت أم سلمة ـ تحفظ الجميل لهذا الرجل ـ: فما رأيت رجلاً أكرم من عثمان بن طلحة قط في العرب.
هذا نموذج رائع في سلفنا الصالح في العفة والاستعفاف, الرجل لا ينظر إلى المرأة, ولا يبالغ في الحديث معها, بل يكلمها على قدر الحاجة, اركبي, انزلي, جاء البعير... على هذا النحو لا يبالغ معها في الحديث, هذه هي الرجولة حقًا, هذه هي العفة حقًا, لا أن تخضع المرأة بالحديث للرجل وأن يتكسر الرجل كذلك في الحديث مع المرأة. أهذه من العفة؟ لا, ليست هذه من العفة, وإن لكم فيهم لعبرة, وإن لكم فيهم لعظة.
أسأل الله تعالى أن ينفعنا بما سمعنا وأن يغفر لنا ذنوبنا إنه هو الغفور الرحيم.
|