عباد الله، ذكرنا في الخطبة الماضية تاريخ فلسطين منذ دخَلَها عمر فاتحًا إلى يوم الناس هذا, ولا نقول: منذ دخلها الإسلام؛ لإنّ الإسلام دخل فلسطين قبل هذا التاريخ بكثير، حيث وصل الخليل إبراهيم إليها وقابل ملِكَها الكنعاني العربيّ اليبوسيّ قبل ميلاد المسيح بألف وثمانمائة وخمسين عامًا, أي: قبل قرابة ثلاثة آلاف وثمانمائة وخمسين سنة من الآن, وإبراهيم أبو الأنبياء، وما بعث الله نبيًا بعده إلا وهو من ذريته كما قال سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [الحديد: 26], ولم يكن إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا, وإنما كان حنيفًا مسلمًا كما قال الله: وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [البقرة: 135], وقال سبحانه: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [آل عمران: 65], وأمّة الإسلام هي أولى الأمَم بإبراهيم، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 68], وإبراهيم عليه السلام ممن أخذ الله عليه الميثاق لو بعث محمد وهو حي أن يتبعه كما هو شأن سائر الأنبياء، وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 81-85].
وقبل ثلاثة آلاف سنة من الآن تقريبًا كانت القدس تحت حكم نبي الله سليمان الذي أخذ عليه الميثاق كسائر الأنبياء لو بعث محمد وهو حي ما وسعه إلا أن يتبعه, وبقيت في حكمه أربعين سنة, وقد كان سليمان حنيفًا مسلمًا, فدين الأنبياء كلهم واحد، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36]، وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45], وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25], وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 52].
ولم تزل هذه الأمة الغاصبة أمة اليهود تخالف الأنبياء وتحيد عن أمرهم, فقالوا لموسى: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة: 22], وآذوه أذى كثيرًا وقالوا له: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا [الأعراف: 129], وقالوا: آدر أي: منتفخ الخصيتين، فبرأه الله مما قالوا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب: 69], وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5].
ولم يزل هذا دينهم مع الأنبياء حتى قتلوا منهم عددًا كبيرًا, وقالوا عليهم إفكًا كثيرًا, بل وحرفوا التوراة وقالوا على الله قولاً كبيرًا وافتروا عليه الكذب، كما قال لنا ربنا في كتابه: وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30], وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64], لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران: 181].
إلى غير ذلك من بغيهم وظلمهم وقولهم على الله وعلى أنبيائه البهتان والزور والإفك الكبير وإفسادهم في الأرض، حتى سلط الله عليهم بختنصر قبل ألفين وستمائة سنة من الآن، وقد قضى الله في كتابه ما ذكره في القرآن: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء: 4-6].
وهم اليوم قد أمدهم الله بالمال والبنين وجعلهم أكثر نفيرًا, فسلاحهم كثير, ومكرهم كبير, وقد ركبوا الحمير من ساسة النصارى وأكثر متدينيهم بفعل تزويرهم وتحريفهم الكلم عن مواضعه وإغرائهم النصارى بالوعود المعسولة وتحريفهم كتاب الله الذي أنزله على أنبيائهم, فصارت إمكانيات النصارى وعَدَدهم وعِدَدهم مسخرةً في خدمة وتنفيذ مخططات اليهود الأمة الغضبية, أما هؤلاء النصارى الضالون كما سماهم الله في كتابه فهم بحاجة ماسة إلى من يهديهم من ضلالهم, ويكشف لهم أن المسلمين أولى بهم من اليهود, فمسيحنا ومسيحهم واحد وهو عيسى, أمّا مسيح اليهود فهو الدجّال, فالواجب على هؤلاء الضالين من النصارى أن يعوا ذلك جيدًا, ويتخلصوا من وعود وأوهام يهود الذين يسعون لاستغلالهم للوصول إلى مآربهم ثم يلفظونهم, فإذا بهم لقى لا قيمة لهم, إن الله يقول: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة: 82-84].
أين علماء المسلمين وحكماؤهم عن دعوة النصارى؟! أين بيان الحق للقسيسين والرهبان الذين لا يستكبرون؟! إن الأليق بهم أن يعلموا أن ما جاء به محمد هو الحق الذي يؤمن بموسى وعيسى وكل الأنبياء, لا ما جاءت به يهود الذين قال الله فيهم: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء: 155-159].
كيف تسبقنا الأمة الغضبية إلى هؤلاء الضالين كما سماهم الله؟! كيف يسوغ لأقسام العقيدة بالجامعات ومراكز الدعوة في الرابطة وغيرها من مؤسسات دعوية أن تغفل عن هذه المعاني وتشغل نفسها بزمالة الأديان وبرلمانات الأديان, ولا تعنى بدعوة خراف بني إسرائيل الضالة إلى الإسلام بالحكمة؟!
إن كثيرًا من حكماء النصارى اليوم وقسيسيهم ورهبانهم يحتاجون لمن يبين لهم دعاية الإسلام الصحيحة، ويكشف كثيرًا من شبههم، ويفضح تزييف يهود وتغريرهم، ويبين أن أمة الإسلام أولى بهم من يهود، وأنهم لا مناص لهم من الدخول في الإسلام حين يعرفون حقائقه كما هي وحين يجادلهم بها أهل العلم والبصيرة والدين والغيرة من المسلمين بالتي هي أحسن لا بالتي هي أخشن إلا من ظلم منهم وأصر وعاند بعد معرفته بالحق, أما أكثرهم فهم ضالون، وعلينا بيان الحق لهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن لنهديهم للتي هي أقوم، ممتثلين بذلك أمر الله: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت: 46].
إن حجّة الله على أهل العلم والإيمان والبصيرة قائمة في كتابه, وبما سخر من وسائل الاتصال الحديثة التي لو التفت إليها جمهرة من أهل العلم والبصيرة وخاطبوا عقلاء النصارى ورهبانهم وقسيسيهم وحكماءهم لرجونا أن يجدي ذلك ويكون أنكى في يهود حين يقلّ مساندوهم, فكيف لو خسروهم جملة وتخلّى عنهم النصارى؟!
إن اليهود من أقل الديانات في العالم انتشارًا، وقد نسخ الله دينهم بالإسلام, ولو تركوا لأنفسهم دون حبل من الناس سواء كان الناس هم النصارى الذين يسندونهم ويؤازرونهم أو من المسلمين الذين ضعفت ثقتهم بدينهم وتمسكهم به فكان ذلك سببًا في تسلط يهود عليهم, فلو انقطع حبل الناس هذا عادوا إلى طبيعتهم التي ذكرها عنهم ربنا بقوله: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ [آل عمران: 112], وحينها يعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
|