أما بعد:
فيا عباد الله: ثلاثة آلاف وسبع مائة وتسعة وثمانون قتيلاً، وواحد وثلاثون ألفا وثلاثة وثلاثون جريحا بجراح كثير منهم جراح بالغة، تلكم هي نتائج حوادث السيارات في المملكة في العام الماضي ألف وتسع مائة وخمس وتسعين للميلاد حسب الإحصائية الصادرة من الإدارة العامة للمرور، والتي نشرتها جريدة الشرق الأوسط في اليوم الثامن من شهر رجب من هذا العام وذكرت الإحصائية أن عدد حوادث السيارات مائة وثلاثة وعشرون ألف حادث وفي دارسة أخرى نشرتها الجريدة نفسه تذكر أن الحوادث المرورية في المملكة تكلف سنويا أكثر من ثمانية عشر ألف مليون ريال شملت الخاسر المادية في الممتلكات العامة والخاصة الناجمة عن الحوادث وكذلك تكاليف العلاج في المستشفيات والمدة التي يقضها المصاب في المستشفى حيث كشفت الدوائر أن ثلث أسرة المستشفيات في المملكة مشغولة بمصاب الحوادث المرورية وكذلك الخسائر الناتجة من التلف في المرافق العامة مثل الطرق والأرصفة والإشارات المرورية والسياجات المعدنية والأشجار وغيرها وكذلك المرتبات التي تصرف لأسرة المتوفي والمصاب وغير ذلك مما يشكل مجموعة أكثر من ثمانية عشر مليار ريال سنويا وبينت الدراسة أنه خلال الخمسة والعشرين عاماً الماضية وصل عدد القتلى في الحوادث المرورية ما يقارب خمسة وستين ألف قتيل ونصف مليون جريح، واعتمدت هذه الدراسة على الإحصائية الرسمية للإدارة العامة للمرور وإحصائيات المتشفيات والجهات الحكومية ذات العلاقة بموضوع الدراسة، وأضافت الإحصائية إلى أن عدد المخالفات في العام الماضي وصلت إلى مليون ونصف مليون مخالفة كان أكثرها يتعلق بتجاوز السرعة القانونية وتجاوز الإشارة الضوئية. انتهى.
فيال هول ما قرأنا ورأينا وسمعنا، إن لغة الأرقام حين تنطق تذهل السامع وتخرس المجادلين لا سيما إن كانت من قوم صادقين ولا مصلحة لهم في الكذب والتزوير قريباً من أربعة آلاف قتيل وأكثر من واحد وثلاثين ألف جريح كلهم حصاد مائة وثلاث وعشرين ألف حادث سيارة في عام واحد، خمسة وستون ألف قتيل وأكثر من نصف مليون جريح حصاد ربع مليون قرن مضت، ثمانية عشر مليار ريال التكلفة السنوية لحادث السيارات، ثلث أسرة المستشفيات يرقد عليها ضحايا حوادث السيارات يا لهول الأرقام وضخامتها، ويا ويحنا ونحن نجني مغبتها لو شئت لأقسمت باراً غير حانثاً أنه ما من أحد من الحاضرين معنا الآن إلا وله قريب أو حبيب أو صديق أو نسيب أو معرفة فذهب ضحية حوادث السيارات إما بموت أو إعاقة أو جراحة أو خسارة في نفسه أو ماله، فهلا كان ذلك باعثا لنا على التأمل والاعتبار؟ إلى هذا الحد تساهلنا بأرواحنا في هذا المضمار.
لقد جاد وأصحاب محمد بأنفسهم عن طوع واختيار لا عن كره وإضطرار ولكن في غير هذا المضمار بل في نصره العزيز الجبار حين ناداهم بقوله سبحانه: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم وبقوله سبحانه: انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فنفروا في سبيل الله مجاهدين ولشرعه ناشرين وعن دينه ذابين، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين والله يحب الصابرين، كانت الحسرة تأخذ أحدهم أن لا يكون قتل في أرض المعركة شهيداً وما ذاك إلا لأن أهدافهم واضحة وغايتهم نبيلة وسعيهم مشكور وعملهم مبرور في مجاهدة كل كفور، فكان واحدهم يجود بالنفس إن ضن البخيل بها، والجود بالنفس أغلى غاية الجود، فقاتلوا وقتلوا وصابروا وصبروا، ولولاهم ما كان في الأرض مسلموا.
جاهدوا مع نبي الله عشرة أعوام في أرض المعارك وقتل منهم في سبيل نشر الدين وإعلاء كلمة الله عدد كبير لكنهم أقل من حوادث السيارات في أعوام عشرة في بلد واحد من بلاد المسلمين اليوم، إن ضحايا غزوة بدر وأحد والخندق وهي من معارك الإسلام الفاصلة لا يتجاوزون مائة شهيد عامتهم في أحد، وهم سبعون شهيداً، فبدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان وأحد تلك المدرسة الإيمانية والعسكرية والتربوية العظية أنزل الله في شأنها تسعة وخمسين آية والخندق التي قال النبي : ((بعدها اليوم نغزوهم ولا يغزونا)) فما جرؤا على غزوة بعدها كل أولئكم لا يتجاوز حصيلة شهدائها مائة شهيد ومثلها فتح مكة وغيرها كثير.
إن أول درس يجب أن نعيه من هذه الأرقام هو أننا أحيانا نستكثر حين نُدعى للإنفاق، نستكثر الإنفاق لنصرة الدين الإنفاق بكل معانيه إنفاق الوقت وإنفاق النفس وإنفاق الجهد وإنفاق المال ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تقولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم نستكثر الإنفاق حين نُدعى إليه ونشح ونبخل ذاهلين أن ما قدر الله ذهابه منك فهو ذاهب شئت أم أبيت فخير لنا أن نبادر بالبذل والعطاء من أموالنا وأنفسنا وجهدنا وعلمنا ومالنا وكل ما منّ الله به علينا لنصرة هذا الدين وإعلاء كلمته ونشره لأهل الأرض قاطبة، فهو خير لنا في دنيانا وأخرانا.
ودرس آخر ينبغي أن نعيه ونتساءل لماذا كل هذه الأرقام وكل هذه الضحايا ومن المتسبب فيها وهل المتسبب يأثم عند الله إثم قاتل النفس الوارد في قوله تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً. وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) وفي رواية: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مؤمن من غير حق)).
وفي قوله فيما صح عنه: ((لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لكبهم الله عز وجل في النار)) وهل من تسبب في قتل نفسه يلحقه الإثم الوارد في قوله : ((من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)).
وهل من قتل في هذه الحوادث مظلوما بخطأ مروري اقترفه غيره هل يشمله قوله حين عد الشهداء من أمته وذكر منهم بقوله: ((والهدم شهيد)) وفي رواية: ((وصاحب الهدم شهيد)) ومهما يكن من شيء فإن الذي ينبغي أن نعيه ويعيه كل مسلم عاقل هو مسئوليته أمام الله عن نفسه التي بين جنبيه، إن نفسك يا عبد الله أمانة عندك لا يحل لك إزهاقها، فمن فعل فقد أتى جرماً عظيماً ينال عليه في الآخرة عذاب أليماً إلا أن يتوب الله عليه، ونفس غيرك عليك حرام إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا آلا هل بلغت؟ اللهم فأشهد أي والله لقد بلغ ولكن أين من يتعظ، صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة)) هذا في النفس أما المال فهو حرام صح عنه : ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) فتأمل يا عبد الله كم من الأثام ستجني حين تفرط في أسباب السلامة فينتج من تفريطك قتل نفس بغير حق أو إتلاف للأملاك أو الأموال الخاصة أو العامة وكلها مما حرم الله إتلافه بغير حق وكم من الحسرة ستلاحقك طوال حياتك إن كان قلبك حي، حين تسبب في قتل عائل لإسرة كاملة ينتظره الشيخ الكبير والعجوز والطفل الصغير، فتكون سببا في هلاكهم وحرمانهم باستهتارك أو تفريطك بالأخذ في أسباب السلامة، نعم إن ما قدره لابد أن يكون ولكن حين يقع القدر، وقد عملت الأسباب يرحمك كل محب ويشفق عليك كل صديق ويعوضك الله خيراً.
ولكن حين يقع القدر وأنت مفرط بالأخذ بالأسباب تكون موضع اللوم والعتب في الآخرة والأولى، إن الله سبحانه وتعالى حين قال: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله وقال: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها حين قال ذلك قال معه: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير فلنعي هذا جيداً ولنحذر التفريط فما ندم من عمل بالأسباب نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. |