أيها الأحبة الكرام:
يقول الله في كتابه الكريم: ولقد كرمنا بني آدم [الإسراء:70]. ومن أعظم صور التكريم أن الله اصطفى واختار منهم أنبياء وشهداء، وختم الأنبياء ببعثة محمد وفتح باب الشهداء إلى آخر الزمان يوم أن ختم تلاوته الكريمة بدعائه بأن يرحم الله الشهداء ويفك الأسرى فإن تكريمهم هذا من الله.
أحبتي في الله:
أصبح الجيل المسلم لا يُفكر في الشهادة، لا يفكر في أعظم صورة من صور التكريم الإلهي للإنسان، ولو ناقشت ابنك أيها المسلم في كل مكان عن الشهادة ومن هو الشهيد؟ وماله عند الله؟ وما هم الشهداء في أمة محمد لما عرف الجواب لأنها قضية قد غابت وتلاشت في حس الجيل المسلم وصارت همومه صغيرة، وقد خرج عُمير بن أبي وقاص أخو سعد رضي الله عنهما إلى بدر بإعادة المجاهدين الصغار إلى المدينة يستسخرهم للفتوحات الإسلامية الكبرى، بكى عُمير قال: ما يبكيه قال أخوه سعد: والله يا رسول الله ما خرج من المدينة للقافلة إنما خرج من المدينة يريد الشهادة في سبيل الله فلا تحرمه الشهادة في سبيل الله يا رسول الله، فلما سمع ذلك النبي أكبر عندهُ هذا الشعور العظيم الإيماني الكبير فأذن له على صغر سنه ونحافة جسمه حيث أن سعداً يقول أخذ أربط حمائل سيفه على بطنه فلا تقواه فتنزل لأنه كان نحيف يجر سيفه خلفه وله همةٌ عظيمة أعلى من قمم الجبال ولا يطيقها أعظم الرجال، إنه لم يذق من شهوة الدنيا شيئاً، لا يزال طفلا صغيراً يخرج إلى مسافة بعيدة الأقطار يريد الشهادة لأنه سمع الله وسمع رسوله يحدثه عن الشهادة ومنازل الشهداء، وما عند الله للشهيد، فكان من أوائل الشهداء في غزوة بدر ورحمه، وجدير بأبنائنا أن يحفظوا اسمه، وأن يكون لهم قدوة وأسوة، الله جل جل جلاله يقول في قرأنه العظيم وهو يكرم الإنسان بهذه الصفة العظيمة ويتخذ منكم شهداء [آل عمران:140].
وأمرنا ألا نسميهم أموات، إنما نسميهم شهداء أحياء لأن الشهداء شهدوا أن الله حق ولابد من نشر دين الحق، فإذا اعترضه معترض بذل دمه ووقع بروحه، وقال: دمي يشهد بأن الله أعظم وأجل من أن يتراجع الإنسان في تبليغ دينه ودعوته، وبهذا سُمي الشهيد شهيداً، ومع الأسف اليوم من أجل أدنى مصلحة ولو بعض الربا البسيط لا يُفرط فيه، ولو ضاعت دنياه وأخراه، فكيف لهذا أن يصل إلى درجة الشهيد والشهداء، إنها مرحلة خطيرة وفجوة كبيرة، اتلوا على حضراتكم الآيات والأحاديث التي تبين هذه الكرامة وهذا الإكرام الإلهي ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون [البقرة:154]. لا إله إلا الله والرسول في يوم من الأيام جلس مع الصحابة وطرح عليهم هذا السؤال الذي يجب أن يطرحه كل والد الآن وغداً وإلى الأبد على أبنائه خاصة الجيل المسلم، قال : ((ما تعدون الشهداء فيكم؟ قالوا يا رسول الله من قُتّل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل)) – لعلمه أن الناس يُحبون الدنيا ويخافون من الموت، ثم أعطى صفحةً جديدة لشهيد لم يعرفها أحد من قبل-: قالوا فمن يا رسول الله قال: ((من قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سيبل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد – أي بمرض بطني – والغريق شهيد)).
ثم يأتي حديث آخر عن المرأة النفساء التي تموت في نفاسها فهي شهيدة، والحريق شهيد والغريق شهيد، وصاحب الهدم الذي يقع عليه الهدم شهيد، ثم يبين في حديث آخر كوكبة من الشهداء جديدة حتى يبين عزّة هذه الأمة ومكانتها فيقول: ((من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد)).
ثم يبين الحبيب المحبوب أن للشهيد عند الله ست خصال: يُغفر له عند أول دفعة من دمه، ويرى مكانه في الجنة، ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خيرٌ من الدنيا وما عليها، ويزوج ثنتان وسبعون زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أهله.
وحديث آخر رواه البخاري: ((يعطى الشهيد ستة خصال: عند أول قطرة من دمه تُكفر عنه خطاياه، ويرى مقعده من الجنة، ويزوج من الحور العين، ويؤمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر))، ثم يقول : ((ويُحلى حُلة الإيمان)).
أحبتي في الله:
والناس لماذا لا يسألون الله الشهادة؟ لأنهم يظنون أنها تُنقص من أعمارهم وتقرب من آجالهم، والآجال عند الله معروفة محدودة لا تزيد ولا تنقص، بل أن سؤال الله الشهادة عبادة وأنتم تعلمون بأن العبادة تزيد في العمر وتبارك فيه، فالعظماء من المجاهدين ضربوا جحافل الجيوش، وخرجوا بعد ذلك أحياء.
وهذا سيف الله المسلول خالد بن الوليد يقول: خُضت أكثر من مائة معركة، وما في جسمي موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة رمح، وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا قرت أعين الجبناء، يقول للروم والفرس: جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون الحياة، ويقول مطمئناً من يقع شهيداً بأنه لن يحدث له إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة.
ثم يقول : ((ما من أحد يدخل الجنة يُحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع للدنيا فيقتل عشرات المرات لما يرى من فضل الشهادة)).
وإن فات كثيراً من المسلمين اليوم مواطن الشهادة فإن إخواننا هناك في القدس والأقصى يقرعون بجماجمهم باب الشهادة عند الله بثباتهم أمام العدو، وإن هناك من إخواننا الكثير ممن يتمنى أن يموت شهيداً في سبيل الله.
أيها الأحبة الكرام:
فتح الحبيب الباب للرجل والمرأة للمُسن وللشاب الكبير والصغير للمجاهد وللقاعد فتح باب الشهادة يوم أن قال: ((من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه))، إذن لا يغب عنا ونحن على فُرشنا ونأتي إلى أبنائنا نهدهدهم ليناموا نقول لهم قولوا: اللهم إن نسألك الشهادة صادقين مخلصين برحمتك يا أرحم الراحمين كل ليلة فإذا قبل الله ذلك رأيت أبناءك وأحفادك، رأيتهم مع حمزة سيد الشهداء، ورأيتهم مع مصعب بن عمير الذي قُطعت يداه وهو يحمل راية رسول الله في أُحد، ورأيته مع زيد بن حارثة وجعفر الطيار الذي يطير في الجنة بجناحين مُدرجين.
أيها الأحبة:
إن هذا الدعاء العظيم والناس عنه في غفلة مع الأسف الشديد، الطفل والولد والبنت تفكر عند نومها: ماذا تأكل؟ ماذا تلبس؟ وماذا تشرب؟ وماذا تلعب؟ أما أنها تسأل الله هذه المنزلة العالية، فإن كبار الرجال عنها في غفلة فضلاً عن الصغار من الأطفال، أيقظوا حب الشهادة في قلوب أبنائنا، أيقظوها على أسرة المرضى في المستشفيات، أيقظوها عند النساء وهن يذهبن إلى الأسواق يبحثن عن الماركات، أيقظوها عند البنات في المدارس ولا همّ لهم إلا المكياج، أيقظوها هذه المرتبة السامية العالية التي كانت في حس كل طفل في المدينة المنورة، يوم أن عاد جيش مؤتة وعدده ثلاثة آلاف وجيش الكافرين عدده مائتي ألف عادوا بعد الانسحاب والاستشهاد للأمراء الثلاثة زيد، وجعفر، وابن رواحة رضي الله عنهم أجمعين عاد الجيش منسحباً لأن المعركة غير متكافئة، ومع هذا اُستشهد منهم ما يقرب من 14 ولكن الأطفال في المدينة رفضوا استقبلوهم بالحجارة، انتفاضة الحجارة بدأت في المدينة، في وجوه من؟ في وجوه خالد بن الوليد ومن معه من الجيش، الأبناء رفضوا الأباء وقالوا: والله لا تدخلون بيوتنا والنساء قالوا: والله ما تدخلوا بيوتنا، إنما أنتم الفرار، وأخذ الآباء ويؤولون إلى المسجد ويلوذون بالأشجار والأحجار لأن الأطفال رفضوهم لأنهم فروا أمام الرومان حتى قال : ((كلا إنهم ليسوا بالفرارين، بل هم المكارون إن شاء الله))، وكر عليهم يوم أن قاد جيش معركة تبوك ويوم أن أرسل قبل موته أسامة بن زيد لمحاربة الرومان.
أيها الأحبة:
هكذا يكون الجيل حياً يقظاً يوم أن تكون الشهادة في حسه عندما ينام وعندما يلعب وعندما يأتي وعندما يذهب، عند ذلك تكون الأمة بخير، والرسول حذر أمته أن تكون غُثاء كغثاء السيل: ((قالوا: أومن قلة نحن يا رسول الله، قال: بل أنت كثرة ولكن يجعل الله في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)).
ويقول الله في كتابه الكريم: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً [آل عمران:196]. لا خوفٌ عليهم مما هو آت، ولا حُزن على ما فات، ولو كانت الدنيا كلها، ويستبشرون بمن يأتيهم ومن ويزورهم.
يبين الله في كتابه الكريم برحمة من الله وفضل الاستبشار بالرحمة خير من الدنيا وما عليها، لهذا يقول الله عند هذه الأمور: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فيفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون [يونس:58]. يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين [آل عمران:171]. برحمة أجرهم عند الله عظيم، ومنها أن كل الناس يموتون فتنقطع أعمالهم يقول: ((إلا من ثلاثة، ولد صالح يدعوا له)) – والولد الصالح مصيره الموت – ((والعلم ينتفع به)) – وقد يأتي عليه زمان يندثر – ((والصدقة الجارية)) وقد يأتي طاغوت يعطل جريانها، ثم ماذا بقي بعد ذلك؟ بقي ما للشهيد الشهيد ينمي له عمله، إلى منقطع أثره إلى قيام الساعة، فالعمل جارٍ الصلاة تكتب، والزكاة والعمرة، كل ذلك وهو في قبره، في عالم الشهداء، هل هناك فضلٌ أعظم من هذا، فلا تزهدوا واسألوا الله كل ليلة هذا الدعاء منازل الشهداء، سبحانك لا رب غيرك، ولا إله سواك، نسألك نصرك للمجاهدين.
|