أما بعد:
روى أبو داود في سننه بسند صحيح عن أبي هريرة، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)).
ذكرت في الأسبوع الماضي بأن الوحي قد انقطع من السماء بموت المصطفى صلى الله عليه وسلم. فلم تعد تتفتح السماء لنزول الوحي على بشر بعده عليه الصلاة والسلام.
لكن هل يعني هذا بأن الأمة تاهت وضاعت ولا أحد يعرف الحق بعد موته عليه الصلاة والسلام؟ أبداً، فإن رحمة الله جل وتعالى باقية، ودائمة ما بقي الليل والنهار.
فمن رحمة الله بهذه الأمة بأن جعل لها بعد نبيها ورثة، يأخذون بأيدي الناس، ويهدونهم إلى طريق الحق.وقد أوقفوا أنفسهم في خدمة هذا الدين، فكانت خطبة الجمعة الماضية: وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون.
وأيضاً: إضافة إلى ما سبق، فمن رحمة المولى تبارك وتعالى بهذه الأمة، التجديد على رأس كل قرن، فإن هذا من المبشرات العظيمة، التي بُشرت بها هذه الأمة ((أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)).
فحين أغلق باب النبوة فتح باب التجديد لهذه الأمة، وهذا الباب ممتد في شعاب الزمن إلى قرب قيام الساعة.
إنها لبشرى عظيمة، تبعث الأمل، وتحدد الحيوية لمن تأمل واستشعر هذا النص النبوي الكريم. إن هذه الأمة لن تموت أبداً بإذن الله عز وجل.
وكلما بعد الناس عن الدين، وكلما زاد الانحراف هيأ الله عز وجل أحد أسبابه، فأنقذ هذه الأمة من الغرق، ومنها هذا المجدد الذي يبعث على رأس كل مائة سنة، فيحيي ما اندرس من أمر الدين، ويعيد الناس إلى الجادة بعد أن تعرقلت مسيرتهم.
نخلص من هذا بأن التجديد شريعة قائمة، وقدر نافذ لابد أن يقع، ولابد أن يحصل، فإنه خبر المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وكل ما أخبر به الرسول أنه سيقع، فلابد أن يقع.
هذا أيها الأخوة قدر الله عز وجل، ومشيئة الله متحققة وقدره نافذ، فلا يمكن لأية قوة على وجه الأرض أن تحول دون وقوع التجديد.
فمهما حاول أعداء الدين، والحاقدون على هذه الشريعة أن يمنعوا من التزام الناس بالإسلام، ومهما وضعوا من عراقيل في سبيل وصول صوت أهل السنة والجماعة إلى الكافة، وسخروا في سبيل ذلك أموالهم وطاقاتهم، فإن الخير يجد له سبيلا، والدعوة تجد لها نافذاً تنفذ منه بأمر الله جل وتعالى.
إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون.
في بعض الأحيان تجد أن أعداء الشريعة، يجلسون سنوات وسنوات، وهم يخططون، في بلد معين، أو في مكان معين، يخططون لنشر فسادهم وخبثهم ونتنهم، ويضعون البرامج.
وفي الغالب تكون لهم شوكة وغلبة وسلطة في تلك الجهة، وقبل أن يضربوا ضربتهم، تجد أن الله عز وجل، يهدم كل ما بنوه فوق رؤوسهم ويخرج أناس كانوا يعدونهم من البلهاء، ولم يحسبوا حسابهم، فإذا بهم هم أصحاب الزمام وهم أصحاب التأثير، كيف حصل هذا، ومن أين خرج هؤلاء ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)).
وتأمل معي أخي المسلم الفارق، تجد أن أصحاب الشر والفساد عندما يخططون لنشر باطلهم وأفكارهم، الغالب أنها شهوات شخصية، تجد أن لكل واحد منهم مطمح يريد أن يصل إليه، إما شهوة عاجلة، أو مركز، أو أي شيء آخر، فهو عندما يفكر للفساد، يفكر لنفسه ولشهوته، ويريد أن ينتشر الباطل والفساد الذي يرغبه هو. فتجد أن المحدودية والأنانية تسيطر على هذا النمط من التفكير.
بينما الذي يعمل لتجديد شيء من الدين تركه الناس، فهو يعمل للأمة، وتفكيره على مستوى الأمة، وهذا هو ما يستوقف المتأمل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يبعث لهذه الأمة))، فهذا المبعوث، أو هذا المغيّر أو هذا الساعي للإصلاح لم يعد همه نفسه فحسب، بل تجاوز ذلك ليعيش لهذه الأمة فهو قد تعدى نطاقه المحدود إلى الأفق الأوسع ليؤثر في مجريات الأمور والأحداث من حوله. وليقود خطوات الأمة المسلمة في معركة الحياة. فهل عرفت الفرق أخي المسلم.
الفرق: أن ذلك الشهواني المفسد، أو العلماني المخرب، أو الشيوعي الملحد، تجده وهو يفكر لنشر مذهبه لا ينسى حظه بالنصيب الوافر، أما المسلم الذي يهمه تجديد ما اندرس من معالم الدين، في حياة الناس، تجد أنه لا يقنع باليسير ولا يرضى بالدون، فيكتفي بحفظ نفسه أو من تحت يده، بل قد تعاظمت همته، واشتدت عزيمته، فصار لا يطيق صبراً على الفساد والانحراف وصار يهمه أمر الإسلام في كل مكان، ونسى نفسه، لم يعد لذاته قيمة لو صلح أمر الدين، مستعد أن يضحي بكل ما يملك من مال وولد في سبيل أن يرى شريعة الله مرفوعة محكمة في رقاب الناس وإن أدى ذلك إلى خسارة نفسه.
لقد أقلق قلب المجددون تسلط الظالمين المفسدين وتوجيههم للحياة وفق ما يريدون، فآلوا على أنفسهم أن يزاحموهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
أيها المسلمون: عندما نقول: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها.فإن هذا لا يعني أن يجلس المسلمون ويضعوا خدودهم على أيديهم، وهم ينتظرون المجدد، إن هذا لا يعني أن يرى المسلمون المنافقين وهم يعبثون في بلادهم، ثم هم يتفرجون، ينتظرون الفرج.
إن حديث المجدد لا يعني أن يترك المسلمون الساحة لغيرهم من خصوم الإسلام، من أي ملة كانوا، ومن أي نحلة نبتوا، أن يتركوهم يدغدغون عواطف المرأة من جهة، ويوجهون الإعلام من جهة أخرى، ويهلكون اقتصاد الأمة من جهة ثالثة، ورابعة، وخامسة، وعاشرة، وهم يضعون رجلاً على رجل، ويقولون ننتظر المجدد، المجدد يا أخي، لا يحي الموتى، ولا يحرك الجماد، المجدد ليس خارقاً من الخوارق، يحرك الأمور بأشعة الليزر، أبداً، المجدد بشر من هذه الأمة، لكنه يتزعم تياراً متدفقاً من أهل الإيمان والتقوى وطلبة العلم والعلماء.
المجدد لابد أن يكون وراءه سيل من الفكر الصحيح، والوعي السليم، والنضج المتكامل على وفق منهج أهل السنة والجماعة.
فعمر بن عبد العزيز المجدد الأول لهذه الأمة لم يكن وحده، والإمام الشافعي المجدد الثاني لهذه الأمة، على رأي من قال ذلك لم يكن وحده، وشيخ الإسلام لم يكن وحده، كل هؤلاء وغيرهم من المجددين، كانت الأمة من ورائهم، وكان أهل العلم والدين يؤيدونهم، وكانت عامة الناس تتعاطف معهم.
إذاً مهمتنا عظيمة أيها الأخوة، والدور المطلوب من كل واحد، تجاه رفع الأمة وبإصلاح الأوضاع، وتغيير الواقع، دور عظيم.
لم يقل أحد بأنك أنت - أخي المسلم - أنت المجدد لهذا القرن، فجميعنا قدراتنا محدودة وطاقاتنا محدودة، ولا يمكن لفرد منا أن يصحح ما فسد من أوضاع الأمة، لكن بإمكان كل واحد، أن يكون من وراء المصلحين على أقل تقدير، بإمكان كل واحد منا أن يكون عوناً وسنداً وصفاً للمجدد إذا ظهر أو لغيره ممن يريد الإصلاح للأمة، كن دائماً على استعداد أن تساهم وأن تبذل في كل باب من أبواب الخير إذا جاءك النداء، وفي هذا لا عذر لأحد منا إذا تقاعس عن تقديم ما بإمكانه أن يقدم.
إن حديث المجدد أيها الأخوة، له جانبان:
الجانب الأول: الجانب القدري فهو خبر عن وعد إلهي لابد أن يتحقق، لا يمكن أن يتخلف بأي حال من الأحوال، وهو بهذا الاعتبار من البشارات النبوية العظيمة، فالتجديد قدر، ومن ذا الذي يستطيع أن يرد قدر الله، مسكين هذا الذي يفكر في ذلك فضلاً عن أن يحاول، حاله أشبه ما يكون بالذي يريد أن يفتت الجبل فينطحه برأسه.
الجانب الثاني: الجانب الشرعي، فحديث المجدد حديث تكليف، فهو مع أنه حديث تشريف، وفيه من البشرى ما فيه، لكن بجانب هذا التشريف فهو تكليف، تكليف لهذه الأمة عامة وللقادرين خاصة، من العلماء وطلبة العلم وشباب الدين والإيمان أن يؤدي كل فرد منهم الدور المنوط به.إننا مكلفون جميعاً أيها الأخوة، ومسؤولون أمام الله عز وجل عن هذا الإسلام.
ولعلي أفصل إن شاء الله في مناسبة قادمة ما هي المسئولية الفردية بالتجديد على كل فرد منا.
فأقول بأن حديث المجدد تكليف وطلب لهذه الأمة، فمن كان عنده علم فليظهره ومن كان صاحب قلم فليكتب، ومن كان لديه طاقة فليبذلها، ومن كان صاحب همة ودعوة ونشاط فليعمل، ومن كان له موقع فليستثمر ذلك الموقع في أمر أو نهي أو إصلاح.
ومن لم يكن صاحب هذا ولا ذاك، فعلى أقل تقدير هو صاحب أذنين، فليسمع من غيره من طلبة العلم، وليتبع، ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسولُ عليكم شهيدا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم.
|