أما بعد:
إن الناس يقاسون ويوزنون ببواطنهم لا بمظاهرهم ،بحقائقهم لا بصورهم، عن سهل الساعدي رضي الله عنه أنه قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: ((ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إذا خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله. قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل فقال له رسول صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من مل ء الأرض من مثل هذا)).
هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا، هذا هو المقياس أيها الأحبة، هذا الصحابي الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم قاس الأمور بما نقيس نحن الناس عليه اليوم، الذي يقدم الرجل الشريف صاحب المال والجاه والمركز، هو الذي ينكح وهو الذي يسمع له وهو الذي يلفت الأنظار وأما ذلك الفقير الصعلوك المعدم لا يأبه له، ولا ينكح ولا يزوج ولا يسمع له.
فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يغير المفاهيم وأن يصحح الأفكار فقال: ((إن هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا)).
تبا لأمة لا تعرف لمن تسمع، ولا تعرف لمن تنصت، وتبا لمجتمع تسمع لمن لا يحسن القول وتعرض عن أهله وأربابه.
إنها كلمات النبوة في حروف من نور، تحرق ظلمات وموازين الجاهلية الفاسدة.
فليست القضية أن تجعل حولك هيلمان وصولجان وفخفخات وخدم وحشم، فربما كل هذا وما تملك وعشرات أضعافه لا يزن عند الله نفس رجل فقير تقي طائع لله.
ثم هل نعلم بأن نصر هذه الأمة مرتبط بالضعفاء وبالفقراء، وبمن لا يأبه لهم حسب موازين الناس الظاهرية اليوم.
نعم إن نصر هذه الأمة ليس بأغنيائها ولا بأقويائها ولا بزعمائها ولا بسلاطينها، إنما نصرها كما أخبر الصادق المصدوق بضعيفها.
روى النسائي بسند صحيح عن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)).
وهل جر علينا ما نحن فيه من الهزائم والويلات والكوارث والمصائب إلا غياب تعظيم دعوة وصلاة وإخلاص الضعفاء.
وهل جر على الأمة ما هي فيه من ذلة ومهانة إلا بعد ما انقلب في حسها موازين الظاهر والباطن، مقاييس الصورة والحقيقة، أصبحنا نقوم الرجال بغير مقاييس الشرع، ونقدم الناس بغير تقديم الشرع لهم، إذا فلنذق ما عملته أيدينا.
لقد تنبه الشاعر الجاهلي لهذا قديما أكثر مما تنبه له بنو قومي الآن، فقال عباس بن مرداس قديما:
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفـي أثوابه أسـد مزيـر
ويعجبـك الطريـر فتبتليـه فيخلف ظنك الرجل الطرير
فما عظـم الرجال لهم بفخر ولكن فخرهم كـرم وخيـر
بغاث الطير أكثرها فراخـاً وأم الصقر مقـلات نـزور
ظعاف الطير أطولها جسوما ولم تطل البزاة ولا الصقور
لقد عظم البعيـر بغيـر لب فلم يستغن بالعظـم البعيـر
يصرفه الصغير بكـل وجه ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهـراوى فلا غيـر لديـه ولا نكيـر
فإن أك في شـراركم قليلا فإني في خياركـم كثيـر
هذه هي الموازين الحقيقية، إنها ليست بشيء إلا بما في داخل قلب العبد حتى الكثرة التي يظنها بعض الناس مقياسا في المجالات العسكرية ليس بصواب قال الله تعالى: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين لقد اختل هذا الميزان عند الصحابة وقاسوا الأمور بظواهرها وذلك في غزوة حنين ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً فقالوا: لن نغلب اليوم من قلة، فأدبهم الله عز وجل وصحح هذه القضية لديهم، فهزموا في أول الأمر وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وولوا مدبرين، فثبت القلة وصمد أمام العدو، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين، هذه هي الحقائق والبواطن أيها الأحبة وتلكم كانت الصور والظواهر فنسأل الله جل وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا. |