أما بعد:
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ،وبدأ في وضع قواعد الدولة الجديدة ،وكان أهل المدينة عندما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: المسلمون من الأنصار ،والمنافقون ،واليهود، وكان المنافقون واليهود لا يعنيهم شأن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يلقون له بالاً ،ويظنون أنه عما قريب سيُقتل ويهزم وينتهي أمره.
مضى الشهر الأول ،ثم الثاني ،ثم الخامس، ثم العاشر ،ثم انتهت السنة الأولى ،ودخلت السنة الثانية، وحدث ما لم يكن في الحسبان ،حدث ما لم يتوقعه المنافقون واليهود ،التقى المسلمون مع كفار قريش من غير ميعاد ،فكان يوم الفرقان ،غزوة بدر ،وانتصر النبي صلى الله عليه وسلم على من آذوه وأخرجوه ،فتبعثرت أوراق اليهود المنافقين في المدينة ،وحصلت ربكة غير طبيعية ،وبدأت الجلسات السرية ،والمباحثات حول هذا الحدث ،وشعروا منذ تلك اللحظة، بخطورة هذا الكيان الجديد ،وبدأت العداوة العملية للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين في المدينة.
بدأ معسكر الكفر ،وقد اجتمعت أجنحة المكر الثلاثة اليهود والمنافقون ومشركو مكة ،وأظهروا عداوتهم الشديدة بعد غزوة بدر ،قال الله تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا وانبرى شعراء اليهود في هجاء المسلمين والوقيعة في أعراضهم ،وهو ما نسميه اليوم الحرب الإعلامية على الدعوة.
ولم يسلم حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان على رأس هؤلاء اليهود رجل يسمى كعب بن الأشرف، هذا اليهودي لما بلغه خبر غزوة بدر، وعلم بهزيمة المشركين قال: والله لئن كان محمدٌ أصاب القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.
فلما تيقن عدو الله الخبر ،خرج إلى مكة بنفسه ليواسيهم في مُصابهم، فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي ،وكانت زوج المطلب السهمي هي عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية.فأنزلته وأكرمته ،فجلس عندهم يقول الأشعار وينوح على قتلى المشركين ببدر ،ومن ذلك قوله:
ولمثل بدر تستهل وتدمع
|
|
طحنت رحى بدر لمهْلكِ أهله
|
وأنشد الكثير من شعره يحمس أهل الكفر ويؤلبهم على النبي صلى الله عليه وسلم،. فبلغ ذلك شاعر الإسلام حسان بن ثابت رضي الله عنه ،فانبرى له حسان فهجاه وهجى المطلب وزوجته عاتكة ،فلما سمعت عاتكة بأبيات حسان طردت كعب من بيتها. وكان ممن رافق كعب إلى مكة شيطان خيبر حيي بن أخطب فقال أهل مكة لحيي وكعب: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد ،فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا نحن نصل الأرحام وننحر الإبل ونسقي الماء على اللبن ،ونفك الأسير، ونسقي الحجيج. أما محمد فصنبور ،قطع أرحامنا واتّبعه سرّاق الحجيج ،فنحن خير أم هو؟ فقالا: أنتم خير وأهدى سبيلا. فأنزل الله تعالى قوله: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا.
وقد بذل كعب بن الأشرف قصارى جهده في تحميس المشركين لقتال المسلمين مرة أخرى ،حتى إنه كان يحالفهم عند أستار الكعبة (الفتح7/337). ورجع بعد ذلك إلى المدينة ،وأخذ يقول الشعر يتغزل بنساء المسلمين ،وأمعن هذا اليهودي الخبيث - وكل اليهود خبثاء - في هجاء النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما فاض الكيل ،وطغى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من لكعب بن الأشرف فقد آذى الله ورسوله. فقام محمد بن مسلمة من بين الصحابة فقال يا رسول الله: أتحب أن أقتله؟ قال: نعم)). وإنما أحب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأمرين: أولاهما: لأنه قد آذى الله ورسوله. وكل من يؤذي الله ورسوله فالمصطفى صلى الله عليه وسلم يحب قتله.
الثاني: لأن كعب خالُ محمد بن مسلمة.
وكعب بن الأشرف عربي النسب من قبيلة طئ، قبيلة مشهورة ،لكن أباه تزوج بيهودية في المدينة ،فأنجبت له كعباً ،ونشأ في حجر اليهود ،ظاهره عربي أصيل، لكن قلبه يركع تحت عرش اليهود.
رجع محمد بن مسلمة ،ومكث ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب، ويفكر في كيفية إراحة المجتمع من هذا العنصر السيء المخرب المفسد.
رجع محمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يستشيره في الأمر ،فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم لا تعجل حتى تشاور سعد بن معاذ. وكان سعد منظراً ذكياً ،فقال سعد لمحمد: اذهب إليه واشتكي إليه الحاجة ،وسله أن يسلفكم طعاماً.ثم قال محمد بن مسلمة: يا رسول الله فأذن لي أن أقول فيك شيئاً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((قل ما بدا لك فأنت في حل من ذلك)).
تأمل هذه النفسية العالية من محمد بن مسلمة ،يجد الحرج من أن ينال من الإسلام وأهله وهو في حالة حرب، وفي موطن خداع، وقد أباحت له الشريعة ذلك. أفلا يتقى الله أولئك الذين صار دينهم هو الطعن في الناس ،واتهام الآخرين ،واتهام النيات ،والنيل من أهل الإسلام ودعاته، ويدّعون التقرب إلى الله بهذا الصنيع. فإنا لله وإنا إليه راجعون. انطلق محمد بن مسلمة وذهب معه أبو نائلة وهو أخو كعب بن الأشرف من الرضاع. فأتى ابن مسلمة إلى كعب في حصنه، فقال له: إن هذا الرجل (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قد سألنا صدقةً ،ونحن لا نجد ما نأكل، وإنه قد أتعبنا وشق علينا ،وإني قد أتيتك أستسلفك ثم تكلم أبو نائلة فقال: لقد كان قدوم هذا الرجل علينا بلاءً ،عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وقطعت عنا السبيل حتى ضاع العيال ،وجهدت الأنفس ،فقال كعب: لم تروا شيئاً كثيراً بعد ،وهذا قليل من اتباع هذا الرجل.
فلما رأى ابن مسلمة أن الحيلة قد انطلت على كعب. قال: إنا قد اتبعناه ولا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين. فقال كعب: وأين طعامكم؟ قالا: أنفقناه على هذا الرجل وعلى أصحابه. فقال كعب: أسلفكم ولكن ارهنوني.قالوا وأي شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب تُعجب بك النساء. فانتشى لسماع هذا الكلام وأعجبه هذا المديح. فقال: فارهنوني أبناءكم قالوا: كيف نرهنك أبناءنا؟ وفي هذا عار علينا ،وستتكلم العرب ،لكن نرهنك سلاحنا مع علمك بحاجتنا إليه. قال: نعم ،وهذه الحيلة أيضاً انطلت عليه. فقال أبو نائلة ،إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي إن أردت آتيك بهم. أراد أبو نائلة ألا ينكر كعب السلاح إذا جاءوا به.
تم الاتفاق بين الطرفين على أن يأتوه بالسلاح ليأخذوا منه الطعام. رجعا إلى المدينة رضي الله عنهما وأخبرا الرسول صلى الله عليه وسلم بما جرى ثم أخذوا ما أرادوا من السلاح والرجال فلما أرادوا الرجوع إلى كعب قام معهم النبي ومشى معهم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم فقال: ((انطلقوا على اسم الله ، ثم دعا لهم: اللهم أعنهم)).
رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته وكانت ليلة مُقمرة ،فانطلقوا حتى أتوا حصنه.وكان معهم عباد بن بشر والحارث بن أوس ،وأبو عبس بن جبر ،رضي الله عن الجميع، فرقة لمكافحة وإبادة العناصر الشريرة في البلد، فهتف أبو نائلة وصاح من تحت الحصن: يا أبا سعيد كنية كعب بن الأشرف. فقال: سامعاً دعوت.وكان كعب حديث عهد بعرس فوثب لما سمع النداء من تحت ملحفته ،فدعاهم إلى الحصن ونزل إليهم ،فقالت له امرأته ،أين تخرج هذه الساعة؟ فقال: إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة. فقالت له: انت امرؤ مُحارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة ،فقال كعب: إنه أبو نائلة لو وجدني نائماً ما أيقظني فقالت المرأة: والله إني لأعرف في صوته الشر، وإني أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم. فتعلقت به الزوجة ،لكن مع كل هذه النذر نزل إليهم في ظلام الليل ،ليقضي الله أمراً كان مفعولا، وجلست المرأة ترقب ما عسى أن يكون ،فلما نزل إليهم ،جلس وتحدث معهم ساعة ،وكان قد نزل إليهم متوشحاً بوشاح ،وهو ينفح منه رائحة الطيب.ولما إطمأن إليهم ،قالوا له: هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه؟ قال: إن شئتم فخرجوا ومشوا ساعة. وهذه أيضاً انطلت عليه.
وهكذا أيها الأحبة ،لو كتب الله شيئاً ،وأراد المولى حدوث شيء فإنه يهيئ لها الأسباب. وتفوت أتفه الأشياء على أكابر الرجال والعقول، وتتعجب كيف انطلت كل هذه الأمور على مثل كعب.
إنها إرادة الله وتسخير جنوده لحفظ دينه. إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
|